هل الإعلام سلطة رابعة فعلًا؟ ماذا لو قلت لك أنه السلطة الأولى في أهم مراكز القوى العالمية؟ دعك من التقسيمات الرسمية بين السلطات [قضائية، تشريعية، تنفيذية]، فهذه تحف أكاديمية وشكلية جدًا في الواقع. وجودها لا يطابق ولا يمثّل توزيع السلطة الواقعية والتي تغيّر وتسيطر على الرأي العام. لو افترضنا معًا صحة هذه الفرضية، فيمكننا أن نطرح السؤال التالي: كيف يمكن أن ينقلب توزيع السلطة بهذه الصورة الجذرية؟ [النزاع المستمر بين البوق الإعلامي في دول أوربا، الممول من بروكسل EU، وبين القضاء البولوني أو المجري، مثال سريع وبسيط على ما أذكر].
الجواب باختزال بسيط: الديمقراطية. الجواب المفصّل سيكون كالتالي: ذاكرة الإعلام قصيرة الأمد، وهذه تتناسب طرديًا مع عمق المعرفة التي يتاجر بها في وسائل الميديا بشكل عام. ولن نبالغ إن وصفنا الإعلام بالسلطة الجاهلة، لا الرابعة. ولأن ذاكرتنا في استقبال المعلومات محدودة أيضًا، يكفي لأي جهة متمكّنة أن تشغل حواسنا السمعية والبصرية بتصوّرات وهمية عن الواقع.
وعندما أتكلّم عن الميديا، فأنا لا أقصد الإعلام فقط: حاول أن تبدأ، إن لم تباشر بعد، بفهم دورة حياة ”الحقيقة الديمقراطية“ داخل سلسلة الدولة ـ الأكاديميا ـ والإعلام. عن هذه العلاقة يكتب ماثيو باتاليولي في ”عواقب المسواة“:
”الدولة، وخاصة الدولة الديمقراطية، بحاجة دائمة لمزيد ومزيد من الدعاية، وهكذا تصبح الدولة مستعدة جدا لتوظيف أعداد هائلة من الأكاديميين للتغلغل في المؤسسات التعليمية للأمة وتوفير تلك الدعاية. وليس هذا فحسب، فما أن يصبح الأكاديمي موظفا لدى الدولة، وبالتالي معتمدا عليها في دخله ومعيشته، سيصبح أشد عرضة لأن يكون منافحا صلبا عن الدولة. ولكن هؤلاء الناس هم بالفعل أميل بشدة لأن يكونوا يساريين سياسيا في العموم. وذلك لأن الأقل تشككا في الأسواق سيجنون رزقهم بالمساهمة فيها: عبر إدارة الأعمال، الاستثمار، و »التوفير« لآخرين. أما الآخرون، وهم الأشد تشككا في الأسواق، فتبدو لهم الأكاديميا خيارا أشد جاذبية للعمل. وذلك تهديدا ثلاثي الرؤوس، حيث تبحث المؤسسات الحكومية عن ناشري الدعاية الأعظم والأفضل للدولة من بين ثلة من الدعائيين الأشد راديكالية أصلا، ومن ثم تعمل على دفعهم لمزيد من الراديكالية عبر توفير كل ما يحتاجون إليه.“
حتى الآن، تبدو العلاقة وكأنها تسير في اتجاه واحد. لكن ما يحدث بعد ذلك ـ ومن هنا يستمد الإعلام وهم حيازة ”المعرفة العلمية“ ـ هو أنه يجسّد دور الرأي العام في نفس الوقت عن طريق أسلوبه المعروف في مخاطبة السياسيين وممارسة الضغوط الإعلامية عليهم وفق الانتماء الحزبي أو جهة التمويل طبعًا. وهذا سلاح انتخابي وثغرة فساد في النظام بحجم ثغرة الأوزون، إن صح التعبير، حبيبي.. فما يسوّق إلى الناخب الديمقراطي بشكل عام هو منتوج واضح نقي وذو خلفية أخلاقية محسومة مسبقًا: فالعلم يصرّح ويركّد كلام الإعلام بدون شك ـ وبشكل مفلتر من آراء العلماء المعارضين وذوي الآراء المعارضة طبعًا، والدولة تطبّق شريعة السماء في دين الإنسانية. يو نيد بگ بولز and بيگ لاك كي تعترض دون أن تصبح مسرحية إعلامية.
وهذا المنتوج يتغير كل يوم ويكفي لأن يشغل حواسك وذاكرتك بصورة مرسومة مسبقًا عن الواقع السياسي دون عناء البحث والتقصّي عن المعلومات بنفسك. وكي لا تنسى، أحب أن أذكرك بكسل البشر عندما يتعلّق الأمر بالتفكير..
ومشكلة هذه الثغرة أنها كبيرة بشكل لا يجعلها تحدد مصير الانتخابات فحسب، بل تحدد ملامح الرؤية الأخلاقية عن النخبة الحاكمة أيضًا، ولا يوجد سياسي ينوي اعتلاء عرش السلطة في بلاده دون تقبيل خاتم الإعلام: أقصد دعم حرية الصحافة والإعلام طبعًا، لا يروح بالك بعيد.
تأثير هذه المنتوجات السريعة والمختزلة جبّار ويمكن أن يدوم لعقود طويلة، لا بل لقرون من الزمن.
البارحة وأنا أتصفّح كتاب The German Way of War مر علي مثال عن العلاقة المتوترة بين الإعلام وبين الحزب النازي في المانيا في بداية الأربعينيات. علاقة متوترة؟ نعم، مع الإعلام الخارجي طبعًا، وفي بعض الأحيان مع ”شطحات“ في إعلام الداخل. لو أردت اختزال الحرب العالمية الثانية من ناحية حربية، فمصطلح Blitzkrieg يفي بهذا الغرض. وهي معلومة شائعة حتى يومنا هذا. لكن من ناحية تاريخية، فإن هذا المصطلح منتوج إعلامي رفضه قادة الڤيرماخت Wehrmacht بشدّة ولأسباب عسكرية واضحة: فعلى عكس ما روج إليه الإعلام، لم تكن هذه الاستراتيجية جديدة إطلاقًا، وإنما جسّدت الاعتماد على طريقة الحرب الألمانية التقليدية منذ عصر الإمبراطورية الألمانية ووفق تقاليد بروسيا العسكرية. فالمجازفة بالبحث عن ثغرة بين أجنحة العدو ومحاولة حسم الحرب في معركة واحدة، هي استراتيجية بروسية قديمة طبّقها الألمان في حروبهم مع نابوليون وفي الحرب العالمية الأولى أيضًا. هي فقط نجحت بشكل حاسم وباهر في الحرب العالمية الثانية بعد أن تمكّن الألمان من توفير جميع الشروط العسكرية [غطاء جوّي + زحف مركّز لقوّات مدرعة أو آلية]. بل أنه لا توجد أدلة على أن العسكريين الألمان قد استخدموا هذا المصطلح في كتبهم وتقاريرهم العسكرية.
لكن الجهل الإعلامي بتفاصيل وتاريخ التقاليد العسكرية، أعطى للمصطلح شهرة أزعجت القادة الألمان أنفسهم، حتى ذكروا مرارًا أن سر النجاح العسكري لم يكن حصيلة الحنكة العسكرية النازية، بل هو نجاح نابع من تقاليد عسكرية قديمة ومن انضباط صارم. [على الأقل يملك النازيون هذا الكم من الاحترام للذات، يمنعهم من استغلال مديح الصحافة العالمية..].
وأنا هنا لا أكتشف طرق التسويق الإعلامي والإشاعات مجددًا. هذه أمور بديهية. أنا فقط أستدعي أمثلة حيّة من ذاكرة التاريخ، كدليل بسيط على عمق الكذبة التاريخي. إضافة إلى ذلك: معرفتك الجديدة بأصل المصطلح لن تغيّر من أي شيء أصلًا . فالإعلام لا يملك رمزية تمثّله، وبالتالي لا يحتاج لاعتذار وتصحيح رسمي ولا حتى هو مطالب بتحمّل أي مسؤولية أخلاقية. لاحظ أن الإعلام يطالب دائمًا دون أن يوفر هو أي مقابل. ولعل أجرأ وقاحة سياسية معاصرة هي المطالبة بـ ”حرية الإعلام“. وهم لا يصدق به سوى المغفّل السياسي أو السياسي الذي يريد أن يحتال عليك أو يسوّق إليك بضاعته. وأنا أجد أن أي نقاش جدّي حول مستقبل السلطة في أي رقعة جغرافية، يحتاج إلى ضبط الدور الإعلامي من ناحية المنفعة العامة والمسؤولية الأخلاقية وتبعاتها.
على مستوى النزاع بين الجموع، فالحرب هي الفيصل؛ وعلى مستوى الأيديولوجيات، تصبح السيطرة على تعريف الحرب وأخلاقياتها بمثابة الانتصار الحقيقي ـ وهنا تحتاج لسلطة رابعة؛ ويفضّل أن تكون عولمية وتؤمن بحقوق الـ … you know the drill. هيمن على سلطة تعريف العدو وأخلاق الحرب، وستخضع أكثر من ”عدو“ في آن واحد. أي جرّد الحرب من أخلاقياتها الذكورية العنيفة، وستتحول فورًا إلى وسيلة غير مباشرة، تطيل المصيبة، لا تنهيها. وفي عالم ديمقراطي، تصبح الحرب الوسائطية هي طريقة ناجحة لكسب أصوات السذّج. خصوصًا في الشرق الأوسط.
أكتب هذا المقال ونحن في الشهر الخامس من العام الثاني بعد كورونا. وأفترض أن بعضكم قد لبّى نداء التعاضد الاجتماعي وبقي في بيته، في وقت يمرّ فيه الاقتصاد العالمي بركود يقتل حرفيًا. طبعًا هنا لا أقارن وفاة الملايين من الأطفال تحت سن الخامسة بسبب الجوع والفقر وانقطاع المساعدات ببشاعة كورونا وعدد وفياته فوق الـ 3 مليون من كبار السن..
لكن يا ترى، كيف سيبقى المواطن الصالح في بيته وهو معرّض لقصف مستمر بصواريخ أرض ـ أرض، على أرض ملعونة أصلًا؟
”stay the fuck home“ بسبب فشل القبّة الحديدية، أم أن خطر الفايروس أكبر على أعداد البشر هناك؟ تابع الأرقام وقارنها، من باب الإثارة.. وماذا عن الحرب وسط جائحة تصيب الجميع دون استثناء؟ من المذنب وكيف نصف العدو كي نبرر الحرب؟ ما هي اللغة المناسبة لكسب الحرب قبل أن تبدأ؟ فكما تعلم، تحتاج الحروب اليوم لنيل رضا الإعلام العالمي وكسب استحسان الرأي العام قبل كل شيء؛ فسبب الحرب نفسه لم يعد مهمًا أو كافيًا. يكفي أن نفترض المجهول ونجيد تسويقه بالعواطف، كما قال وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفيلد، بضعة أشهر قبل حرب العراق ”There are known knowns … But there are also unknown unknowns“.
وكما تلاحظ، فإن تفاقم الوضع في الشرق الأوسط ـ يا لها من مفاجأة ـ جعلني أتتبعّ ردود الأفعال بدل الأفعال والأحداث نفسها، ولسبب بسيط: إنه الفضول! الفضول بمراقبة حالة النشاز الإدراكي وردود الأفعال التي ستصدر من عقلية المتعولم وهو يحاول استيعاب الحرب وشرعيتها في ظل هذه الجائحة. ومن هنا تذكّرت أن لتعريف الحرب والأطراف المتنازعة دور مهم في صياغة الفكر في فترات السلام وقبل حدوث أي حرب بين طرفين. الحرب ما قبل الحرب.
كعودي [reactionary]، لا أستطيع المضي قدمًا دون الخروج بتشخيص تاريخي يشرّح تركيبة النظام الأوروبي القائم على حكم القانون الديمقراطي ( ius publicum europaeum democraticum) مبيّنًا آثار التشويه التي وصلت به إلى تركيبته المعاصرة. وتركيزي هنا على ”الأوربي“ نابع من كونه القانون المهيمن والروح العولمية المعاصرة والمؤثّرة على القوانين العالمية، تحت شعار الإنسانوية طبعًا. فحقوق الإنسان والديمقراطية هي قيم تصدّر وتناقش كحقوق مطلقة تنتظر التطبيق فقط وتحظى برعاية أوربية على المستويين، السياسي الدبلوماسي والمالي. وبما أن أوربا قد احتضنت الداء والدواء معًا، يصبح من المعقول والمنطقي أن نتتبّع أبرز الأحداث التاريخية في هذه القارة، صاحبة التأثير الأكبر على الشرق الأوسط.
لكن قبل أن أخوض في تفاصيل هذا التشريح السياسي. دعني أكرر بعض المفاهيم البديهية في اليمين كفلسفة سياسية. في ”الإعادة فائدة“، كما يقول صاحب شركة صناعة لقاحات طبية غير معروف..
قبل اصطياد الماموث
لو حاولنا البحث عن مشتركات في الطبائع والعادات مع أي مجموعة بشرية عاشت قبل 300.000 وحتى قبل 300 عام، سنجد الحرب على رأس القائمة. وربما أقدم بملايين السنين. وأنا أعلم أن مطّ الخط الزمني في رحلتنا هذه نحو ملايين السنين إلى الوراء هو أمر مرهق ومتعب. وإن كان كذلك فعلًا، فربما ستساعدك التحفة الموسيقية لشتراوس An der schönen blauen Donau, Walzer, Op. 314 في الخلفية على هضم بعض هذه السطور، خصوصًا وأننا سنمرّ لاحقًا بالعصور الوسطى.
