
أقول وقلبي ملآن آسى، أنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة،
سماعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائما للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل شعبا نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضًا عِظَم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل.. هذا هو الشعب الذي اخذت مهمة تكوينه على عاتقي.
ما وقع حاكم من حكّام العراق على أحوال الشعب العراقي كما وقع فيصل الأول الذي لخَّص تشخيصه للمجتمع العراقي بهذه الكلمات. وهذا إنما يحيلنا إلى مشاكل عميقة وراسخة لا زالت ظاهرة إلى اليوم، وإن الواقع السياسي هو بلا شك ابن هذا المجتمع ووليد هذه الصفات التي يتصف بها المجتمع بشكلٍ عام. وإننا نجد تشخيصًا متفقًا، وإن لم يكن مماثلًا، لتشخيص فيصل الأول، جاء على لسان عدة سياسيين ورجال دولة من الرعيل الأول الذي شارك في تأسيس دولة العراق الحديث. فنحن نقرأ في مذكرات السياسي العراقي ورئيس الوزراء السابق توفيق السويدي تشخيصه لحالة الشعب العراقي عشية تشريع أول دستور في تاريخ البلاد وعن المعاهدة الأنجلو-عراقية التي رافقته:
ويجب الاعتراف في هذا الصدد بأن الشعب العراقي في أوائل تأسيس الدولة العراقية لم يكن في وضع يمكنه من أن يعرب عن آرائه بصورة معقولة؛ لأن أكثر الشعب لا يفقه المعاهدة ومغامزها ولا أي أمر سياسي هام يتعلق بمستقبل البلاد. فإذا كان الأمر كذلك مع الأفراد فهو لا يكون أحسن منه مع الزعماء، سواء كان في العشيرة أو في خارجها
وبالنظر كذلك إلى جهل الجماهير والسواد الأعظم من الناس بما يجب عمله في هذا الشأن، فقد جرت الانتخابات ولا يُعلَم بالضبط كيف جرت إلا في المراكز المهمة حيث كان التشاحن بالغًا أشده بين المرشحين وخصوصًا في العاصمة.
ويردف قائلًا عن الأحوال الثقافية والأهلية التعليمية:
إن شعبًا هذا نصيبه [الشحيح] من مقومات الحضارة الحديثة، وهي العلم والإحاطة بالأمور – وهو محروم منهما – لا يمكنه أن يُبدي رأيًا يُعول عليه في إدارة أمور البلد. ولهذا اقتضى بحكم الضرورة أن تتحكم فيه كتل وهيئات تتصل مباشرة بأرباب السلطات؛ فإذا كان أبناء الشعب عشائريين فرؤساؤهم يتحكمون، وإذا كانوا غير عشائريين فالمتقدمون فيهم من رؤساء الدين وأرباب الوجاهة. وهذا لا يكفي لتبلور الرأي العام الشعبي في مسألة حيوية كالانتخابات.
ثم إن السلطة التنفيذية التي تنبثق من هذا الشعب تبقى بطبيعة الحال متأثرة بعين المؤثرات التي ابتُلي بها هذا الشعب الجاهل، فهي ترى نفسها مضطرة إلى مجاراته بالطريقة التي تتمكن بواسطتها من جذب ميوله إليها. وليس ضروريًا أن يكون هذا الميل معقولًا أو نافعًا تستند إليه الحكومة لتمدين البلاد وإنقاذها مما يطبق عليها من براثن الجهل والمرض والفقر.
وقد حدث أن وجِد بين وزراء الحكومة العراقية أناس لا يقرأون ولا يكتبون، وكانت لستر هذه الفضيحة قد جرت تسميتهم (وزراء احتياطيين)، فإذا كان الشعب في هذه الحالة ووزراؤه بحالة أشبه فلا يتصور أن يمنح هؤلاء حقًا واسعًا في تقرير مصيرهم وفي مراقبة أعمال الدولة مراقبة مفيدة.
كما جاء في رسالة رئيس الوزراء السابق عبد المحسن السعدون قبيل انتحاره:
الأمة تنتظر الخدمة، والإنجليز لا يوافقون، ليس لي ظهير. العراقيون طلاب استقلال ضعفاء عاجزون وبعيدون كثيرا عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير نصائح ارباب الناموس أمثالي.. يظنون إني خائن للوطن، وعبد للإنجليز، ما أعظم هذه المصيبة، أنا الفدائي الأشد إخلاصاً لوطني.. قد كابدت أنواع الاحتقارات وتحملت المذلات في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي مرفهين.
فنحن لدينا الآن تشخيص من الملك فيصل الأول في عام 1932/1933، وتشخيص من عبد المحسن السعدون في عام 1929، وتشخيص من توفيق السويدي لعام 1925 وقد صدرت مذكراته في عام 1969.
بل إن ابن جبير، الرحالة الأندلسي المعروف، عندما مر ببغداد في عام 1184، أي قبل ما يزيد على 700 عام من التشخيصات السابقة، وصف أحوال أهلها قائلًا:
وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم الا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه عجبا وكبرياء، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم.
يسحبون أذيالهم أشرا وبطرا، ولا يغيّرون في ذات الله منكرا، يظنون أن أسنى الفخار في سحب الإزار، ولا يعلمون أن فضله، بمقتضى الحديث المأثور، في النار، يتبايعون بينهم بالذهب قرضا، وما منهم من يحسن الله فرضا، فلا نفقة فيها الا من دينار تقرضه، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها الا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لا يبالون في ذلك بعيب، كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب.
