رتّب الأفكار في موسوعتك أولاً: ماذا نعني بالليبرالية أو السياسة المحافظة؟ الكلاسيكية أو الديمقراطية الحديثة؟ الليبرتارية أو النيوليبرالية؟

قبل أن استهل بالتوضيح و التمييز بين المصطلحات التي ذكرتها في العنوان أعلاه، حاول كقارئ عربي أن تتقبّل أن السياسة العربية بشكل عام تستورد وتخلط المزيج المحلّي الخاص بها منذ قرون من الزمن بدل أن تساهم في صياغة التاريخ السياسي الحديث. بالطبع، ظروف المناطق العربية استثنائية وهي ضحية لأيديولوجية قديمة ومهيمنة حتى اليوم، بغضّ النظر عن الاستعمار، الحروب والتدخّلات والتقسيمات التي أنهكتها على مدى القرون الماضية.
من باب، أنا أتهم القارئ العربي العام بعجزه عن التمييز بين المذاهب السياسية الرئيسية، ومن باب آخر أعذره، لأن واقعنا السياسي والاجتماعي لا يفسح المجال للإنسان بأن يجد الوقت اللازم والمزاج الصافي للدخول في هكذا تفاصيل قد تبدوا مملة للكثير وربما محبطة للبعض الآخر. 

سأحاول هنا وضع حجر الأساس لكي تفهم السياسة العالمية أكثر في حالة كونك لم تتعمّق في الموضوع بعد، لأنك شئت أم أبيت مقيّد بالظروف الاقتصادية والحروب والاتفاقيات العالمية. العولمة والتقنية غيّرتا قوانين اللعبة. من الذكاء أن تحاول فهم العالم حولك كي تتجنّب الوقوع في مشاكل كثيرة وتقليل نسبة الخطأ. سأكتفي بالتركيز على الأسس الجوهرية التي تميّز مذهباً سياسياً عن الآخر وتفاصيل الفلسفة السياسية التي تشكّل القاعدة التشريعية لتلك المذاهب. 
قبل أن نبدأ، دعنا نتناول تعريفي المذهبين المحافظ والليبرالي بشكل مقتضب: 

السياسة المحافظة Conservatism [من اللاتينية: conservare = “حفظ” أو “الحفاظ”] هي مذهب سياسي يشير إلى الفلسفات السياسية والاجتماعية التي تعزز الحفاظ على المؤسسات الاجتماعية التقليدية وبقاء الوضع الراهن مع القليل من التغيير الحذر، فهي تعتبر الاستقرار  شيء ثمين ويجب أن يتم التغيير بشكل تدريجي من أجل الحفاظ عليه. الفلسفة السياسية المحافظة يمكن وصفها بـشكل بسيط وغير مفصّل بأنها حالة ذهنية وفلسفة سياسية تنفر من التغيير السريع والابتكار، و تسعى جاهدة لتحقيق التوازن والنظام، وفي الوقت نفسه تتفادى التطرّف. بشكل عام تفضّل التسلسل الهرمي على المساواة والقيم الجماعية على الفردية. هي سياسة ظهرت كـ رد فعل ضد الأفكار الليبرالية التي بدأت تترسخ في أوروبا خلال الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر. 

في المقابل، يواجهها كمذهب السياسة الـتقدّمية، التي تعرّف نفسها كـ فلسفة سياسية تمضي إلى التقدّم والتحرر من الماضي كجزء من تطوّر المجتمع وتصارع لصالح الإصلاحات التدريجية الاجتماعية، السياسية والاقتصادية عن طريق حكومة كبيرة تتدخّل في فرض تلك الإصلاحات. هذا المذهب يمكنك أن تضعه في خانة اليسار في الطيف السياسي. الطيف الأكثر تطرّفاً في المطالب هو ما يوصف بالـفكر الثوري اليساري، فالأخير يرفض المنهج التدريجي و يطالب بالثورة. على عكس المذهب المحافظ، تفضّل التقدّمية المساواة على التسلسل الهرمي والقيم الفردية على الجماعية. والصراع بين الفكرين يدور في جوهره حول عقلانية الإنسان أو الفرد نفسه. فالفكر المحافظ لايثق بعقلانية الفرد وعدم تحيّزه، بعكس الليبرالية التي تبالغ في تقدير البشر كفرد حر وعقلاني في اختيار مصيره. لكن كما ستقرأ لاحقاً، الواقع أكثر تعقيداً ويتشابك كثيراً ويتباين حسب الوقت والمكان. سأتناول المزيج الشائع في الدول الغربية القوية كي تفهم الصورة أكثر:

السياسة المحافظة الليبرالية Liberal Conservatism

[لا ينبغي الخلط بينها و بين السياسة المحافظة الليبرتارية]
 

السياسة المحافظة الليبرالية هي أيديولوجية سياسية تجمع بين السياسات المحافظة والمواقف الليبرالية، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الأخلاقية والاجتماعية، أي بكل بساطة سياسة محافظة متأثرة بشدة بالليبرالية [كما هو الحال في بعض دول أوربا الغربية].

تشمل السياسة المحافظة الليبرالية النظرة الليبرالية الكلاسيكية Classical Liberalism [من روادها آدم سميث، ديفد هيوم و فولتير] للحد الأدنى من التدخّل الحكومي في الاقتصاد؛ حيث يؤمن الليبراليون الكلاسيكيون أن تحرير السوق من التدخل الخارجي الحكومي سيقود في نهاية المطاف إلى نظام يخدم المجتمع بصورة مثالية. كذلك يجب أن يكون للأفراد حرّية المشاركة في السوق وإنتاج الثروة دون تدخّل الحكومة. في نفس الوقت، من الموهم أن نثق بالأفراد بشكل كامل على التصرف بمسؤولية في مجالات أخرى من الحياة، ولذلك فإن المحافظين الليبراليون يعتقدون أن وجود دولة قوية أمر ضروري لضمان القانون والنظام. إضافةً إلى ذلك ضرورية  ودور المؤسسات الاجتماعية لتعزيز الشعور بالواجب والمسؤولية تجاه المجتمع. من الاسم نفسه نستنبط أن السياسة المحافظة الليبرالية هي موقف سياسي يدعم الحريات المدنية إلى جانب بعض التقاليد الاجتماعية المحافظة. تستطيع أن تفهم هذا المذهب كـ أيديولوجية يمين الوسط. في أوروبا الغربية هو الشكل المهيمن للسياسة المحافظة المعاصرة.

بما أن لكل من “المحافظة” و “الليبرالية” معان مختلفة تباينت على مر الزمن وعبر البلدان، فقد استخدم مصطلح “المحافظة الليبرالية” بشكل متباين أيضاً. فالواقع السياسي والخليط الديني، العرقي، الموقع الجغرافي والتاريخ السياسي للبلد،كلها عوامل تحدد الاتجاه السياسي ومراكز ثقله. لذلك حاول أن تبتعد عن التفكير الأبيض والأسود في وصف هذه المذاهب واطلق العنان لمخيّلتك كي تتصوّر نظام إحداثيات تمثّل محاوره التوجّهات الأساسية [محافظ ـ تقدّمي ـ سلطوي ـ ديمقراطي/تحرري]. لاحظ أنني أتجنّب مصطلحي اليمين واليسار، لأنهما يتباينان جداً من مجتمع و ثقافة إلى أخرى. لكن بصورة عامة تفضّل الإحداثيات السياسية لليسار اللون الأخضر وتتداخل مع اللون البنفسجي. اليمين على العكس تجد إحداثياته تتكرّر في النطاق الأزرق و البنفسجي. كما من المهم أن تميّز بين اليمين كقطب سياسي وبين اليمين كفلسفة!

أظنك ستفهم مدى صعوبة تحديد ما هو اليسار وما هو اليمين عندما نتكلّم بصورة عامة. لذلك يلجأ الكثير إلى تعريفات إضافية كـ “ما بعد الحداثة” أو “اليسار التقدّمي المعاصر” ليصف مثلاً الطيف السياسي السائد في ديمقراطيات الغرب والذي يتبنّى سياسات التحرّر، الديمقراطية، السلامية [مناهضة الحرب و العنف]، الحكومة الكبيرة، الانفتاح على الهجرة، العولمة، التخلّص من تقاليد الماضي والهويات القومية، النسوية، سياسات الصواب السياسي، المساواة، التركيز على حقوق الأقلّيات وحماية البيئة. اليمين المحافظ لا يعني أنه لا يهتم بحقوق الأقليات أو يؤيد العنف أو حتى يرفض الانفتاح على العالم، بالعكس، لكن برامجهم السياسية تركّز على الجانب المعاكس من المعادلة أكثر وتفضّل المصالح القومية و أهل البلد على حساب العولمة مثلاً، أو يجدون في بعض الحروب والتدخّلات العسكرية ضرورة سياسية أو إنسانية وأهمية اجتماعية في التمحور حول تقاليد وثقافة البلد. التأدلج والتطرّف يمكن أن يظهران في كل مربّع و لون مختلف.