لكن بما أننا في أجواء ديستوبية كهفية، دعنا نحاول فهم جذور الحرب اجتماعيًا/تطوّريا: الطبيعة وميكانزم التطوّر يعملان وفق ديناميكية سببية؛ عوامل خلّاقة ومحفّزة مثل الجوع والخوف ستقود حتمًا إلى التغيير والتأقلم. فربما بدأ أسلافنا بالحفر بحثًا عن اليرقات والحشرات، ثم تقدّموا تدريجيًا إلى الاقتيات على الجيفة. ثم طوّروا لاحقًا مذاقًا للحوم وتعلّموا في مرحلة ما استخدام الأسلحة (أحجار، عظام، خشب). ولا أعتقد أنه من الصعب تخيّل أحد أسلافنا المشتركة وهو ينبش الأرض بعظمة ساعد أو ساق شجرة، ثم ينزل عليه الوحي ـ لا آسف، هذا حدث ملايين السنين لاحقًا. وربما قام هذا السلف بالدفاع عن جثث أسقطها مفترس أكبر؟ تدريجيًا، أدرك أن الأشياء التي كانت عديمة الفائدة سابقًا، كالعصي أو العظام، يمكن رميها أو استخدامها بتأثير مميت. ومنذ ذلك الحين ونحن ندافع بأفضل خطّة: الهجوم! ومن في اللحظة ولد الصيّاد في داخلنا..
وهذا انتقال مذهل، برأيي. فعلى الرغم من أن السلاح قد لا يكون الأداة الأولى التي استخدمها أوائل البشر قبل مئات آلاف السنين، إلا أنه يمثل أول نجاح كبير باستخدام الأدوات. فمن هنا تحوّل هذا القرد الصغير إلى كائن خطر جدًا. وبمجرّد أن بدأ بالصيد، انتقل بسرعة كبيرة إلى لعبة أكبر وأخطر، وبالتالي إلى صيد فرائس تفوقه حجمًا بأضعاف. ولا نستغرب عندما يخبرنا بعض علماء الأنثروبولوجيا أنهم قد لاحظوا آثارا لضربات بأدوات حادة على العديد من الجماجم المكسورة لبقايا أسترالوبيثكوس، مما يشير إلى أنهم قد استخدموا العنف وبحماسة ضد بعضهم البعض.
قد تحلل العقلية النمطية المسالمة هذا السلوك من باب الهمجية الحيوانية (وكأننا لم نعد كذلك)؛ وهو تفسير غريب لو تمعّنت فيه لوهلة: فالعنف هنا فضيلة خلّاقة، لولاه لما أشبعنا بطوننا، ولما حافظنا على بعض اللحوم لأطفالنا ليتجاوزوا جوع اليوم، ولما حافظنا على أرواحنا أصلًا، أو تمكّنا من التعاضد على بناء الأسوار والجدران والتعاون داخل المجموعة. بل أن وجودك اليوم نفسه هو ثمار هذه ”الفضيلة“.
ثم أسأل، أين هي الهمجية في فن البقاء بأي ثمن وتحت أشرس الظروف؟ أنا يمكن أن أصدم البعض وأقول أن العنف هذا هو النظام بحد ذاته. أي استعادة التوازن في السلسلة الغذائية وضمان استمرار الجينات بشكل متناسق وسط ظروف متقلّبة، طقس بارد قارص، حيوانات مفترسة شرهة ومجاميع أخرى تتربّص بك لتنقض عليك وعلى عائلتك في أول لحظات ضعف. والعنف هنا يعني القوة، لا الهمجية. والغاية من الحرب في نهاية المطاف هي تأمين المساواة والتوازن بين الدول، الدفاع عن النفس، الأرض والعائلة. في نفس الوقت كان استنتاج أبرز العلماء آنذاك مطابقًا إلى حد ما مع الموقف الفلسفي من الحرب.
ومع أني لم أتوقّع كتابة مثل هذه النصيحة يومًا ما، لكنك لو بحثت في آراء الكثير من العلماء القدماء حول مواضيع اجتماعية وسياسية مهمة إلى يومنا هذا ـ في عصر ساد فيه الفضول على عقليتهم بعيدًا عن أضواء الشهرة وفساد التمويل ـ فستجد فيها موضوعية ورصانة أكثر من أغلب تلك المعاصرة اليوم، خصوصًا عندما يمس الموضوع بديهيات عولمية بخصوص الحرب والسلام والتعريف السائد منذ معاهدة ڤرساي. ففي الماضي، كان العلماء لا يزالون يتخذون قرارات بصيرة جيدة، وذلك لأنهم ترعرعوا في ثقافة سبقت فساد العِلم من خلال السلطة.
في كتابه ”أصل الانواع“، حاول داروين إعادة قراءة الحرب من زاوية تطوّرية/اجتماعية. ولو طرحت استنتاجه على عدة مفكرين وأكاديميين معاصرين دون ذكر أسمه، لاتهموه بالتطرّف والهرطقة. الحرب كمحرّك رئيسي للتطور الثقافي؟ ماذا عن حرية الاقتراع والمساواة في كل fuckin’ شيء؟! أتكفر بآلهتنا يا داروين؟
من حسن حظه أنه لا يعيش بيننا اليوم، وإلا لكان قد عانى من ”الكاتدرائية“ مثلما عانى مع الكنيسة من قبل.
داروين لم يفهم الحرب كغريزة مغروسة في الفطرة وعلى وتيرة ثابتة، بل فهمها كسلاح طبيعي كان وسيبقى عرضة للتلاعب والتحسين. في رأيه، تساهم كل بدعة عسكرية إلى حد ما في تقوية العقل الجمعي. وإذا كان الاختراع مهمًا، فإن القبيلة ستزداد أعدادًا وتنتشر وتحل محل القبائل الأخرى وتهيمن على أهم المصادر.
وأنا لا أذكر هذه الأمثلة حتى أبدو وكأنني باحث يعمل في متحف للآثار. لكن مطّ الخط الزمني مع كل قراءة لفهم تطوّر التعقيد الاجتماعي، يجعلك قادرًا على استيعاب التالي، وهو أن العنف والصراع والحرب من أجل البقاء والثروات هي أصل كل شيء نسميه اليوم حضارة. وروح الفضيلة التي تتبلور عن هذا الفعل الجماعي هي ذلك الشعور بالمسؤولية على مستوى جمعي. الطريف بالنسبة لي، هو أن بعض العقول الأكاديمية تخرج باستنتاجات مشابهة، لكن ولسبب أجهله، تتوقّف عقولهم عند الإنسان المعاصر ويتعاملون معه وفق عقليته بمعزل عن تاريخه القديم وغرائزه وفطرة الطبيعة داخله.
لكن من أنا لأحكم؟ فعلى ما يبدو لا تنطبق قوانين الطبيعة على الإنسان في بعض الحالات، كما هو الحال عند تصنيف البشر بين ذكر وأنثى؛ حيث يرى بعضهم الفروقات كبدعة اجتماعية. أو، كما أتخيّل العالم من داخل عقل سارة سلڤرمان، أن السلف المشترك كان متحوّلًا ts جمع بين صفات الجنسين وبالتالي كان سبب استمرار الجنس البشري؟ And why the fuck not؟ Love always wins…
تعريف الحرب = أخلاق الحرب
لو عدنا لأبعد نقطة في التاريخ المدوّن، سنجد أن الحرب هي الروح الخلّاقة للأحداث في المدن على ضفاف الأنهار، بين أودية الجبال أو على سواحل البحار. الجميع حارب، فيما بينهم وضد الآخرين. لكن من أجل ماذا؟
هذا السؤال مهم لأن الإجابة النمطية والشائعة عليه غير كافية. ولكي نفهم طبيعة المؤسسات التي تبلورت عن هذا التكتل والاختلاط بين البشر، علينا أن نفهم تصوّراتهم البدائية عن الوجود، عن الدين وعن اللغز الأكبر والأشد وقعًا على وعيهم: الموت. يقول المؤرّخ العودي نوما فوستيل دي كولاچ: ”لكي نفهم مؤسسات القدماء، على المرء أن يمعن النظر في معتقداتهم الأولى“.
المشكلة في مثل هذه الانطلاقات التاريخية، وهذا خطأ أحاول أن أتجاوزه قدر الإمكان، هو أن التاريخ طويل جدًا ولا يمكن لأدمغتنا استيعابه بشكل كامل. وعليه لا بد من الانطلاق من نقطة ما، مدركين في نفس الوقت نسبة اللادقة في هذا التعريف الزمني. الفكرة هنا ـ وهذه نصيحة أكررها على كل من يسألني عن المراحل التاريخية التي تستحق القراءة دون غيرها ـ هي أن تبدأ برسم لوحتك الخاصة عن الخط الزمني للتاريخ؛ فبدونها تضيع وسط شساعته وعمق/تباين تفاصيله! وهذا المثال التالي ـ مستوحى من كتاب الرائع فولر توري (سبق وأن ترجمت منه بعض المقاطع) ـ سيساعدك على تتبع التعقيد الاجتماعي والفكري للإنسان بشكل مقتضب:
لو استقرينا زمنيًا على الفترة قبل 150.000 – 100.000 عام، يمكننا أن نفترض وفق المستحاثات المكتشفة في الكهوف، أن الأصداف التي كانت تستخدم، على ما يبدو، لصنع قلادات زخرفية يلبسها أسلافنا حول رقبتهم، تشير إلى أنهم امتلكوا القدرة المعرفية على التفكير بما قد يفكّر به محيطهم حولهم. وهذه علامة للتطوّر المعرفي. فاكتساب ذاكرة تستوعب السيرة الذاتية بجانب المهارات المعرفية الأخرى، قاد ربما إلى الثورة الزراعية قبل 11.000 عام. هذا التكتّل الاجتماعي في مكان واحد سمح بدفن الموتى بجانب الأحياء؛ وبالتالي، لن نستغرب من أن فكرة عبادة الأسلاف وتقديسهم قد بدأت بعد هذه المرحلة. فمع زيادة عدد السكان، ظهرت التسلسلات الهرمية للأسلاف بشكل لا لبس فيه. وفي مرحلة ما، ربما بين 10.000 و 7.000 سنة مضت، عبر عدد قليل من الأسلاف المهمين للغاية خطاً غير مرئي وارتقوا قصصيًا لمرحلة أشبه بالآلهة. قبل 6.500 عام، أي مع بداية التدوين وعندما أصبحت السجلات المكتوبة الأولى متاحة، ازداد عدد الآلهة عبر المجتمعات.
في البداية، تركّزت مسؤولياتهم على القضايا المقدّسة والمحورية في حياة الإنسان القديم: الحياة والموت، وبرأيي الأمر لم يتغيّر كثيرًا. بطبيعة الحال وفي وقت لم تكن هنالك عائلة بقوة توازي مكانة عائلة تارگاريان (GoT)، أدرك القادة السياسيون فائدة الآلهة وزادوا من تكليفهم بواجبات علمانية أيضًا، مثل إقامة العدل وشن الحرب، وحماية المستضعفين (أو التضحية بهم، كل إله ومزاجه طبعًا)، وطرد الأعداء وحماية الحصيل الزراعي أو الدفاع عنه. ويبدو لي أن مزاج الآلهة في الشرق الأوسط قد تأثّر بدرجات الحرارة العالية في المنطقة. وإلا كيف نبرر غضب كبير الآلهة ورب السماوات والأرض عند السومريين ـ إنليل ـ من البشر ومعاقبتهم بالطوفان، لأن ضجيجهم أزعجه في نومه؟ مع أنني أجد الغرق أكثر رحمة من الغليان في جوهنّم إلى الأبد؛ لو خيّرت طبعًا..
وكما تلاحظ، فإن أخلاق القوم تنعكس على صورة أجدادهم أو آلهتهم؟ لكن ماذا عن أخلاق الحرب؟ أي عادات و سلوك الجماعات والأفراد أثناء الحرب.
أغلب الألواح والمصادر التاريخية في وادي الرافدين، النيل، النهر الأصفر أو نهر السند، تنقل لنا تفاصيلًا عن معارك حدثت عادة من أجل الدفاع عن أو توسيع مصادر الثروة الإنتاجية: المياه والأرض والحيوانات، خصوصًا وأن هذه المجتمعات كانت قائمة على الزراعة بالدرجة الأولى، وهذا ما يجعل الأرض وإمدادات المياه الكافية أمرًا حيويًا لرفاهية مدنهم. حيث قاتل أجدادنا القدماء ـ قبل الأديان التوحيدية ـ من أجل ما هو حيوي وضروري لهم قبل أي دوافع أخرى أقل أهمية مثل التفوّق العرقي أو الحصول على المزيد من الأرض فقط أو الدفاع عن الآلهة نفسها. وعلى ما يبدو ان آلهتهم القديمة كانت غير مهتمة بحرب الفتوحات، حتى جاءت أديان السلام والمحبة وقوس قزح.
ولا تنخدع بالخرائط التاريخية لمساحات الإمبراطوريات وحدودها الطويلة. فالغاية الرئيسية منها هي لتوضيح النفوذ فقط؛ كما ولا يمكن مقارنة الأخير بنفوذ الدولة المعاصرة. في مصر القديمة مثلًا، حكم منتوحوتب الثاني وخلفائه من مدينة طيبة كعاصمة للبلاد ـ أي 800 كم جنوب البحر الأبيض، حيث أقتصر نفوذه على بعض الكيلومترات على ضفاف النيل وبعض الواحات المحيطة.
وحتى عندما وسّع تحتمس الثالث (منتصف الألفية الثانية ق.م.)، أحد أعظم وأشهر فراعنة مصر القديمة، نفوذ الفراعنة نحو الشام وقرب الساحل، فهو كان يقتصر في تأمينه العسكري على طرق التجارة وتأمين وصول الخشب والحجر والبرونز من هناك. انتصاراته العسكرية ومكاسب من لحقه كانت تنتهي عادة ببناء صروح ومعابد تمجّد آمون، لكن في مدنهم، لا في مدن المستعمرات أو المناطق الجديدة. حتى الجدران والخنادق التي كانت تبنى للحماية من الهجمات من الشرق، كانت تبنى على أطراف الدلتا، لا في في صحراء سيناء.
