خرافة الإرادة الشعبية .. وماذا جنينا منها؟

في البدء دعنا نطرح السؤال التالي: ما هو مقدار الصلاح الذي جنته بلدان الربيع العربي جراء تفتح أزهار الإرادة الشعبية في مقابل نسبة الخراب والدمار والإنهيار؟ هذا إذا سلمنا بوجود نسبة صلاح على الأرض أساسًا. من ثم ينبغي تقييم مستوى صواب الإرادة الشعبية انطلاقًا من هذا المعيار.

فلنأخذ مثالًا صارخًا على ضحالة الإرادة الشعبية وهو المثال المصري المتجسد في ثورة 25 ينايرالتي طالبت الإرادة الشعبية من خلالها بتغيير النظام، وقد حصل. فما هو البديل الذي قدمته الإرادة الشعبية؟ وكم لبث في الحكم؟
لم يكن غريبًا على إرادة المسحوقين – كما يخبرنا التاريخ وهو خير مخبر – أن تختار بين اثنين: إما شيوعي/اشتراكي أو إسلامي. وفي مصر كان الخيار واضحًا، فبعد أن قام الضباط الأحرار بالإطاحة بوثن الشيوعية قبل أن يكتمل تشييده في مصر، برز قطبي الإخوان المسلمين والعسكر ليتصدروا المشهد السياسي المصري. بيد أن حماقات الإخوان وجرائمهم التي ارتكبوها لم تترك مجالًا أمام خصومهم لتمكينهم من مصر، بدءًا من عمليات الاغتيال التي طالت أحمد ماهر باشا، وأحمد الخازندار، والنقراشي، وليس انتهاءً بفرج فودة وآخرون. ولن نمر على التفجيرات والعمليات الإرهابية لأنها أكثر من أن تُحصى وتُذكر في معرض حديثنا هذا.
كانت القنوات الإعلامية الإخوانية قد دأبت إبان الثورة على تصوير المؤسسة العسكرية بوصفها “مؤسسة مبارك” التي لا تنتمي إلى الشعب أكثر منها إلى الحاكم – وهكذا تم أدلجة الإرادة الشعبية على صراع بين الخير والشر، بين الدكتاتور والعادل، وبين الظالم والمظلوم. لكن أقلام وعدسات الإعلام الإخواني ظلت مركزة طوال فترة قيام الثورة على إبراز جانب الشر المتمثل في نظام مبارك عمومًا، ولم تفصح عن الطرف الآخر إلا بعد تنحي مبارك. وقد كانت هذه لعبة رابحة أجاد إعلام الإخوان تأديتها. فبعد تنحي مبارك وخلو الساحة من الخصوم السياسيين، تم طرح الإخوان بوصفهم ترياقًا لضعف المسحوقين، إلى جانب سردية سحق الإخوان نفسهم في وقت سابق، والتي مكنتهم من اللعب على وتر المظلومية واستغلال عاطفة الإرادة الشعبية – التي ليس بحوزتها ما يمكن استغلاله غير ذلك – وضف على ذلك بهارات دينية لتخرج بفطيرة إخوانية تُسيل لعاب الإرادة الشعبية. هناك عامل إعلامي آخر مهم، وهو الإلحاح على تغطية كل شاردة وواردة عن الثورة بواسطة إعلام الإخوان، وهو ما جعلهم – في نظر العامة – ترياقًا لضعفهم.
بيد أن هذا البديل، أي خيار الإرادة الشعبية، لم يلبث أن تمكن من الحكم حتى عاود عزف لحنه المعهود: سحق الفن، تطويع الصحافة والإعلام، تصدير نفسه نموذجًا للخلافة. إلى جانب التظاهرات التي خرجت ضد حكم الإخوان بعد ما ضاقت مصر بهم ذرعا بعد أقل من عام على توليهم للسلطة – والتي وصفها إعلام الإخوان وقياداته بأنها “خروج على الحاكم”، بينما كان يصف مظاهرات الخروج على مبارك بأنها “جهاد واجب” – فربما كانت قضايا ترهيب الفنانين هي النقطة الأبرز التي ساهمت بالاطاحة بنظام الإخوان، إذ يعلم الجميع بأن بوابة مصر العربية هي فنها بكافة صنوفه، وبينما قام الإخوان بشن حملة هوجاء لتدمير هذه البوابة – من منطلق إسلامي- والشروع بغرز أيديولوجية إسلامية لإحياء جناح الإخوان السياسي بوصفه قوة لا تُقهر،وبداية حقبة من تقويض الدين لصالح السياسة إيذانًا لبداية حكم الخلافة، نتج عن ذلك استحواذًا عسكريًا على السلطة جنّب مصر كابوسًا ما كانت لتستيقظ منه. إذ يمكننا تخيل تشكيل ميليشيات إخوانية لتنفيذ الاغتيالات والاعتقالات والترهيب – بما أن المؤسسة العسكرية لم تكن مخترقة بما فيه الكفاية على غرار المؤسسة الإعلامية لتطويعها بيدهم. ويمكننا تخيل سيناريو تخوض فيه مصر حربًا بالنيابة لتثبيت أرجل كرسي الخلافة. ويمكننا – بحسب التجارب التاريخية – تخيل نشوب حربٍ أهلية تسحق مصر ومن فيها، وفتاوى تكفيرية وجهادية وتحريضية تتخطى إطار الدولة متحصنة بالمقدس الديني.
وهكذا فأنت ترى نتائج الخضوع للإرادة الشعبية، فلا صلاحٌ تحقق، ولا حكمٌ دام، ولا وخارطة طريق واضحة وضعت ليسير عليها البلد. ربما يمكننا القول بأن ألطاف القدر قد وهبت مصر رجالًا استطاعوا تجنيبها هذا الكابوس الناتج عن التنويم المغناطيسي للإرادة الشعبية، فمصر المستقرة والناهضة حاليًا ليست من صنع الإرادة الشعبية، بل من صنع هؤلاء الرجال الذين وهبتهم لها ألطاف القدر. ورغم ذلك فإن الإرادة الشعبية لم تُعجب بهذا وراحت تطلق العبرات على حكم الإخوان الزائل. وهكذا فقد تعلمنا درسًا في عدم التعويل على تلك الإرادة التي تتحكم بها العاطفة والإيديولوجيات التي تبث عبر الإعلام، والتي لا تتحلى بأي بعد نظر سياسي أو حنكة قيادية لإدارة الأزمات، بل هي التي تخلق الأزمات وتذهب ببلدها إلى الهاوية.