كمثال آخر على التباين الفلسفي في السياسة: تتناقض السياسة المحافظة الليبرالية مع المحافظة الأرستقراطية. فالأخيرة ترفض مبدأ المساواة كشيء يتناقض مع الطبيعة البشرية، وتحث بدلاً من ذلك على فكرة عدم المساواة الطبيعية والتي تؤكّد على التباين الجيني في الذكاء، القدرات والطموح بين البشر. ومع احتفاظ المحافظين في البلدان الديمقراطية بالمؤسسات الليبرالية النموذجية مثل سيادة القانون، حق التملّك الخاص، اقتصاد السوق الحر والحكومة التمثيلية الدستورية، أصبح العنصر الليبرالي في السياسة المحافظة الليبرالية توافقياً بين المحافظين. 

مع ذلك يفرض الواقع السياسي نفسه دائماً: ففي بعض البلدان، مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، يُفهَم مصطلح “المحافظة الليبرالية” ببساطة على أنه “محافظ” في الثقافة الشعبية، مما دفع بعض المحافظين الذين اعتنقوا القيم الليبرالية الكلاسيكية القديمة ليطلقوا على أنفسهم إسم “الليبرتاريون”. بشكل مقتضب: يؤمن الليبرتاريون بأن الفرد في المجتمع يملك نفسه تماماً وبالتالي فإن لديه الحرّية في التصرّف فيها وفي ممتلكاته وفي عقائده كما يشاء، شرط ألا يتعدى على حريات الآخرين و ممتلكاتهم. وعليه فهم يؤيّدون التحرّر وإزالة القيود المفروضة على الفرد من قبل الدولة والمجتمع، كالعادات والتقاليد، وتقليص حجمها قدر المستطاع.

مع ذلك، فإن التقليد الليبرالي ـ المحافظ في الولايات المتحدة غالباً ما يجمع بين الفردية الاقتصادية للليبراليين الكلاسيكيين مع توجّه محافظ “بيركي” يشدّد على عدم المساواة الطبيعية بين البشر وعدم عقلانية السلوك البشري كمعلّل للدافع البشري نحو النظام والاستقرار ورفض الحقوق الطبيعية كأساس للحكومة [ما أقصده بـ “بيركي” هو التأثّر بفلسفة إدموند بيرك، فيلسوف سياسي إيرلندي يعتبره الكثير من روّاد المذهب المحافظ الحديث و أهم نقّاد الثورة الفرنسية ١٧٨٩]. 

ومع ذلك، تجد التيار المحافظ الأمريكي هجيناً من مبادئ محافظة و ليبرالية كلاسيكية احتفظ ببعض المبادئ الأصلية وتجاهل أخرى. و بالتالي، لا يستخدم في الولايات المتحدة مصطلح “المحافظة الليبرالية”، في نفس الوقت تختلف توجّهات ونقاط ثقل الليبرالية الأمريكية الحديثة عن نظيرتها الأوروبية. والعكس تجده مثلاً في أمريكا اللاتينية، حيث يوصف المحافظ الليبرالي اقتصادياً تحت عنوان النيوليبرالية، سواء في الثقافة الشعبية أو الخطاب الأكاديمي. تتذّكر ما قلته عن التشابك في المصطلحات؟ الأمر يزداد تعقيداً عندما نعود لأوربا مجدداً. 