في سومر، لم يكن هناك جيش دائم، رغم أنه ربما كان هناك بعض الجنود المحترفين. وعندما أعلن الملك والكاهن الأكبر ومجلس المدينة الحاجة إلى الحرب، فهم كانوا يدعون جميع المواطنين الذكور والأحرار إلى حمل السلاح.
ليس هذا فحسب، بل كان على كل مواطن إحضار أسلحته الخاصة معه. الأسلحة الشائعة تضمّنت الأقواس والرماح والفؤوس والصولجان والسكاكين وبعض أدوات الزراعة، بينما كانت الدروع الواقية نادرة. فقط الجنود المحترفين يرتدون خوذات من النحاس أو الحديد. ومع أن هذا لا يطابق ما تنقله الصور المنقوشة على الحجر أو المرسومة على الجدران.
تقريبًا لا توجد حرب مذكورة تفاصيلها ومدوّنة تاريخيًا خاضها بشر على سطح هذا الكوكب، بدون تعديلات ومبالغات وفق تصوّرات المنتصر. ومع أن هذا قد يبدو بديهيًا عند البعض، لكن العولمي المعاصر لا يجدها تنطبق على السرد القصصي لما بعد الحرب العالمية الثانية. فنحن نعيش قصة المنتصر ومازلنا داخلها، الكثير منا ينسى ذلك!
حتى أول إمبراطور في العالم، سرجون الأكدي، لم يكن بهذه السذاجة ليوسّع إمبراطوريته دون التفكير بثمن الحفاظ على استقرار مدنه. حيث اقتصر نفوذه على المدن ومحيطها، لا أكثر. ومدة حكمه وحكم حفيده لم تخلو من الانتفاضات والشغب والخيانة داخليًا ـ في النهاية نحن بشر، وهل هنالك لعبة أكثر إثارة من لعبة العرش؟
هنالك ترجمات لقصائد تاريخية عن سرجون ونرام سين، تنقل لنا صورة تؤكّد الغرض الحقيقي من التوسّع الإقليمي. يقال عن هذه السنوات من حكم سرجون على أنها كانت وقت وفرة الطعام والشراب والسلع الخارجية التي جاءت ألى مدينة أكد، ومن بينها “الأفيال الضخمة والقرود وحيوانات من بلاد بعيدة والخيول الكلاب”، وكلهم جابوا، بحسب القصيدة، على طول شوارع أكد. ومع أنه وصف نفسه بفاتح أرض عيلام ومارحاشي، إلا أن جيشه المنظّم بقوام 5.400 محارب لم يكن قادرًا على استيعاب إدارة كل المدن التي انتصر عليها وضمها لإمبراطوريته من أرض عيلام إلى أقصى غرب الفرات. هو عرف كيف يسيطر على المراكز التجارية المهمة؛ وعندما نصّب حاكمًا على مدينة ما لإدارة شؤونها، كان يعيّن شخصًا أكديًا فقط. نفوذه السياسي امتد عبر ثقافات وأديان متعددة، وعندما مجّد نفسه، أقرّ في نفس الوقت بقوة عدوه وبأسه.
حيث خاض ملوك الماضي الحروب وكأنهم يقابلون نظرائهم. حتى نهاية حقبة الساموراي بقيت بعض القيم والأخلاقيات الحربية تمنعهم من غدر العدو وطعنه من الخلف، وإلى فترة ليست بالبعيدة، كانت المواجهة وجهًا لوجه عند أغلب الجيوش هي نوع من استعراض للكرامة والبسالة، رغم قلة العدد أو تضائل فرص الفوز. ومع أن الحروب كانت وحشية وبعنف مباشر لا يقارن بطلقة جندي عن بعد كيلومترات، إلا أنها عرفت النزال الشريف في أشد لحظات الحماس والحقد.
يقول نيتشه: ”إن المساواة مع العدو هي الشرط الأول لنزال شريف، وحيثما يوجد مجال للاحتقار لا يمكن للمرء أن يخوض حربا.“.
كما تلاحظ، فإن التعالي الأخلاقي وفق هذا المفهوم الكلاسيكي يشترط أن ينصف كل طرف الآخر. وإن كان جيش ما يعتبر الحرب من أجل إلهه الأعظم والأكبر مشروعة وواجبة، فهو على الأقل يفاضل بين آلهة وأديان؛ بينما أجد أحقر أنواع المفاضلة هي عند من يحاول احتكار الإنسانية والتظاهر بالعدالة والتفوّق الأخلاقي.
يكتب الجنرال الصيني والفيلسوف صن تسو في ”فن الحرب“:
”إن فن الحرب محكوم بخمسة عوامل ثابتة، يجب أن يتم أخذها بالحسبان عند السعي لمعرفة حالات الفوز بالمعركة. هذه الشروط هي: (1) القانون الأخلاقي (المعنوي)؛ (2) السماء؛ (3) الأرض؛ (4) القائد؛ (5) الطريقة والانضباط. القانون الأخلاقي يجعل الناس في اتفاق كامل مع حاكمهم. لذا سيتبعونه بغض النظر عن أرواحهم، وبدون أية مهابة لأي خطر كان. […] هذه الرؤوس الخمسة يجب أن تكون مألوفة لأي قائد؛ فمن يعرفها سيكون المنتصر، ومن يعرفها لن تطاله الخسارة.“ وهنا تلاحظ أن المنتصر هو من يتقن اللعبة في نزاع عادل، وليس من يكسب الرأي العام أو يهيمن على سلطة تعريف العدو والطعن بهويته. بكلمات أخرى، لا حاجة لسلطة رابعة عندما ينتصر القوي باستحقاق ويحدث التنافس وفق إطار عادل. ويكمل صن تسو:
”من بين الملكين مشبع بالقانون الأخلاقي المعنوي؟ من من بين القائدين يتمتع بالأهلية والقابلية؟ مع من تكمن أفضلية وفوائد السماء والأرض؟ أي جانب لديه الانضباط مفروض بصرامة وقوة؟ أي جيش أقوى؟ أي جانب لديه رجال وضباط مدربون بشكل أكبر؟ أي جيش فيه ثبات أكبر من ناحية المكافئات والعقاب؟ بواسطة هذه الاعتبارات السبعة، يمكنني أن أتنبأ بالربح أو بالخسارة.“
جرّد مفاهيم الحرب من المثاليات، وستخلق حيّزًا يشغله تجّار المعلومات ودعاة المثالية الأخلاقية والإنسانية. فكل تحالف وكل قرار سياسي سيطاوع الرأي العالمي والإقليمي ويحاول كسب عواطف الجموع قبل أن يكسب أي شيء آخر.
ما بعد الحرب العالمية الثانية وإحياء حرب الجهاد الإلهي (الإنساني؟)
كيف أفسدت الحداثة أخلاق الحرب؟ لتشريح المرض وتحديد الفترة الزمنية، لا بد لنا من تحليل تبعات حرب الثلاثين عامًا في أوربا، نهايتها بصلح ڤستفاليا، ثم الحرب العالمية الأولى والثانية وانتصار الحلفاء.
لكن قبل كل شيء: عندما أستخدم فعل ”أفسدت“، فأنا أفضّل بطبيعة الحال جانبًا على آخر ـ أي أخلاق حرب على أخرى، فلسفة قوم على أخرى. ومن هنا أبتعد عن أي موضوعية في الطرح؛ وأنا لست ملزمًا بذلك. ببساطة لأنني لا أسرد التفاصيل، بل أناقش أبعادها الفلسفية السياسية. ولك الحرية بالبحث بنفسك وبناء تصوّرات جديدة.
يرتبط مفهوم العدو في الجيوسياسة إلى حد كبير بأخلاق المجتمع الحربية؛ ولكي يصبح السلام بين الأطراف خيارًا بديلًا عن الحرب، يجب أن يحمل العدو تعريفًا سياسيًا يسمح له بأن يجلس كخصم ونظير على الطاولة؛ حيث لا يمكن صنع السلام إلا مع العدو. وهذا الاعتراف الضمني بالآخر هو شرط مهم لإمكانية تحقيق السلام كمرحلة تلحق الحرب. ولك أن تتخيّل بقعة ملعونة على سطح هذا الكوكب حيث تعيق مشكلة انعدام الاعتراف بالآخر، ولادة أي فرصة للسلام. المشكلة هنا ليست بالأطراف المتنازعة فقط، بل بانعدام البيئة، أو درجة حراراة العنف اللازمة للخروج بمعدن علماني مسالم؛ لا إنساني ـ لا إبراهيمي.
وقد يستغرب البعض من تصنيفي هذا، وهذا جيّد، لأنك بالتالي تعيد امتحان استنتاجاتك، ولا خسارة في ذلك، أليس كذلك؟ بانعدام البيئة اللازمة أقصد انحسار هذه البقعة زمنيًا وفكريًا بين أخلاق الحرب الجهادية المقدّسة على نهج الإبراهيميات وبين أخلاق الحرب الإنسانوية والدمقرطة؛ أي أننا نجحنا بالخروج بفكر رصين، لكننا أضعناه بسهولة وبسرعة نسبة إلى تاريخ البشر المدوّن. السؤال التالي هو: هل تحتاج المدن لتطهير على طراز نهب ماغديبورغ ولدماء 25 ألف روح قبل أن ترضخ آلهة الحروب لقربان السلام؟
أسهم لهيب الموت (أرض ـ أرض) غطّت سماء المدينة وأرضها قبل أن يدخلها جيش الكاثوليك من القرى و المدن المجاورة. ومع أن هذه الدماء لم تكفي رب الكنيستين، إلا أنها كانت كافية لإقناع ساكسونيا وبراندنبورگ بالتحالف مع مملكة السويد لغزو المانيا نفسها. وحيثما وجد مجاهد ما، وجدنا مصطلح الغنائم. فأبشع الأحداث، من نهب واغتصاب وقتل وسرقة، في تاريخ حرب الثلاثين عامًا لم تحدث على ساحة المعارك، بل على أيدي الجنود المنقذين، مجاهدي البروتستانت في قرى لوثرية، ومجاهدي فيرديناند الكاثوليك في مدنهم وعلى أرض الـ Imperium Romanum Sacrum.
فعلى نهج الحرب المقدّسة، يصبح خيار السلام زندقة. وإن رضي البشر، هل سيرضى الإله هو أيضًا؟
حتى 1648، طغت فلسفة الحرب المقدّسة على الحروب التي رسمت قوانين الجيوسياسة الأوربية (res publica christiana). فبعد زوال الحضارة الرومانية، هيمنة الكنيسة بطرفيها البيزنطي والكاثوليكي، ولمئات السنين، على صياغة قوانين الحرب وتعريفاتها. فأعداء الله ملعونين للأبد، في زمن لم يكن فيه السلام بين طرفين سوى استثناء للحرب أو لشراء بعض الوقت. ومصطلح ”حكم الريبوبليكا كريستيانا“ كان مهمًا في سياق الحملات الصليبية، واستخدم في الوثائق البابوية في القرن الخامس عشر من قبل البابا پيوس الثاني وغيره، والذي تبنّى موقفًا ”إنسانيًا“، واستند إليه في الدعوة إلى حملة صليبية بعد سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح؛ محقق نبوءة محمّد بفتح القسطنطينية (لحظة يتبلل فيها لباس الأخ المسلم من الفرح). لكن هذه الفرحة لن تدوم عندما يقرأ عن خوزقة دراكولا ـ آه نعم، ڤلاد الثالث المخوزق ـ الذي خوزق جنود محمد الفاتح قرب نهر الدانوب. (يصلح كقصة فلم رعب إسلامي ـ مسيحي).
المهم، أن تحاول فهم عقلية الحرب عند الأطراف المتنازعة آنذاك: السلام هنا هدنة مؤقتة حتى يحين موعد القضاء على أعداء الله أو اللورد يسوع. وهذا بدوره يقتل أي بادرة وأي فرصة لسلام طويل الأمد. لكن ما ميّز صلح ڤيستفالن (من الصدف المميزة في حياتي أنني قد ترعرعت في مدينة الصلح هذه Münster بعد أن ولدت في بغداد) هو أن الأطراف المتنازعة ـ فرنسا، السويد، بوهيميا، إسبانيا، هولندا والإمبراطورية الرومانية المقدّسة ـ كانت تبحث، رغم تباين القوى والمصالح، عن السلام بأي ثمن. إضافة إلى ذلك، تعامل كل طرف مع الآخر على كونه عدوًّا من باب ونظيرًا يجب احترامه من باب آخر. بحكم الظروف البشعة طبعًا؛ فالحرب الطويلة استنزفت كل فنون البشاعة عند الجنود والمدنيين واستهلكت كل موارد القرى والمدن، حتى لم يعد هنالك جنود برواتب ولا فلاحين بحصيل زراعي أو دجاجة تبيض. وكأن الجثث المعلّقة في أشجار كل قرية لم تكن كافية، أكمل الطاعون والجوع على بقية من هرب من الحبال.
هذا التعامل مع العدو كخصم، لا كمجرم أو إرهابي، سمح بولادة العلمانية في قلب الاحتقان الطائفي بين البروتستانت والكاثوليك. والجدير بالذكر أن حرب الثلاثين عامًا لم تكن دينية الدوافع فقط، وهذا ما يؤكّده تحالف الفرنسيين الكاثوليك مع مملكة السويد البروتستانتية. لكن هذا بحث آخر. التعامل مع الآخر حصل وفق التوافق الدبلوماسي والتعامل باحترام شديد رغم ظروف الحرب. ولم يحاول أي طرف من زج مصطلحات رنّانة كـ”الإنسانية” أو التظاهر بالتعالي الأخلاقي أمام الآخر. ومن هنا كانت النقلة من مرحلة حكم اللاهوت المسيحي إلى مرحلة الدبلوماسية السياسية والحرب المشروعة، لا الشرعية. إنها اللحظة التي تم فيها عزل الإله عن مهمة تحديد ثقافة الحرب وترك المهمة هذه لأبرز العقول العسكرية والمفكّرة في ذلك الوقت.