فالغريب فيهم معدوم الإرفاق، متضاعف الإنفاق، لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق، أو يهش اليه هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق، فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها، ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وابنائها.
أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكرين، لا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرا من أوزارهم، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم، لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق فيهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة.
فالواضح أننا لدينا اضطراب في ذهنية الفرد العراقي اختلفت حوله التشخيصات والتبريرات، ولكن المؤكد هو أن سيكولوجية المجتمع العراقي تتصف بالعند والعنت والانقسام، والأبرز من ذلك كله؛ النفور من السلطة. وهنا تنقسم أسباب هذه المشاكل ما بين طائفية وعرقية وإثنية، أي مشاكل الجماهير مع السلطة. فقد كانت حادثة (سُمّيل) المعروفة التي وقعت في الموصل عام 1933 ترجع إلى أسباب عرقية. وحادثة تكفير الوزراء الشيعة وتحريم الاشتراك بالوظائف أو المدارس الحكومية في العشرينات بفتوى الشيرازي والخالصي جاءت لأسباب طائفية. وكذا انتفاضة آذار المعروفة باسم (الانتفاضة الشعبانية) التي اندلعت في عام 1991. والتمردات الكردية العديدة التي اندلعت في الشمال وآخرها حادثة الهجوم الكيميائي على حلبجة في عام 1988.
هناك مبررات لدى المتمردين بلا شك، وغالبًا ما كانت مبرراتهم مشروعة. لكن سمة التمرد الدموي هي الشيء المشترك ما بينهم وبين السلطة. فلم تخلو أي من التمردات أو الانتفاضات التي وقعت خلال تاريخ العراق الحديث من النهب والقتل والتخريب. ناهيك عن الانقلابات المتوالية التي لاقت جميعها ترحيبًا واسع النطاق في كل الأزمان بغض النظر عن مستوى دمويتها وتطرفها. فمن الواضح أن هذه النزعة الدموية، أو العنت المتطرف، يرجعان إلى جذور الانقسامات والنفور من السلطة، وهذا بدوره ما حال دون تكوين مواطن صالح كما أراد فيصل الأول حين قال “شعبًا نهذبه وندربه ونعلمه”.
لقد حالت الانقسامات الإثنية والعرقية والطائفية دون تكوين مواطن صالح يلتف هو وأقرانه تحت راية وطنية جامعة. هذا المواطن الصالح الذي أشار كل من ابن جبير وفيصل الأول وعبد المحسن السعدون وتوفيق السويدي إلى انعدام وجوده وصعوبة تكوينه نظرًا لعِظَم هذه المهمة. فكل مواطن عندنا بهوى؛ مواطن القبيلة؛ مواطن الطائفة؛ مواطن المذهب؛ مواطن العِرق والقومية، وهلم جرا.
فأنت ترى والحالة هذه أن فئات المواطنين هؤلاء تفرح وتصفق وتهلل لأي انقلاب أو احتلال أو مشروع لتغيير السلطة -مهما بلغت السلطة من صلاح أو طلاح- أملًا بسواد دائرة مواطنتهم الخاصة، ومهما تعددت واختلفت أسبابه ومبرراته.
ومما فاقم حالة العنت والعند والانقسام هذه هو فرض الديمقراطية بعد عام 2003 على مجتمع يفتقر إلى أدنى مستويات الترابط الاجتماعي وإلى أدنى قدر من صلاح المواطنة. فشرط فعالية الديمقراطية كما هو معلوم هو المواطن الصالح، وليس شرط المواطن الصالح هي الديمقراطية. وهذا ما يدلل على عدم إلمام مبشري آلهة العالم الجديد بأي من صفات المجتمع العراقي أو سيكولوجيته برغم ما زُعِم من إشاعات عن إحصاء كل شاردة وواردة عن العراق في الدوائر البيروقراطية. لكن البيروقراطيين لم يغفلوا أي شاردة وواردة عن حقول النفط وخزنات البنوك وسجلات الأرشيف بالطبع.
حتّى مع توفر المواطن الصالح، فقد احتاجت الديمقراطية لعقود من التنظير في أوروبا الغربية وأمريكا -التي احتاجت لحرب أهلية أيضًا- قبل أن يجري تطبيقها، ومع ذلك فقد حملت معها عيوب وعواقب كارثية جعلت نفس أولئك المواطنون الصالحون يشرعون في حملة إعادة تقييم ونقد لاذع لها كما يجري في أوساط النخب الغربية اليوم.
ولمّا فُرِضَت الديمقراطية بصيغة توافقية (أي شريطة اتفاق جميع فئات مواطني الشتات لصنع عملية سياسية) على مجتمع متزايد الانقسام، فلم تلبث أن عمّقَت الانقسامات وشطرت حتّى أصحاب الطوائف والأعراق إلى أحزاب وزُمَر متعددة. وهكذا يمكننا القول إن رحم المواطنة الجامعة قد استُئصِل حتّى قبل الشروع بمهمة إيجاد شعب (نعلمه وندربه ونهذبه). ولم يزد هذا الانقسام في نفوس الشتات إلا تعنتًا وعنادًا وسخطًا على السلطة. فكل منهم يرى السلطة إما تهديدًا قائمًا بوجه دولة المواطنة الصُغرى خاصته أو عقبة تعرقل طموحاتها ومطامعها.