إن الأزمات الناتجة عن قصور الإرادة الشعبية كثيرة عبر التاريخ، لكن لنبقى في دائرة الربيع العربي وننتقل هذه المرة إلى سوريا، حيث أن سياق الأحداث فيها كان مشابهًا لأحداث مصر، لكن الطبخة قد اكتملت هذه المرة. احتجاجات شعبية – بقيادة الإرادة الشعبية – من ثم استغلال إسلامي/إخواني، ومن ثم خرابًا مأساويا. وربما يدور سؤالاً في خلد القارئ عن سبب ضلوع الإخوان المفرط في دوامة الصراعات والأزمات السياسية الناتجة عن حماقة الإرادة الشعبية: ذلك أن الإخوان يريدون بلدًا ليقيموا فيه دولة للخلافة، ولا يهم أيما كانت هذه البلد، وهناك بغلة جاهزة ليركبوها في سبيل غايتهم، ألا وهي الإرادة الشعبية. وهذا ما يفسر ظاهرة ركوب الإخوان لأمواج الثوَران الشعبي مسخرين كافة إمكاناتهم في خدمة ذلك.
دعني أخمن بأنك قارئ معاصر وشاهد على الأزمة السورية منذ بدياتها، وتحسبًا لذلك فأنني لن أسهب كثيرًا في هذا الشأن. لكن دعنا نلقي نظرة فاحصة على أطلال الإرادة الشعبية:
– ثورة شعبية = أزمة أمنية وخرق تام للقانون= استغلال إرهابي للأزمة بسبب الواضع المواتي لبروز الحواضن الإرهابية= دعم إخواني وغربي/يساري لهؤلاء الإرهابيين بحجة مقاومتهم لقوات النظام -لاحظ أن دعم الإرهاب أصبح مشروعًا ورسميًا- = انشقاق بين هؤلاء الإرهابيين نتج عنه إقامة دولة الخلافة في العراق والشام متسلحًا بهبات الإخوان والغرب= أزمة إنسانية وعرقية وإثنية راح ضحيتها الآلاف من البشر، والمئات من الثروات والمواقع الأثرية والصروح الحضارية. من ثم:
– بحسب البنك الدولي في عام 2018؛ فقد بلغت خسائر سوريا 226 مليار دولار خلال سبع سنوات فقط.
– تدمير وضرر 27% من الوحدات السكنية في سوريا.
– 6 من بين كل 10 سوريين يعانون من الفقر – كم كانت هذه النسبة قبل الأزمة؟
– تعرض قطاع الصناعة السوري لنسبة تدمير بلغت 67%.
– أضرار القطاع الزراعي بلغت 25 مليار دولار.
– أضرار القطاع السياحي بلغت 14 مليار دولار.
– إلى جانب استنزاف 70% من الأطباء الذين تعرضوا للتهجير أو القتل أو الاختطاف، فقد بلغت أضرار القطاع الصحي 12 مليار دولار إلى جانب تدمير 38 مستشفى و 450 مركزًا صحيًا.
-بحسب الجهات المختصة ومن ضمنها رقابة حقوق الإنسان، فقد بلغ عدد الضحايا 400.000 قتيل، إلى جانب 5.000.000 مليون لاجئ و 6.000.000 نازح و 540.000 محاصر في ساحة الحرب.
– 2.8 مليون طفل أصبحوا بلا دراسة. 6.000 مدرسة خارج الخدمة. 400 مليون دولار خسائر قطاع التعليم.