في اعتناقهم لمبادئ الليبرالية والسوق الحرّة، مازال بإمكانك التمييز بين هؤلاء المحافظين الأوروبيين عن المحافظين الذين اعتنقوا آراءً ومواقف أكثر تحفّظاً اجتماعياً وفلسفياً. البعض يلصق بهم مصطلح “الشعبوية” وهم طبعاً في خندق اليمين. كمثال للوتضيح، في أوروبا الوسطى والشمالية الغربية، خاصةً في الدول الجرمانية والبروتستانتية التقليدية، لا تزال هنالك فجوة بين المحافظين، حتى داخل التحالفات نفسها، كتحالف الديمقراطيين المسيحيين الحاكم في المانيا والذي تقوده ميركل [CDU/CSU]. على سبيل المثال، فكرة الزواج كمؤسسة اجتماعية تحتاج دعم الدولة وتقتصر على الرجل و المرأة وتشكّل موقفاً رئيسياً عند المحافظين المسيحيين الديمقراطيين، بينما يحتضن نفس التحالف الحزبي محافظين ليبراليين ساهموا في كسر قدسية الزواج و فتحه على المثليين مثلاً، لأنهم يؤمنون بالتحرر أكثر من الالتزام بالتقاليد.
 

على العكس من ذلك، في البلدان التي دخلت فيها الحركات الليبرالية المحافظة التيار السياسي الرئيسي مؤخراً، مثل إيطاليا وإسبانيا، يمكن فهم المصطلحين “الليبرالي” و”المحافظ” على أنهما مرادفان سياسيان، وكثيراً ما ينطوي ذلك على التشديد على اقتصاد السوق الحر  الاعتقاد بالمسؤولية الفردية جنباً إلى جنب مع الدفاع عن الحقوق المدنية، دعم الأقلّيات ودعم نظام الرعاية الاجتماعية المحدود. لذلك من المهم جداً أن تفهم الجغرافية السياسية لكل دولة وتتناولها بمعزل عن التعريفات العامة. 
 

مقارنةً بالسياسة التقليدية التي يمثّلها يمين الوسط مثلاً [كـ الديمقراطيين المسيحيين في المانيا، حزب المحافظين البريطاني، الحزب المحافظ في كندا، حزب العدالة والقانون البولندي، حزب الشعب الهندي، الحزب الاشتراكي المسيحي الديمقراطي في البرازيل ] فإن المحافظين الليبراليون [كـ حزب المحافظين النرويجي، الائتلاف الوطني الفنلندي، الحزب الليبرالي الديمقراطي في المانيا، المعتدلون الجدد في النرويج] يميلون لسياسات أقل تقليدية وأكثر تحرراً من الناحية الاقتصادية، يحبّذون ضرائب منخفضة وأدنى تدخل للدولة في الاقتصاد. في الخطاب الأوروبي الحديث تجدهم يرفضون، على الأقل إلى حد ما، المحافظة الاجتماعية والتشبّث بالتقاليد. 

أظنك قد لاحظت أنني لم أتطرّق إلى الدول العربية. ببساطة لأن الأوضاع السياسية غير مستقرة وتاريخ السياسة العربية مليئ بالمطبّات والثورات. إضافةً إلى ذلك، الديمقراطيات العربية غارقة إما بالفساد، بالتطرّف الديني أو الحرب الأهلية. حتى الدول المستقرة نسبياً تحكمها أنظمة لا تتحلّى بحرية سياسية كافية لتسمح للفرد بأن يتعمّق في هكذا سياسات، أو يعبّر عنها. مع ذلك، تميل الأنظمة السلطوية في المنطقة إلى الاستقرار وتبنّي سياسات طويلة المدى أكثر من تلك الديمقراطية، وهو ما يفتح باب الجدل السياسي عن كون تحديد المصير وتدخّل الفرد في السياسة يصب في النهاية فعلاً في الصالح العام. لذلك تجد الناقد العربي السياسي المهتم يضطر لاستيراد الفلسفات السياسية الغربية وتحويرها محلياً، بدل التنظير لسياسة محلية مناسبة للتاريخ، الجغرافية والواقع. كذلك لا ننسى الواقع العربي المرتبط بثقافة صحراوية دينية تفرض نفسها كنظام دين ودولة واقتصاد لا تتسامح مع المختلفين، مما يعيق نشوء مدارس سياسية تنظّر لمستقبل على أساس واقع متهالك. 

السياسة وإن كانت مملة، فهية شيّقة أحياناً في التنظير الفلسفي وتبدأ من سلوكياتك كفرد وفي إطار العائلة إلى نطاق أكبر. لذلك من المهم أن تتعمّق أكثر و تحاول إيجاد المزيج الفكري المناسب لك ولمستقبلك و أيضاً للأجيال القادمة. 


اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s