قانون الشعوب هذا أعاد تهذيب بعض القوانين الحربية فيما يخصّ سلوك الجنود وعنفهم تجاه المدنيين والأسرى، احترام مفهوم الحياد السياسي، تأمين أرواح السفراء والرسل، تنظيم خطوات الاستسلام أو فك الحصار وأخيرًا الجلوس على طاولة الحوار ومناقشة معاهدات السلام. في نفس الوقت، لم يتدخّل إله طرف ما أو أي قوانين دولية أخلاقية بشكل مباشر. فهدف الحرب هذه لم يكن تغيير نظام دولة جارة أو دمقرطتها بأي ثمن، بل التنازع حول الأحقية بموارد أو أراض ما. ولكي تكون حربًا عادلة، لا يجب إعلان الحرب رسميًا فحسب، بل يجب أيضًا إعلانها من قبل السلطة صاحبة السيادة. فالسلطة هي ما يميز الحرب عن القتل: وقواعد الحرب هي التي تميّز الجندي من المجرم. حيث يعامل الجندي على أنه أسير حرب وليس مجرماً. والأخير يمارس واجبه تحت سلطة دولة ذات سيادة، وعليه ولا يمكن تحميلهم المسؤولية الفردية عن الأفعال المرتكبة بأوامر من قيادتهم العسكرية. ومن هنا بدأ مفهوم الدولة وسيادتها يزداد أهمية وتأثيرًا في التاريخ. بينما تجد مفهوم ”شرطي العالم“، كما هو الحال في عصرنا، لم يكن مرغوبًا ولم يملك مبررات فلسفية/دينية. وهذا ما سمح بترسيخ مفهوم سيادة الدولة أمام الطرف الآخر وأمام الكنيسة نفسها! حيث لم تعد الكنيسة قادرة على تبرير الحرب شرعيًا أو الاكتفاء بحجّة الجهاد الديني. وهذا لوحده طفرة سياسية عظيمة.
وبذلك حرر مفهوم شرعية الحرب ومبرّراتها (jus ad bellum) الذي تبلور عن أحداث حرب الثلاثين عامًا وصلح ڤيستفالن، أخلاق الحرب من هيمنة إله التوحيد. في أوربا على الأقل..
ولأننا كبشر بارعون في تهديم وتضييع الإنجازات الحضارية أكثر من المحافظة عليها، شاءت الظروف أن تخلق هجينًا يهوديــبروتستانيًا بقالب اشتراكي وبقناع إنسانوي جديد. تحديدًا المادة 231 من معاهدة ڤرساي المشؤومة ـ أحدِ أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية. إنها اللحظة التي انتهك فيها مفهوم الـ jus ad bellum ، حيث أرغمت ألمانيا وحلفائها على تحمّل مسؤولية الحرب الكاملة تحت عنوان “انتهاك الأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات”. وليس من الغريب أن يتمخّض عن هذه الأحداث تأسيس عصبة الأمم وولادة الشرطي العالمي الذي لا يعامل الدول كأطراف تتحارب وتدخل معاهدات سلام فيما بينها، بل يعامل من يبادر بالحرب، لأي سبب وبغضّ النظر عن شرعيته، كمجرم بحق السلام والإنسانية. ولن نبالغ لو سمّينا عصبة ”الأمم“ هذه بتحالف بريطانيا وفرنسا لجمع الأتاوى؛ بل لو تتبعت أسباب تجاهل معاهدة ڤرساي للشرق الأوسط ورغبة الدولتين بتقسيم غنائم الدولة العثمانية بينهما، ستفهم قصدي جيدًا. مع أن الولايات المتحدة كانت متربّصة للأحداث رغم البعد الجغرافي، آملة بفتح أسواق جديدة لبضائع السوق الأمريكي.
قد يكون من وراء استثناء مستعمرات الشرق الأوسط من التوزيع ضمن إطار معاهدة ڤرساي غاية ”إنسانية“ و”أخلاقية“ فعلًا، لكن الفرضية المعاكسة تبدو لي أكثر واقعية: فانتقال حيازة مستعمرة من دولة إلى أخرى كانت ستعتبر كتعويضات مادية من قبل ألمانيا والدولة العثمانية، وعليه لن يتوجّب عليهما دفع مبالغ cash كبيرة ومكاسب مادية مهمة، خصوصًا وأنت خارج من حرب عالمية واقتصادك مفلس. الحل لهذه المعضلة بسيط وعبقري: كل ما تحتاجه هو مصطلح “سلام” و”مدينة” يتم فيها اللقاء لاحتضان ”معاهدة”. ومن هنا خرجوا بمعاهدة باريس للسلام ـ تاداااا.
لكن الأبرز من بين كل ذلك هو فكرة الانتداب والتي احتاجت لبعض البهارات السياسية: أبراكادابرا: وها قد ولد ”حق“ تقرير المصير. تحت الانتداب طبعًا. ولكي يكون الأمر مشروعًا من ناحية القانون الدولي، شكّلت عصبة الأمم لجنة للإشراف على حسن إدارة الدولة المنتدبة. وعليه لم تعد هذه المناطق (بما في ذلك فلسطين وإسرائيل) قابلة للتبادل كتعويض، بل وصارت رهينة لقانون جديد يحكم مصير هذه المناطق ويحدد ”حريّتها في تقرير المصير“ وفق مزاج الانتداب والقانون العالمي.
انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لاحقًا، قضى على أي فرصة لاستعادة التوازن السياسي والحربي وسمح لشرطي العالم الإنسانوي بإحكام قبضته على كل تعريفات الحرب وأخلاقها. واحتكار المنتصر للسلطة تحت قناع الإنسانية تجلّى وبسريالية تاريخية في محاكمات نورمبرغ اللاحقة، متناسين أرواح الملايين من المدنيين الذين ماتوا بنيران وقنابل قوات التحالف.
لكن على ما يبدو، فإن منطق orange man is bad (أو braun/brown man is bad؟) أسهل في التسويق وأشهر بدون منازع..
وبعيدًا عن حروب القرن الماضي: فإن أبشع حروب القرن الحادي والعشرين قد حصلت برعاية الشرطي الكبير وساهمت في إحياء أخلاق الحرب الجهادية مجددًا، حتى صارت واقعًا مخيفًا عشناه بظهور الخرافة الإسلامية في العراق والشام في 2014. من دون ذكر موجات الهجرة وأعداد النازحين والقتلى في الفوضى التي تركتها دمقرطة الدول من قوى السلام والإنسانية. عارض الرأي العولمي أو اخرج عن إطار نافذة أوڤرتون الدبلوماسية وستتحوّل من دولة ذات سيادة إلى دولة إرهابية/عدوانية. وهذا يجرّدها من السيادة وحق خوض الحرب أو حق الدفاع عن نفسها.
في النهاية، هذه هي لعبة السياسية المعاصرة: and It is a fuckin’ show. لكن أجدادنا وفي فترة ليست بالبعيدة، أجادوا لعبها بشرف وباحترام متبادل..
نحن نعلم أن المختبرات الصينية في ووهان كانت تجري تجارب على ڤيروسات خفافيش مؤنسنة جينيًا. كما نعلم أن ووهان ليست موطن الخفافيش، ولا حتى الشتاء موسمها. ونعلم أن غالبية الصينيين ليسوا بأكلة للخفافيش. بل أن خفافيش كورونا غير صالحة حتى للأكل.
أيضًا نعلم أن الحكومة الصينية ترفض نشر سجلات أبحاث ڤيروس الخفافيش. ونحن نعرف “مسؤولًا إداريًا كبيرًا” – من داخل إدارة بايدن، أي مباشرة من صلب الدولة الراسخة – يقول:
”لقد كانت هذه مجرد نظرة خاطفة خلف ستار مجرّة كاملة من النشاط المختبري، بما في ذلك المختبرات العسكرية في بجين ووهان وهي تتلاعب بڤيروسات كورونا وإنزيم ACE2 في الفئران وسط ظروف غير آمنة، وبشكل غير مفهوم في الغرب ودون سابقة تذكر.“
إحدى المهارات المعرفية المهمة في العالم الحديث هي معرفة متى تثق بالسلطة. وعندما تفعل ذلك، يمكنك أن تراهن بثقة. وفي حين أن هذا لا يعوّض عن الأخطاء المخرّبة التي قامت بها مجاميع ”الاستخبارات“، إلا أنه يظهر أنه لا تزال هناك قيمة تستحق وقفة.
فالدولة الراسخة لما أخبرتنا بهذا الأمر لو لم يكن صحيحًا. ببساطة لأنه لا يتناسب مع الأجندة البيروقراطية لأي شخص – وبصراحة أيضًا، لا أحد في واشنطن اليوم لديه الخصى اللازمة ليبتدع مثل هذه المعلومات.
فقط علينا أن نفترض أنها صحيحة وننسى نظرية برگر الكنغر المجمّد من أستراليا ونظرية الأمراض الحيوانية المنشأ المزدوجة (انتقال الڤيروس من الخفافيش إلى آكل النمل الحرشفي ثم إلى الإنسان)، ونمضي قدمًا من هنا. لكننا لن نفعل ذلك. ونحن لسنا بحاجة لمعرفة أي شيء آخر. وربما لن نعرف أي شيء على الإطلاق.
وحتى يظهر شخص ما مع حيوان آكل النمل الحرشفي وبدليل قاطع أو خفاش ملطّخ أو آيس كريم ملوّث، فإن الفرضية القائلة بأن SARS-CoV-2 كان حادث مختبر صيني هي الفرضية الصفرية. وهذه المعرفة المفترضة تخزنها في المكان الذي تحفظ فيه كل الأمور التي تفرضها صحيحة في داخل عقلك، على الرغم من أنك لا تزال مستعدًا للنظر في أي دليل ضدها.
لكن ما يهم هو ليس فرضية المختبر، بل التبعات والآثار المترتّبة عليها. ولا يكاد يفكر أحد في خطورة هذه التبعات. لكن قبل أن نتناولها هنا، دعونا نفهم أسباب هذا الانهيار المعرفي. […]
مشكلة العلم الحديث
مشكلة العلم الحديث هي أن عملته تكمن في ملاءمة الأهمية وصلتها بالواقع. في نفس الوقت، لا يمكن تقييم هذه ”الأهمية“ وفق ضوابط علمية صارمة. ونظرًا لأنه لا بدّ من تقييمها بكل الأحوال، فإن الحكم بشأن الأهمية العلمية هذه يخضع في العادة لموازين عقائدية وأيديولوجية.
أي أن القرارات العلمية تبقى ”علمية“، بينما تستحيل القرارات الميتا ـعلمية (meta-scientific)، أي تلك حول موضوع العلم الذي يراد البحث فيه، إلى قرارات عقائدية وبيروقراطية تمامًا.
وكل مجال لديه قائمة بالمشاريع ذات الأولوية على صعيد البحث العلمي. وهذه القائمة تتضمن كل معضلة في الواقع وكل حيّز لمشكلة يمكن أن تمتّ بصلة للبحث في هذا المجال.
بطبيعة الحال، من المثالي أن تكون هذه القائمة، بالنسبة لكل باحث في مجاله، طويلة والمعضلات التي يراد معالجتها متنوّعة قدر الإمكان.
كما ومن الصعب توسيع هذه القائمة ـ لأنه ببساطة يعني التقليل من ميزانية شخص آخر؛ وتقليص القائمة يكاد يكون مستحيلاً. علاوة على ذلك، حتى لو تم تعقّلها بحكمة، فإن هذه القرارات الميتا ـعلمية نادرًا ما يمكن اختزالها لأي منطق آلي أو علمي؛ بل تميل إلى أن تكون بصيرة، معتمدة على ”حكمة واقعية“. وهذا بدوره يشير إلى أن قوى حكيمة وغير علمية يجب أن تكون مسؤولة عن العلم – وهو استنتاج سيقاومه أو يرفضه جميع العلماء تقريبًا وبشدّة. […]
وعندما تحذف مشروعًا من هذه القائمة ”المهمة“، فإنك تمحي وظائف مجموعة كاملة من العلماء في لحظة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: من لديه السلطة لفعل ذلك؟ ج: على الأغلب، لا أحد.
الأهم من صعوبة تغيير هذه القائمة (ذات الطابع غير الرسمي دائمًا – في حال كان لديك أي نشاط تجاري وتعرف ما هي المشاكل المهمة) هي أصالة الكيفية البصيرة في تدبّرها وتنسيقها.
والعلم هو أسلوب للتفكير؛ والقرار البصير هو قرار لا توجد له معادلة مفيدة – فقط الذكاء والمعرفة والحكمة. ومعظم القرارات العملية هي قرارات بصيرة حكيمة وليست علمية. علم الميتا (Meta-science) – أي القرار بشأن العِلم الذي يراد البحث فيه – هو حريف للمعرفة العلمية، لكن قراراته بصيرة ولا تختزل في منطق علمي.
أحد المبادئ الأساسية لعلم القرن العشرين هو ما يسمّيه البريطانيون مبدأ هالدين (Haldane principle) – وهو أن التمويل العلمي يجب أن يوجهه العلماء أنفسهم. وبدت هذه فكرة جيدة في ذلك الوقت. ففي النهاية، كان القرن العشرين هو العصر الذهبي للحارس الذي يراقب نفسه. كما وأن أسوأ شيء يمكن أن يفعله العِلم هو إهدار المال – أليس كذلك؟
اتضح لاحقًا أن مبدأ هالدين كان يعتمد على ذكاء ومعرفة وحكمة العلماء أنفسهم. عندما كان على العلماء أن يكونوا مسؤولين أمام غير العلماء عن هذه القرارات التي يتخذوها، في وقت لم يكن لدى العِلم أي وسيلة لإفساد العامة.
ولكن عندما طُلِب من العلماء اتخاذ القرارات الميتا ـعلمية أيضًا، تبيّن أنه لا توجد علاقة مباشرة بين الحكمة وبين العِلم. بل الأسوأ من ذلك: على عكس العلماء، لم يكن لدى غير العلماء والعامة تضارب في المصالح ضمن القرارات الميتا ـعلمية. وعليه، عندما تبلورت أي حكمة في إطار غير علمي أو ضمن قادة المجتمع، كان على تلك الحكمة أن تقاوم هذا التحيّز الداخلي عند العلماء.