إن أضرار الإرادة الشعبية في سوريا لم تكن محلية فقط، وإنما إقليمية ودولية أيضًا، وإذا صح تخميني بأنك شاهدٌ معاصر، فينبغي أنك شاهدٌ على انبثاق الفصائل الإرهابية المسلحة من صلب الثورة السورية، والتي انتقلت بدورها للعراق وأدخلته في صراع بالنيابة عن العالم ضد أعتى تنظيم إرهابي مسلح شهده العصر الحديث، وذلك ما أعطى الشرعية لانبثاق فصائل وميليشيات دينية مضادة سوف تصبح عما قريب أذرعًا إقليمية لتنفيذ تعليمات ومخططات ولاية الفقيه، ونخر الدولة العراقية وترهيب المدنيين وإرساء شريعة الغاب رسميًا.

فكيف بربك بلدًا ضارب عمق التاريخ بحضاراته يصبح رهنًا بعمامة جيرانه؟
وكيف تتحول سوريا من حاضنة للترفيه والترويح إلى بلد يقترن اسمه بالموت والتشرد والترهيب والترويع؟
وكيف يتحول اليمن السعيد تعيسًا؟
وكيف تتحول تونس الخضراء يباسا؟
وكيف يتمكن سرطان الخلافة مرةً واحدة من هذه البلدان مجتمعة ليحولها إلى ساحات قتال تغص بجند الخلافة؟
أوليس وقوع هذا هو إدانة للإرادة الشعبية التي يدغدغها وقع كلمة “ثورة”؟ فشكرًا أيتها الإرادة الشعبية!

إن الإرادة الشعبية هي مجموعة المطالب والغايات التي تبتغيها العامة بدافع حسدها لمنازل الخاصة، وأن قوام إرادتها وصواب بغيتها هو محض خرافة، ومهما بذلت لها الأجندة الإعلامية من دعم ونصرة، وإجلال وحفاوة، فذلك ابتذال لا يعول عليه في صنع خارطة طريق مستقبلية ليسير عليها بلدًا يمني النفس بدولة ذات مؤسسات ورخاء واستقرار.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s