في الماضي، كان العلماء لا يزالون يتخذون قرارات بصيرة جيدة، وذلك لأنهم ترعرعوا في ثقافة سبقت فساد العِلم من خلال السلطة.
لكن في النهاية وبعد فساد العِلم، أصبحت الحجج الخاصة بكل مشروع علمي عقيمة ومجرّدة – ولا يوجد مثال أفضل من الأبحاث التي أجريت حول اكتساب وظائف ڤايروس كورونا (قبل 2019) في الصين والمجتمع العلمي الغربي بشكل عام، والتي أخطأ البعض بتقييم أنها قد تكون مفيدة.
بمجرد ظهور SARS-1، والذي كان من الواضح أنه حادث طبيعي، أصبحت الأمراض حيوانية المصدر لڤيروس كورونا الخفافيش ”مهمة“ وبدأت بكسب الانتباه. خصوصًا وأن هذا الڤيروس قد تسبب بوفاة الكثير من الناس، بل كاد أن يتسبب في جائحة. ومن هنا جاء الفضول والخطر في نفس الوقت: لما لا نعرف المزيد عن هذه الظاهرة الخطيرة؟!
وعليه، هل هنالك طريقة للبحث في مشكلة تكيّف ڤيروسات الخفافيش مع البشر أفضل من ”محاكاة“ المشكلة وخلقها داخل المختبر؟ كما ويمكننا أن نفعل ذلك بأفضل شكل مختبري من خلال ………………. بالضبط، تكييف وتعديل ڤيروسات الخفافيش لتلائم جسم الإنسان. تادااا
فمن الصعب للغاية أن يقفز الڤيروس من الخفاش إلى الإنسان. أولاً، لأن الأنسان لا يختلط مع الخفافيش بشكل مباشر؛ ثانيًا، ارتباط الخفافيش بالبشر على مستوى الشجرة التطوّرية بعيد جدًا. وكما أظهرSARS-1 يمكن للطبيعة عبور هذا الجسر رغم طوله. وإن حدث، فنادرًا وليس بسهولة! وكما تبين لاحقًا، فإن تبعاته مضرّة وكارثية.
SARS-1 هو مرض حيواني المنشأ (ولم ينشأ داخل مختبر)، وكان في طور التكيّف مع البشر، ولكن تم إيقافه والسيطرة عليه قبل أن يتفشى. نما الڤيروس ببطء شديد في خلايانا – ولذلك لم يكن معديًا حتى ظهرت أعراضه. بكلمات أخرى، لم يعبر كل الجسر بعد.
بينما في داخل المختبر، يصبح عبور الجسر سهلًا. وبالتالي يهيمن الفضول: ”لما لا؟“ حيث يمكننا أن نتعلم شيئًا عن الجسر أو الجسور أو شيء من هذا القبيل؛ كما فعلنا في الماضي!
تعريض البشر لڤيروسات الخفافيش هو فعل شنيع يذكّر بالوحدة 731 (وحدة أبحاث وتطوير حرب كيميائية وحرب بيولوجية سرية في جيش اليابان الإمبراطوري)، لكنها على ما يبدو ليست جريمة حرب إذ حقنّا فئرانًا مختبرية بإنزيم ACE2 البشري. (كما أن تمرير الڤيروسات من خلال القوارض هو أمر شائع أيضًا ـ والـ SARS-CoV-2 يحب القوارض وغيرها من فصيلة العرسيات، وقد قضى على مزارع حيوان المنك بأكملها.)
في النهاية، لا يوجد صانع قرار حكيم، سواء كان يعرف ما نعرفه الآن أو ما عرفناه قبل عشر سنوات، سيختار تمويل هذا البحث أو غيره من الأبحاث المشابهة. لكن لسوء الحظ، فإن ”الحكمة“ لا تلعب دورًا في عملية تمويل الأبحاث والعلوم بشكل عام؛ وهذا ما يجعل العلِم ضعيفًا في مقاومة أي تفاهة أو مشروع لا يمت للواقع بصلة هامة.
Covid-19 هو حادث بشري مثل كارثة تشيرنوبيل. لقد حدث لأن الـ SARS-1 (حادث طبيعي)، جعل من الممكن تمويل علومًا وأبحاثًا خطيرة وبعيدة عن الواقع في أهميتها.
وكما هو الحال في العديد من الحوادث الهندسية الكبرى في التاريخ، فإن السؤال لم يعد يدور حول السبب، ولكن لماذا لم يحدث ذلك عاجلًا؟
الرئيس المنتخب بايدن، والذي لم يتقلّد منصبه بعد، هو أشبه بـحلم ميكاڤيلي – خصوصًا الطريقة التي اختتمت بها الانتخابات وأوصلته لهذه النتائج.
8 نوفمبر 2020 كيرتس يارڤن (Moldbug) / ترجمة Saif Al Basri
رغم أني لم أترجم توقّعاتي إلى سطور، ليس من باب المسؤولية ولكن بدافع الجبن، إلا أنني أخبرت محيطي الواقعي قبيل الانتخابات أن النتيجة المفضلة عندي هي ”ترمپ سيفوز، لكن بايدن يسرقها منه في النهاية“.
بعضهم أساء فهمي معتبرًا هذا الموقف ”تسارعي“ لكّنه ميكافيلي فحسب [في النظرية السياسية والاجتماعية، التسارعية هي الفكرة القائلة بأنه يجب تسريع الرأسمالية، أو العمليات الخاصة التي ميزت الرأسمالية تاريخيًا، بدلًا من التغلّب عليها من أجل إحداث تغيير اجتماعي جذري]. أيضًا كنت أقول لأتباع ترمپ إنني ”مؤيد ومناصر لترمپ“، وعليه، ألتف على طول الطريق حتى أنتهي بموقف ”لماذا إذن أؤيد بايدن“. هذا لم يثر الكثير من التوتر بيننا وكان صحيحًا في نفس الوقت.
على أية حال، يسعدني أن أحيي ـ ربما قبل الأوان ولكني أشك في ذلك، انتخاب رجل الدولة الكبير، الزعيم الأمريكي، إشبينة العروس الدائمة والآن العروس نفسها، جو بايدن الصيني. إذا احتاج هذا الرجل المسنّ يومًا ما إلى لعب ورقة أغسطس فهو يعرف جيدًا بمن سيتّصل [أغسطس قيصر، اقرأ عن restitutio rei publicae].
(في الواقع، قبّل بايدن والدتي في الماضي؛ ولا أظنه قبّلها بطريقة جنسية. فزوج والدتي، موظف سابق لبايدن في الثمانينيات، وهو رجل شريف ونزيه. ولذا فأنا لا أسمع سوى الأشياء الجيدة عن قبلة أنظار أمريكا الجديد. بل وحتى أسنانه تشعّ بياضًا ;)).
للانتخابات عواقب
طبعًا لا جدوى من التكهّن بتفاصيل انتخابات فيلادلفيا. يكفي للمرء أن يلفظ جملة ”انتخابات فيلادلفيا“، وستجد أي شخص على قبر مارك توين أو بالقرب منه وهو يشعر بتزلزل الأرض تحت قدميه. السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: هل سبق أن أجرت فيلادلفيا انتخابات حرة ونزيهة؟ (هذا البلد، على ما هو عليه، يبالغ في أخذ نفسه على محمل الجد. هل فكرت يومًا في احتمال أن أميريكا كانت دائمًا مجرّد مزحة؟ أنا متأكّد من أن معظم المؤرخين فكّروا بذلك).
الغرض الجوهري من الانتخابات الديمقراطية هو اختبار قوة الأطراف في الصراع المدني، دون أن يتأذّى أحد. الأغلبية تفوز لأن الجانب الأقوى سيفوز. والأفضل قياس ذلك عن طريق عدّ الرؤوس بدل من قطعها؛ وما تفرزه عملية عد الرؤوس هو تخمينًا معقولًا حول من سيفوز في ”مسابقة“ طرق الرؤوس. بعبارة أخرى: نفس النتيجة، بارتجاجات دماغية أقل: هكذا تحقق أمثلية باريتو في صراع سياسي.
لكن هذا التخمين سيكون أفضل بكثير لو كان يقيس عدد المستعدّين والقادرين على النزول إلى الشارع والذهاب إلى التصويت. فأي شخص يعجز عن الحضور إلى مقصورة الاقتراع من غير المرجح أن يظهر ويشارك لو حدثت حرب أهلية مثلاً. وهذا هو أحد الأسباب العديدة التي تجعل الانتخاب بشكل شخصي وليس من خلال البريد أكثر دقة من غيره. (ربما لو أمكن تأهيل حق الناخبين من خلال اللياقة البدنية، فسيكون ذلك أكثر دقة).
إحساسي هو أنه في العديد من المجتمعات الحضرية في الولايات، يكون التصويت بالوكالة هو الخيار السائد. والأشخاص الذين وردت أسماؤهم في بطاقات الاقتراع موجودون بالفعل. وجميعهم تقريبًا دعموا جو بايدن ”الصيني“؛ أو على الأقل فضّلوه على ترمپ.
مدى قيامهم بأي نشاط سياسي ملموس، بما في ذلك الذهاب بشكل شخصي إلى كابينة الاقتراع، هو أمر واقعيًا ضئيل للغاية؛ ونفس الشيء بالنسبة لارتباطهم بالنظام السياسي. فهم لا يشاهدون سي أن أن كثيرًا. والطلب على سجلّات مشاركتهم عالي للغاية، فكل عنصر إسناد من هذا القبيل يلغي بدوره صوت ريدنيك ضخم ومدجّج بالسلاح على قاربه الجهير [بعض مؤيدي ترمپ]. ولهذا السبب تبدو هذه المدن في البيانات المعلنة مهووسة بالسياسة، بينما نرى أماكن الاقتراع فارغة؛ فمعظم الأصوات من هذه المناطق هي إلى حد ما ”مُنَسّقة“.
ما إذا كان مثل هذا التنسيق يشكل “احتيالًا” أم لا، هو في النهاية مشكلة يحلّها القاضي، لا نحن. وهذا في الحقيقة لا يهمنا. كل ما نحتاج إلى معرفته هو أنه أيّا كان الإنكوبوس [الحضون] الذي هيّج الريح الإلهية في وقت مبكر من ذلك اليوم المظلم المشؤوم، فهو قد ضرب العديد من المدن المتأرجحة، موقفًا الكتبة المطيعين أولاً، رافعًا جو الصيني ثانيًا، مثل بيلبو الذي أنقذته نسور گاندالف. والقضاء الأمريكي النبيل والموقّر، على ما يبدو، لا يرغب في إلقاء نظرة فاحصة على ما حدث.
ربما سينظر القضاء بالأمر نيابة عن ”السوقي ذو الأصابع القصيرة“ [كما يسخر بعض الدمز من ترمپ]؟
في غضون شهرين فقط، سيكون على هاتفه في تواصل مستمر مع محاميه. ربما حتى آخر أيامه. فلن ينسى أحد ما فعله هنا. ولن ينسى أحد أبدًا أي شخص حاول حتى العمل معه. ولا استبعد لو أطلق شخص ما النار عليه وسط الجادة الخامسة [نيويورك]، فسيحصل كأقصى حد على مذكّرة ”حيازة سلاح بشكل غير قانوني“. وعندما يذهب إلى السجن، لن يكون ذلك لكونه قويًا، بل لكونه ضعيفًا.
هل لديه بديل؟ بالتأكيد. لكنه لن يعجبه؛ بل ولن يعجب معظم الناس.
الخوف غير العقلاني من السلطة
التقدّميون يرون أن السلطة هي غاية. بينما يتعامل المحافظون مع السلطة كوسيلة لتحقيق غاية. بمجرد أن يحصل المحافظون على حيّز صغير من السلطة، تجدهم يباشرون في محاولة استخدامها لتحقيق نتائج جيدة. وهذا سلوك غير منطقي.
الطريقة العقلانية لاستخدام القوة هي الطريقة التقدّمية: أي صنع المزيد من السلطة وتعزيز القوة. فسلطتك تنمو بشكل أسّي، وفي النهاية تكون قد حصلت على كل النفوذ، حتى يمكنك الحصول على كل النتائج التي تطمح إليها.
فلا توجد فكرة تقدّمية واحدة لا يثمر عنها نفوذ وسلطة. في نفس الوقت لا أستطيع التفكير في فكرة محافظة واحدة تجني نفس الثمار. وإذا فعل أحدهم [المحافظون] ذلك، فسوف يسرق التقدّميون هذه الفكرة منهم، ثم يقنعونهم بمعارضتها، وبالتالي يعود كل شيء كما كان.
هذا ليس من قبيل الصدفة. فالعيب الكبير لليمين الأمريكي هو أنه بالإضافة إلى عدم قدرته على انتزاع أي سلطة حقيقية، فهو لا يريد أي قوة أو سلطة حقيقية، بل وليس لديه أي فكرة عما سيفعله لو امتلكها أصلًا.
وبينما أكتب الآن، مازال المسار مفتوحًا تمامًا للجمهوريين ـ إذا ما كان بإمكانهم العمل كوحدة متماسكة ـ لأخذ كل السلطة التي يريدونها. لكنهم لا يستطيعون، ولن يفعلوا ذلك. ذنبهم ليس في نجومهم [أقدارهم]، بل في أنفسهم.
كيف؟ الأمر بسيط: إنهم يحتاجون فقط إلى تولي السلطة المطلقة قانونيًا، ثم استخدامها بشكل مطلق. هذا القرار كان من الممكن أن يتّخذ وبجهد تافه قبل أربع سنوات عندما سيطر الجمهوريون على السلطات الدستورية الثلاثة. الآن قد يتطلّب الأمر شقًّا دستوريًا لاستعادة الرئاسة، وزوجين آخرين للوصول إلى السلطة الحقيقية. لكن دعنا نتناول الخطوات بالتفصيل. (تحذير: هذا ”الانقلاب القانوني للغاية“ لن يحدث في الواقع.)
انقلاب قانوني للغاية
أولاً، سيتعيّن على المشرّعين الجمهوريين في الولايات أن يعلنوا أن بطاقات الاقتراع باطلة وأن يقتصروا على الناخبين في يوم الاقتراع، مما يسرق/يستعيد نتائج الانتخابات مرة أخرى. يمكنهم فعل ذلك اليوم، بشكل بديهي وقانوني. ويمكن أن يطلقوا عليه “قانون رائع جدًا وقانوني جدًا” (Very Cool And Very Legal Act).
ثانيًا، لكي يحكموا من جانب واحد بدون العودة إلى الكونگرس، يتعين على الرئيس أن يؤكّد سلطته الدستورية غير المشروطة على السلطة التنفيذية. وهذا مذكور بوضوح في المادة الثانية: مرة أخرى، “رائع جدًا وقانوني جدًا“.
أما بالنسبة لما يسمّى بـ ”قوة المال“، فهذه لا تعني الكثير أمام قوة الاحتياطي الفيدرالي. بما أن الاحتياطي الفيدرالي هو جزء من السلطة التنفيذية، فمن يحتاج إذن إلى اعتماد من الكونگرس؟ لاحظ، حجّمناه بسهولة .. لول.
ثالثًا، الافتقار إلى محكمة عليا مخلصة تمامًا، يدفع بالرئيس نحو الإشارة إلى القيمة الباطلة، اللاتاريخية وغير المنطقية لقضية ماربوري ضد ماديسون [1803، القضية التي خرجت بمفهوم الاستعراض الدستوري في صراع سياسي قضائي في الولايات المتّحدة]، وتأكيد الوضع المستقل والمتساوي للسلطة التنفيذية. فمفهوم ”السيادة القضائية“ هو اختراع ملفّق خرج به القاضي مارشال آنذاك، استحدثه مراعيًا أهدافه السياسية والاعتباطية. قرار بارع جدًا، في نفس الوقت غير قانوني ”جدًا“، وعليه، تبًا له.
دائمًا ما يسعد الرئيس سماع قرارات وآراء السلطتين الأخريتين. وفي ظل الظروف العادية، فهو يطيعهم بلا شك. فعلًا دون مبالغة! ولكنك تعلم كيف هو الوضع الآن. ورغم تقييمه الشخصي الذي لا يستطيع تجنّبه، خصوصًا في حالة الطوارئ الحالية التي تهيمن على الأوضاع الآن، يبقى مسؤولًا أمام طرف واحد: الشعب الأمريكي. وهو يشكرك، بالمناسبة، على ”اهتمامك“ المتبادل.
رابعًا، باستخدام نفس السلطة القانونية ”الرائعة جدًا“ والتي استخدمها أيزنهاور في عام 1957، حينما استدعى الحرس الوطني واستخدمه لحكم الولايات المتعددة بشكل مباشر. لاحظ أيضًا أن قانون Posse Comitatus لعام 1878 ـ رغم اسمه الذي قد يطرب السامع، إلا أنه بمثابة ألم شديد في المؤخّرة ـ لا ينطبق على مشاة البحرية.
في هذه المرحلة، سيكون الرئيس قد أخذ السلطة الكاملة والمطلقة طوال فترة ولايته الثانية. امتثالًا تمامًا لكل حرف أخير من أعلى قانون في البلاد، يكون قد انتقل بذلك من الهزيمة المظلمة إلى النصر المطلق. ولو قارنا واقعيًا، ستتجاوز سلطاته الجديدة تلك التي حظي بها ج. واشنطن أو لينكولن أو روزفلت. وإذا كنت تعتقد أن ولايته الأولى جعلت أمريكا great again، آمل أن تكون مرتديًا حزام الأمان 😉
لأنه خامساً، لا توجد قوة حقيقية، حتى تمارس. فالسلطة هي أشبه بعضلة. واستخدام السلطة يبني مؤسسات قوية. وهناك هدف واضح للسلطة: عضلات النظام القديم. الخطوة الخامسة للنظام الجديد هي تصفية المؤسسات القوية والمرموقة و/أو الثرية للنظام القديم، داخل الحكومة السابقة وخارجها.
وانتزاع كل عضلات النظام البائد هي المهمة الأولى لأي نظام جديد. فبمجرد أن يتم تحطيم جميع هياكل السلطة القديمة وتدميرها، يصبح النظام الجديد حقيقيًا، والنظام القديم وهميًا. فليست الثورة هذه رائعة فحسب، بل إن كل ما تفعله قانوني للغاية – بحكم التعريف. في النهاية، هي من يكتب القوانين الجديدة!
ألم يغلق لينكولن الصحف في وقته؟ … لقد كان مذهلًا بالفعل!
بالطبع، لا تعني تصفية المؤسسات تصفية الأشخاص، مثل ستالين – بل إنها أشبه بإفلاس شركة وخروجها من السوق. بل وقد يغادر موظفيها بـمبلغ إنهاء خدمة سخي جدًا. فبعد كل شيء، هم في الواقع لم يرتكبوا أي خطأ. وحتى لو ارتكبوا ذلك، فلا يزال هناك عملاء شتازي [الشرطة السرّية في المانيا الشرقية] يحصلون على معاشات تقاعدية. لكنه الشيء الصحيح الذي يجب فعله، فحياتهم المهنية القديمة تركتهم عديمي الفائدة من الناحية المهنية. كما أنه دائمًا وأبداً ليس ذنب الموظفين، بل المسؤولين.
سادساً، لا يكفي أن يكون أي نظام جديد مجرد نفي للنظام القديم. فأي نظام من هذا القبيل ينحصر في سياق وحدود النظام الأوّل، مما يعني أن الأخير لا يزال مسؤولًا ومؤثّرًا بطريقة ما. ومن المحتمل أن ينتهي به الأمر مهيمنًا في الواقع مرة أخرى. الضعف والصغر من أي نوع ليسا علامات جيدة في مهد أي نظام.
بدلاً من ذلك، يحتاج أي نظام جديد إلى رؤية مختلفة تمامًا عن البلد الذي سيحكمه. كما ويجب أن يؤدي تغيير النظام الحقيقي إلى تغيير حياة كل فرد في البلد؛ وأن يكون التغيير الحقيقي للنظام ثورة بكل ما في الكلمة من معنى. هدفها، الآن ولبقية حياتها ـ والتي من المحتمل أن تنتهي، مع أن عادة الثورات أن لا تخطط أبدًا لأي نهاية ـ هو تحقيق رؤيتها الفريدة لليوتوبيا والحفاظ عليها.
وللثورة، بما أنها ذات سيادة، كل السلطات التي تحتاجها لتحقيق ذلك – طالما بقيت هذه المدينة الفاضلة واقعية. وبما أن اليمين هو النظام واليسار هو الفوضى، فإن ثورة اليسار هي أشبه بالجزّار وثورة اليمين أشبه بالجرّاح. وإذا احتاجت أمريكا اليمين لتضميد جروحها لبضعة أيام، فأمريكا اليسار بالكاد تستطيع بيع لحمها كهامبگر في السوق. بل وحتى قبل أن تلتئم الجروح وتقع خيوطها، ستشعر أمريكا وتبدو بحال أفضل من أي وقت مضى.
وقبل أن تعي ذلك، سينهي هذ النزاع الانتخابي فترة تاريخية تجاوز عمرها ربع ألف عام.
حسنًا، لا توجد إمبراطورية تدوم إلى الأبد – وهذا ينطبق أيضًا على الجمهوريات. وهكذا تزداد إمبراطوريتنا الجديدة روعة.
لماذا لن يحدث هذا السيناريو؟
في أي خطوة بدأت تتساءل عما إذا كنت مستعدًا بما يكفي لهذه الرحلة؟ لا تقلق. لا يوجد أحد مستعد بما يكفي لهذه الرحلة. ولذلك لا يمكن أن يحدث هذا السيناريو. ربما ليس هذه المرة.
هناك أقلية من مثيري القلاقل من اليمين الراديكالي، لا يسيطرون على أي شيء فعليًا، حتى في داخل الحزب الجمهوري القَصِيّ، قد يقدمون على الخطوة الأولى. ربما يمكنهم اتخاذ تلك الخطوة – اتخاذ قرارًا لا رجعة فيه – وإلقاء نظرة حولهم ليروا ردة الفعل؟
أو ربما يتوقّفون عند هذا الحد، ويكتفون برئاسة عادية؟
بصراحة، كل هذه مجرّد مضيعة للوقت؛ فلتنفيذ هذه الخطة أو أي خطة مماثلة على أتم وجه وبشكل ناجح، يتعين على الرئيس الاستمرار في التحرك نحو الأمام بشكل كامل دون توقّف.
حيث يجب أن تسير جميع التغييرات داخل النظام بأسرع ما يمكن، خشية أن تقوم العناصر المتبقية من النظام القديم بتعبئة قواتها المتبقية. وقد تستغرق الخطوة السادسة بعض الوقت – ولكن حتى إعادة بناء المجتمع يجب أن تبدأ في أسرع وقت ممكن. كما أن أي فراغ في السلطة يعد أمرًا خطيرًا. حيث لا يمكن القضاء على أي نظام بشكل كامل، خاصة عندما تستبعد فعلاً معاقبة موظفيه وأنصاره السابقين.
لذا فإن الأمر لا يقتصر على ذلك فقط، فلكي يحتفظ الرئيس ترمپ بمنصبه (وربما حريته)، سيتعين عليه عبور نهر روبيكون كما عبره يوليوس قيصر واتخذ قرارًا لا رجعة فيه! فحينها سيتعين عليه عبور خمسة أنهار روبيكون مرة واحدة، وسيفعل ذلك دون توقف. خصوصًا وأنه لا يملك بحوزته (أ) خريطة، (ب) جيش أو (ج) قائد أو جنرال يقود في الميدان.
وبمجرد تباطؤه وسط تدفّقات هذه الأنهار، سيكون في حالة حرب مع عدو متعافي ومتأهّب. وكلما تحرك بشكل أبطأ، احتاج إلى القتال بقوة أكبر. فإذا كان يعتقد أنه كان في حالة حرب من قبل، فإن إلغاء الانتخابات سيأخذها إلى مستوى آخر. وهذه هي الخطوة الأولى فقط!
واقعيًا، لا توجد وسيلة لوقف الحرب أو تأجيلها من طرف واحد. وكلما كانت المعركة أسرع، كان ذلك أفضل – فالسرعة والمفاجأة عنصران ضروريان للانتصار، خاصة في حرب العصابات غير التقليدية.
إن أحد الدروس التي يجب أن تتعلّم منها جميع الأطراف في جميع النزاعات المدنية هو أن القوة ليست مرادفًا للعنف. بل القوة هي نقيض العنف. والعنف سيء، والقوة جيدة. العنف فوضى، والقوة نظام. العنف بطيء والقوة سريعة.
إذا استطعت الفوز بالقوة والنفاذ، فماذا تنتظر؟ افعلها على الفور. وإذا لم تتمكن من الفوز بدون عنف، فربما لا يمكنك الفوز على الإطلاق، وربما لا يجب أن تحاول أصلًا.
بالقوة يمكن تجنّب الكثير من إراقة الدماء إذا ما تم تعليم الشباب بهذه المبادئ الميكياڤيلية البسيطة والخالدة، مع أن لكل مبدأ استثناءاته الضرورية بالطبع.
تفسير ما لا يُفسّر: انعدام كفاءتنا
مرة أخرى، لن يحدث أي مما ذكرت – وهذا هو السبب الوحيد الذي جعلني أتحدث عنه. قد تحدث بعض المواقف التي تنطوي ضمن تعريف المهزلة. عدا ذلك لن تستخدم أي قوة، وحتمًا إلا القليل من العنف أو عدمه.
بدلاً من ذلك، سيخسر ترمپ والجمهوريون معًا – رغم أنهم يملكون فرصة الفوز لو ساروا إلى الأمام مباشرة ولم يتوقّفوا حتى مشارف روما. خينها ستكون خطوتهم الأولى هي سرقة الانتخابات بشكل قانوني. لكنني أعلم أنهم لو حاولوا ذلك فلن يحاولوا جاهدين، بل ومن المؤكد أنهم سيفشلون. وإذا نجحوا، فإن خطوتهم الأولى ستكون هي الأخيرة؛ وبمجرد توقفهم عن التقدم، سيتم تدميرهم بسرعة.
وغالبًا ما يشعر المؤرخون بالحيرة من لحظات الخيبة والفشل التي لا يمكن تفسيرها. تخيّل، لو سار الكونفدراليون بعد معركة بول ران [الحرب الأهلية الأمريكية] إلى الأمام مباشرة دون توقف حتى بداية الحدود الكندية، لكانت الحرب قد انتهت هناك وفازوا بها.
فالاتحاديون، على الرغم من عددهم المتفوق وقوتهم الصناعية/عسكرية آنذاك ما كانوا جاهزين للقتال بعد، بل ولم تكن لديهم قوات منظمة أمام واشنطن. كمثال آخر، لو قامت اليابان، بعد غزو ألمانيا للاتحاد السوڤيتي، بغزو سيبيريا من الطرف الآخر، لكانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت أيضًا ولسيطرت قوى المحور على العالم القديم. بدلاً من ذلك، شنّت اليابان غارات على جزر هاواي، وهي أسوأ خطوة عسكرية ممكنة لكل من اليابان ودول المحور. والأسوأ من ذلك، أنه من الصعب جدًا معرفة السبب وراء عدم وضوح القرارات الصحيحة في ذلك الوقت.
ولفهم الأشخاص الذين ارتكبوا هذه الأخطاء علينا فهم أسبابهم التي دفعتهم لتلك القرارات. فقد كان من الصعب على هؤلاء القادة، نظرًا لمبادئهم ووجهات نظرهم، تجنّب مثل هذه الأخطاء بالذات. ومع ذلك، فإن الإدراك المتأخّر لا يرحم عندما يفضح حقيقة أن قادتهم أضاعوا فرصة واضحة لتحقيق نصر كامل، وفشلوا في استغلالها.
ونحن نعرف جانبنا، وأسبابه واضحة لنا. وللفوز بالحرب تحتاج إلى جيش، جنرال، وخطة محكمة. ترمپ مستعد دائمًا لخوض معركة، لكنه ليس مستعدًا أبدًا لخوض حرب كاملة؛ موظفو حزبه ليسوا جنودًا، بل أعضاء لوبي؛ وحتى أكبر مخططينا السياسيين لا يملك أي شيء يمكن أن نصفه بـ الخطة.
ببساطة لا يمكننا عبور الروبيكون والمسير حتى نصل إلى روما. فنحن لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون. ليس لدينا جيش ولا جنرال ولا حتى خريطة. بل ليست لدينا أي فكرة عن مكان روما. بينما نخدع ذواتنا بصفتنا خبراء تاريخيين، إلا أننا في الواقع مجرّد أطفال في السياسة – ولا أقصد السياسيين فحسب، بل الفلاسفة أيضًا.
بالصدفة سألت واحدًا من أفضل هؤلاء ”المثقفين“ ـ وهو كاثوليكي تقليدي وكاتب ومحرر محافظ بارز ـ عما سيفعله أي نظام جديد تمامًا. قال لي: “توفير الخير العام”. وافقت بالطبع. لكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟
طلبت منه أن يدخل في التفاصيل أكثر متسائلًا كيف سيغيّر الحكومة والدول لو افترضنا أنه يملك السلطة المطلقة في كل مفصل من مفاصل الدولة؟ فاعترض بأدب، رافضًا فكرة المطلقة. فأجبته: ماذا لو بدأنا بـ ولاية ثم ولاية؟ هنا أيضًا لم تكن لديه إجابة جاهزة. حسنًا، ماذا عن السياسة الخارجية فقط؟
على العكس، فكل ما كان في جعبته هو قائمة من التعديلات وتصحيحات طفيفة للمسار السياسي. بالتأكيد، السياسة هي فن الممكن، ولكن هذا ليس هدفي من السؤال ولا الهدف وراء التغيير بسلطة مطلقة.
كيف يستحق مثل هذا الشخص الفوز؟ هو لا يملك أي فكرة عما سيعنيه الفوز من فرص خلّاقة. ولا أظنه مستعدًا حتى للفوز. فلم يعمل حتى على حل المشكلة – أو هو وجد الحل ولا يستطسع الاعتراف بذلك.. من يعلم..
نحن في العادة نتوقّع أن يكون الرجل المفكّر مهووسًا بحلمه؛ لكن يبدو أن هذا الرجل الفطن لم يفّكر حتى في تفاصيل حلمه. كما لو كان يقيّد نفسه ببعض المحرّمات حتى أثناء الحلم.
يا ترى، ما هي طبيعة الشخص الذي تجده ليس مستعدًا حتى للفوز؟
أراه مثل كلب يطارد سيارة. ماذا سيحدث لو لحق بها؟ لا شيء جيد على الإطلاق، لا له ولا لأيّ شخص آخر. كذلك لن يحدث أي شيء سيء، لا له ولا حتى للسيارة. فلماذا إذن يستحق أن يدعمه أي أحد؟
ما يمنع الجمهوريين من الحكم ليست بضعة أصوات من داخل المدينة خرج بها سحرة صناديق الاقتراع. فمعظم الأصوات من هذه المناطق هي مزوّرة بل وكانت دائمًا – فهي لا تعكس أي مشاركة حقيقية في أي حوار سياسي حقيقي. وقواعد اللعبة هي أنك بحاجة إلى مشاركة حقيقية كافية لتفوقهم عددا. إنها لعبة غريبة، لكنه هذا هو الواقع.
ونحن نعلم أن الديمقراطيون قد غيّروا من قواعد اللعبة قليلًا هذا العام. وهذا بالطبع ليس بالأمر الغريب وهم يملكون كل القوة الحقيقية على ارض الواقع، اليوم ودائمًا. نعم، في عام 2016 هزم الجمهوريون السحرة وربحوا كل السلطات. لكن هل حكموا بعد أن فازوا؟ هل امتلكوا السلطة وفرضوا القوّة؟
فلماذا إذن نعيد نفس الأشخاص مرة أخرى لمحاولة ثانية؟
قيل لي من قبل أشخاص شبه مقرّبين من داخل البيت الأبيض أن إدارة ترمپ، قبل حوالي عام من الآن، استوعبت أخيرًا أن الرئيس لا يستطيع فعل أي شيء على الإطلاق داخل البيت الأبيض إلا من خلال تعيين مؤيدين فعليين له، وبشكل أمثل أنصاره الفعليين الذين يعرفون شيئًا عن الحكومة الأمريكية ومؤسساتها.
الدرس الآخر الذي تعلّمه داخل البيت الأبيض هو أن هؤلاء الأشخاص لا يمكنهم فعل أي شيء مؤثّر أيضًا، لأن ما يسمّى بـ “الموظفين” (الذين تكون مدة وظيفتهم في الواقع أكثر أمانًا من “رؤساء عملهم) يمكنهم دائمًا تخريب الخطط متى أرداوا ذلك.
ربما بحلول عام 2024، قد يكون ترمپ مستعدًا للتغريد عن كيف أن الشعب الأمريكي ليس لديه سلطة حقيقية على حكومته، بما أن المنتخبين لا يملكون سلطة حقيقية على حكومتهم.
هناك استثناءان: في حين أن السياسيين المناهضين للحكومة لا يمكنهم أبدًا إنجاز أي شيء في الميدان، إلا أنهم غالبًا ما يتمكّنون من تخريب كل شيء لو أرادوا ذلك. فمع أنهم غالبًا لا يحدثون أي تغيير ملموس، إلا أنهم يجيدون الوقوف في طريقه لو مر؛ بل وفي كثير من الأحيان منعه من الحدوث. ومع أن إدارة ترمپ استخدمت بعض هذه الاستثناءات؛ إلا أنها لم تكفي. فالله رب المعارك والانتخابات أيضًا..
ما يمنع الجمهوريين من الحكم هو أنهم لا يشعرون بحقهم في الحكم. والأسوأ من ذلك أنهم فعلًا على حق. فالحق في السلطة ينبعث فقط من القدرة على ممارسة السلطة باقتدار. ومن المؤسف أن الديموقراطيين ليس لديهم مثل هذا الحق أيضًا – بل يمكن القول أنهم أقل حقًا بكثير. لكن الديمقراطيين سيفوزون دائمًا وسيحكمون دائمًا، لأنهم يمثلون الطبقة الحاكمة – ويشعرون بحقهم في الحكم – ورأيهم حيال ذلك لن تغيره أي من نتائجهم السيئة.
هناك طريقة واحدة فقط لمنح أعداء السلطة الشعور بأن لدينا الحق في الحكم: وهي خلق القدرة على الحكم. وهم لا يحتاجون إلى تلك القدرة لكي يفوزوا؛ لكن نحن نحتاجها.
في الواقع، لا يمكن لأحد اليوم أن يتخيل مدى الشعبية التي يمكن أن تولّدها مثل هذه الكفاءة في التعامل مع السلطة، والثقة التي ستصاحبها. الفوز في الانتخابات بأي طريقة أخرى هو مضيعة للوقت في أحسن الأحوال. فالجمهور امرأة؛ والمرأة تجذبها الثقة.
بدلاً من ذلك: كما قال نيوتن إل. جينجريتش: “لديك مجموعة من الفاسدين الذين يزدرؤون الشعب الأمريكي بشكل مطلق، يعتقدون أننا ضعفاء وجبناء للغاية وغير مستعدين للدفاع عن أنفسنا، لدرجة أنهم يتجرّأون على سرقة الرئاسة”.
نيوتن على حق. ولكن كذلك هم مجموعة الفاسدين، للأسف.
الموقف الميداني
في النهاية، أنا سعيد بخسارة ترمپ، فهو كان أكثر من مجرد كاذب – لقد كان الكذبة نفسها. بمجرد قبوله الاحتيال بأنه كان مسؤولاً بالفعل عن الحكومة وبيده زمام السلطة، أصبح متواطئًا في عملية احتيال ضد أنصاره. فهم لم يتمكّنوا من فهم سبب عدم قيامه “بشيء” حيال هذا أو ذاك أو أي شيء آخر.
كان يمكن أن يخبرهم لماذا اختار الانصياع لتأثير من وعد بفضحهم. كان بإمكانه حتى العمل على تغيير ذلك. ترمپ أعُطي الاختيار بين التباهي والشعور بالأهمية، وبين إدراك وكشف حقيقة أنه ليس مهمًا ولا يملك زمام السلطة في البيت الأبيض. لكنه اختار الدرب الأول. وبالنظر إلى أنه فعل ذلك، فإن هزيمته على يد سحرة صناديق الاقتراع في الغرب الأوسط [ويسكونسون، ميشيگان، منيسوتا]، مع أنها ظلم قانوني بحقه – كانت عدالة إلهية.
مع ذلك، فإن ما أنجزه كان أكثر مما تخيّله هو نفسه. فهو لم يفعل شيئًا “لتجفيف المستنقع”. على العكس، فقد ملأه أكثر وتركه مغمورًا – مما جعله (أ) أكثر وضوحًا و (ب) مهيئًا للجفاف بشكل رهيب.
وسيصاب المتسارعيون الذين صوّتوا لـ ”جو الصيني“ بخيبة أمل كبيرة. فلا شيء سوف يتسارع نحو الانهيار.
بمجرد انتهاء إدارة ترامب، لن يخاف أي أحد أو يكره أي شيء بعد الآن. فلا يوجد تهديد يمكن أن يكون مثيرًا مثل ”المغتصب العنصري في البيت الأبيض“. ولن تشعر أي ربّة بيت من ماليبو [Malibu] مرة أخرى وكأنها ضمن المقاومة الفرنسية.
حتى بعد فترة منع الكحول في القرن الماضي ظل بإمكان مصانع الجعة بيع البيرة غير الكحولية في السوق. ولك أن تتخيّل شكل الصحافة بعد عهد ترمپ.
لماذا كنت مؤيدًا لبايدن؟ ببساطة لأنني كنت أتوق لرؤية أعدائي وهم يلقون مصيرهم في البرد ورياح الفقر واليأس الباردة.
ولماذا كنت أنت مؤيدًا لترمپ؟ لأنك تحب رؤية أعدائك يسمنون ويضخمون كالبعران؟ على عكسك، أنا أحب الفوز وأكره أن ينال مني أحد. ماذا عنك، يا صديقي المخلص للرسالة؟
بحلول مارس أو أبريل، ستشعر الطبقة السائدة في أمريكا مثل شعور هانتر بايدن في صباح يوم الثلاثاء. هنتر وهو يتأمّل ـ يعلم أنه ترك غليونه في مكان ما، لكنه لا يعرف أين بالضبط. ما يعرفه هو أن هذا العالم، والذي كان قبل أيام يشتعل وسط أضواء نيران قوس قزح بشعاع مئات النجوم وهي تنفجر في نشوة سوبر نوڤا ذرّيّة بينما تتصادم المجرّات، يصحى ويعي أنه مكان قبيح وممل جدًا. نتوء ظاهر وسط بحر. تكدّس للأبخرة الكريهة والضارة … كذلك، شيء لزج عالق في طيزه. سيلمسه بعد لحظات … أوه مان…
لأربع سنوات، ظل النظام عالقًا مع عارضة أزياء تجمع بين كاريزما ليونيد بريجنيف ونزاهة ويلي براون. ”جو الصيني“ لا يصغر في السن، ودوائر عقله تقاوم بكل طاقتها كل توهج شمسي في نهار أيامه. مع أنه جلب من يخلفه كاحتياط. واحدة تتمتع بكارزما ليندا بلير وكانت ذات يوم تحت حماية ويلي براون [من الديمقراط]. هل من المفترض أن يهدينا الله من هو أفضل؟
المشهد الاستراتيجي الجديد
معالم الإدارة الجديدة ظهرت قبل الانتخابات بقبضة حديدية على الإنترنت قبل أن تستحوذ على نتائجها. والآن بدأت قوائم الأعداء تطول وتطول. ذُق قوة الظلام! [بصوت دارث ڤايدر]. وأجد بعض أعز أصدقائي خائفون جدًا، مع أنه لا داعي لذلك.
نعم، القبضة الحديدية للثورة مروعة. لكن الثورة لا تقتصر على سحق البيروقراطيين الفاسدين فحسب، بل تستنزف طاقة وشغف.
أولئك الذين يراهنون على هذا الشغف سيكتشفون قريبًا أنه لن يحدث تأثيرًا كبيرًا عندما يضغطون على دواسة الوقود، بل وسيجدون أن محطة الوقود التالية تبعد عنهم أربع سنوات من الآن.
قد تغضب بعض الأطراف المتحمّسة من البيروقراطيين الفاسدين وجموع الديمقراط. لكن كل حماسهم ومحاولاتهم الانتقامية لن تؤدّي إلى تشييد معسكرات گولاگ أمريكية.
وفي الوقت نفسه، تجد أمريكا ترمپ في استراحة سريرية مع ناسور خلفي خيالي! فهؤلاء السذّج ظنوا فعلًا أنهم كانوا يلعبون لعبة بقواعد. وحتى حلول فصل الربيع، ستذكرهم كل مسحة في طيزهم ماذا تعنيه جملة ”ولاية حمراء“. ومن دون تمني الألم لأي شخص، فإن للألم هدف. فالألم هو تحذير الجسم للدماغ بخطر لم يتم تجنّبه. «قَدْ مَضَى ٱلْحَصَادُ وَٱنْتَهَى ٱلصَّيْفُ، وَنَحْنُ لَمْ نُخَلَّصْ!». ارميا ٨ ـ ٢٠
وبالفعل، فإن مستقبلهم ومستقبل نسلهم ليس مرتبطًا كما يعتقدون بحكم القانون الديمقراطي، بل بنظام أوليگارشي لا يرحم وطبقة حاكمة منحطّة أخلاقيًا وتكرههم بشكل لا يطاق، ومستعدة للتضحية بمصالحها الخاصة مقابل أي ضربة سادية سريعة في حقهم وهي مرتدية لباس العدالة. وأي شخص رهن مثل هذا الوضع الرهيب الخاضع، يجب أن يستوعب أن مواجهته هو أمر ضروري ومصيري، وأن التخدير هو بمثابة سم، بينما الألم بمثابة هبة ونعمة من الإله.
ومع ذلك، فإن ما يميز هذا الموقف هو أن أمريكا الجمهوريون Red America لديها مشكلة طويلة الأمد، وليست مشكلة قصيرة المدى كما قد يظن البعض. نعم، هناك بعض الوقت المحدود لتصحيح الأمر. فمن الناحية الديموغرافية، سيكون من الأصعب تكرار نتائج 2016 في انتخابات 2024. من يعلم، ربما يكون هناك نوعًا من قانون مور يحجّم ”تكنولوجيا الاقتراع“. لكن الأصعب على الإطلاق من بين كل ذلك هو تصحيح الخطأ هذه المرة. فأربع سنوات قد لا تكون كافية لوضع خطة مناسبة ومحكمة.
بينما ورغم ميولها الانتحارية، لا تعاني أمريكا الزرقاء من أي مشكلة طويلة الأمد. نعم، لديها مشكلة على المدى القصير. فمنتجها فاشل وعقيم. منتجها، بغضّ النظر عن ”جو الصيني نفسه“، هو منتج متعجرف ومغرور بشكل خالص. وإلقاء نظرة على ”تجمّعات مناصريه“ في سياراتهم كافية لأن تثبت لك أن منتوجهم لن تأكله حتى الكلاب. وهذا قبل أن يُنتخب! فحيوية وطراوة رسالته الانتخابية انتهت قبل 50 عامًا..
أما الناس فكالعادة سيشترون هذا المنتج الباهت، ببساطة لأنه يسوّق بقوة. خصوصًا ومنذ عام 2016 أصبح من السهل مناقضة العجرفة المغرورة [منتج الديمقراط] بترمپ وتسويقه على أنه مياه مقدّسة. لكن الأمر الآن لم يعد كذلك.
فالمنتج نفسه لا يحتاج إلى البيع، لكن بائعيه يحتاجون فعلًا إلى بيعه. لذا، فإن رئاسة جو الصيني ستكون بمثابة الجحيم على تجارة الصحافة، والتي إما ستخوى أو تنتهي بإلهاء صحفيها بقضاء وقتهم في احتساء بيرة O’Doul الخالية من الكحول 😉
ومع ذلك، فإن قصة Red America أصبحت أبسط وأسهل للتسويق للجمهور. فهويّتا المستضعف والمتجبّر، تشابكتا من جديد وبشكل عجيب على مدى أربع سنوات بفضل ثورة ترمپ المجهضة، الهزلية والفاشلة، وتم تقويمها مرة أخرى لتبلغ وضوحًا لم تشهده من قبل.
فالطبيعة شفاء؛ وها قد عادوا النبلاء إلى السلطة والفلاحون إلى حقولهم، يدقّون سيوفهم بشفرات المحراث، بينما يمرّ عليهم أحد المفتشين كل شهر للتحقق من وجود محاريث غير آمنة ومشحوذة بشكل خطير …
لعل إحدى الحقائق غير الملحوظة حول الجيل Z، وإلى حد ما الجيل Y، هي أنهم نشأوا على الخيال البائس؛ حيث أصبحت أساليب الدولة الأورويلية الآن مادة كليشيه. بل حتى أن هذه الاستعارات استُخدمت ضد ترمپ، رغم أنها لا تطابق حكمه إطلاقًا. لكن من الآن فصاعدًا وحتى النهاية، ستطابق هذه الاستعارات الواقع كما تطابق القفّازات اليدين. ”لا تقاطع عدوك أبدًا“، كما قال نابليون، ”بينما هو يرتكب خطأ ما“.
ملحق: بعض النقد البناء
مع أنني أكره إبداء اقتراحات حول السياسة العامة. لكن لهجة هذا المنشور، رغم أنها متفائلة، تتسم ببعض اللئم، لدرجة تضطرني لتقديم اقتراحًا إيجابيًا واحدًا على الأقل يمكن أن يترجم لواقع ملموس. وهنا أذكّر مجددًا، إذا كنت قلقًا بشأن اتباع هذا الاقتراح فعليًا، فلا داعي لذلك.
إذا كان أي شخص في إدارة ترامب يقرأ هذه السطور، فهناك شيء واحد مفيد يمكنك فعله الآن. الرئيس لديه تحديدًا سلطة أحادية الجانب مازالت تشكل خطرًا على النظام: سلطة رفع السرية ونشر الملفّات. يمكن إبطاء هذه السلطة وتحجيمها من خلال العملية البيروقراطية، وهو ما حدث عندما حاول استخدامها بشكل طبيعي في آخر ٣ سنوات. بدلاً من ذلك، يمكن للرئيس أن يأمر مشاة البحرية الأمريكية بمصادرة الوثائق ونشرها.
ما هي الوثائق؟
جميع الوثائق – وليس فقط تلك المتعلّقة بصراعاته الشخصية (على الرغم من أهميتها بالتأكيد).
فباستثناء خطط وصفقات الأسلحة، ليس لدى أمريكا أسرارًا كارثية. لكن واشنطن لديها الكثير من الأسرار الحقيقية التي يمكن أن تؤذي النظام فعلًا. وحتى ولو استمر الرئيس كـ “بطة عرجاء” يبقى يحتفظ بكل حق قانوني لنشر كل ملف دون استطالة بيروقراطية أو تأخير.
فعلى سبيل المثال لن يلحق أي ضرر كبير بأمريكا من خلال نشر جميع الوثائق المتعلّقة بالاتصالات السلكية الخاصة بوزارة الخارجية. بل وحتى الأرشيف كله. والكثير من الأذى سوف يلحق بوزارة الخارجية فقط. لكن بشكل عام لا يوجد ملف واحد في وكالة المخابرات المركزية [CIA] من شأنه أن يضر بأمريكا لو نشر. لكن هناك الكثير من الملّفات – بعضها قديم – من شأنها أن تضر حكومتنا بشكل عميق لو نشرت.
أما بالنسبة للأفراد الواردة أسماؤهم في الوثائق، فهل لدى أعداء الشعب هؤلاء حساسية من القوة المدمّرة للشخصيات؟ الأمر سيء أجل، أنا أعرف ذلك،
لكن في نفس الوقت لم يضطر أحد منهم إلى الانخراط في ”عالم الاستخبارات“. والوقت، للأسف، قصير. والأعذار، بصراحة، تزعج وتحبط.
(وأنت تقوم بذلك، سيدي الرئيس، أعد القوات إلى الوطن – ليس فقط من سوريا وأفغانستان، بل أيضًا من ألمانيا واليابان. اترك خليفتك بأحذية أمريكية على الأراضي الأمريكية فقط. قد يغزو ”جو الصيني“ العالم مرة أخرى؛ ولكن هل سيفعل ذلك حقًا؟
الآن، تخيل لو كنت قد خضت السنوات الأربع الماضية بهذه الروح).
تنظير سياسي: الاختراقية ـ مانيفست سياسي للخروج من أزمة الديمقراطية والفوضى
٢/٤ اختراق الأسطورة
قبل أيام قليلة كتبت مقالًا عن موضوع شغل اهتمامي في الآونة الأخيرة لدرجة جعلتني أعيد النظر جذريًا بعلاقتي ككاتب مع القارئ واختياري لأي وسط أو أسلوب [يراعي عامل الزمن] يعالج انحسار شباك الانتباه والاستيعاب عند المتلقّي المعاصر [أي هوموسابينس مرتبط بالإنترنت] في ظل التنافس الشديد للحظي بانتباه ووقت المتلقّي وهذا الصخب الفوضوي والتراكم المعلوماتي الذي لا تسعه قدراتنا الذهنية القديمة تطوّريًا لو قيّمنا هاردويراتنا [أدمغتنا] من جانبها التطوّري والوظيفي.
أنا بشكل عام لا أكتب للعامة بل للمهتم فقط ـ عقلية أفترضها ذهنيًا، كما ولا أنطلق من افتراض أن أي حل سياسي يجب أن يأتي من الأسفل نحو الأعلى، بل على العكس، وأظن أن هذه بديهيات يتفق عليها أي مفكّر بعقلية فلسفية يمينية عودية. لكن التذكير هو من باب ترتيب العلاقة القصيرة الأمد بيني وبينك خلال الدقائق القادمة، مفترضًا أن القارئ في المتوسّط هو شخص مهتم ويستمد أغلب تركيزه في قراءة مثل هذه المقالات واستثمار وقته ”الثمين“ من رغبة باطنية حقيقية. دوافع هذه الرغبة تتناوب بين المتعة، الفضول، الرغبة بالتسلّح فكريًا وبين الحفاظ على تواصل مستمر مع الأجواء السياسية.
عالم السياسة واسع جدًا، وله اتجاهات فلسفية مختلفة قد يسعها عقل المطّلع البسيط، لكن العمق الفلسفي السياسي لكل نظرية يوازي أحيانًا أعماق البحار، وحجم الفجوة يكبر مع كل كتاب تقرأه. من باب، هذا يعلّمك التواضع في تفكيرك، لكن من باب آخر، الحياة تستمر وبقساوة وفيها مشاكل وكوراث سياسية تصرخ في وجهك مطالبة بحلول سريعة، واقعية. كما يكشف لك سطحية وركاكة بعض البالونات الفكرية التي تشغل حيزًا تاريخيًا لا تستحقه فعلًا. جانب من الخبرة التي قد يكسبها المفكّر المهتم وبعمق تفصيلي ممل بالتاريخ والفلسفة السياسية يسمح له بأن ينتقل من مرحلة التشخيص إلى مرحلة التنظير: المعالجة. لكن قبل المباشرة، على من يملك القدرة والرغبة بمعالجة الواقع تجاوز فخّين فكريين:
ـ الخروج من دائرة التنظير الواقعي إلى الطوباوي. ـ عدم الانصياع لمعادلة توازن القوى وتوزيع السلطة. حيث أن الرجال الذين يشاركون في حركة اجتماعية جديدة وكبيرة يتخيلون دائمًا أن عملهم القادم هو معركة من المؤكد أن تنتصر فيها قضيتهم.
مثل الفرضية العلمية، النموذج السياسي المثالي هو منتج فكري يخرج به المنظّرون بعد ملاحظة ومناقشة ”الحقائق“ المعروفة، ويسعون إلى إنشاء نموذج يمكنهم من خلاله مقارنة المجتمع الحالي وتقييمه من أجل تقدير مقدار الخير والشر، النظام واللانظام الذي يحتويه. تأثير هذه النماذج الطوباوية كان دائمًا العامل الأكبر في توجيه عقول الرجال نحو ”الإصلاحات التي يمكن تحقيقها“ من خلال إصلاح النظام الحالي نفسه. لو تتبعت الأحداث التاريخية، خصوصًا الإصلاحات السياسية في المجتمعات البشرية في القرنين الأخيرين: سيكون من الصعب جدًا فهم الدوافع خلفها دون مراعاة ديناميكية توزيع السلطة والثروات داخل المجتمع. المحفّزات للتغير والتنظير على المستوى الأكاديمي تستمد شرعيتها من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تهيمن على الشارع وتشغل اهتمام الوسط السياسي. التغيير في قواعد هذه النماذج الإصلاحية ممكن حتى في ظل استخدام العنف كوسط لحل النزاع، وهي قابلة للتعديل والإضافة بشكل عام أو حتى الاحتفاظ ببعض القديم. ولذلك قد تأتي وتطبّق في غضون عقود بسيطة من الزمن وقد تنتهي بشكل سريع نسبيًا.
الآن، بجانب الفلسفات السياسية أو النماذج الإصلاحية التي تغيّر من معادلة القوى بين الحين والآخر، هنالك نماذج ”إصلاحية“ تتجاوز الواقع والطوباوية حيث لا يمكن سوى تشبيهها بالأسطورة. وعلى عكس الفرضيات السياسية أو الأنظمة الطوباوية، الأسطورة لا تخضع للتقييم المنطقي ولا لميزان التخطئة بين الصواب الخطأ. فالحقائق لا يمكن أن تثبت أنها خاطئة، ببساطة لأنه لا يمكن دحض الأسطورة وهي مدرّعة بجدار عاطفي لا يخترقه المنطق. الماركسية، الديمقراطية والفكر الثوري هي من هذه الأساطير. طبعًا لا ينبغي لنا أن نحاول تحليل مثل هذه الأساطير والأيديولوجيات بالطريقة التي نحلل بها الشيء إلى عناصره، بل يجب أن نحاول فهمها كقوى تاريخية، كتكتّلات (مظاهرات؟) اجتماعية بشرية بعواطف ونسبة مؤثرة من مصادر السلطة؛ كما ويجب أن نحرص على عدم إجراء أي مقارنة بين التبعات الكارثية في نظرنا لهذه الأحداث وبين الصورة التي تخيّلها الناس عن نفسهم وعن طبيعة المجتمع قبل أن يحدث أي شيء.
حقيقة ما يهمني هنا هو تأثير ”الفكرة“ وسيطرتها على ذهن الإنسان كحشرة طفيلية تتحكّم بكل جوارحه وكل تصوّراته عن الحاضر وعن المستقبل. ولا نستغرب عندما يكون الشباب الطموح والمثقل بالضغط الاجتماعي والآمال وما زال في بداية صناعة مستقبله هو الضحية الأسهل لأن يهيمن على عقله خيال الأسطورة. فهم الديناميكية خلف تأثير هذه الفكرة يساعد في الكشف عن منافذ أو لا انتظامية داخل النظام نفسه. اختراق هذه المنافذ هو الوسيلة لغاية أكبر: إسقاط النظام نفسه من الداخل وبوسائله.
بعيدًا عن التصوّرات النظرية، دعنا نعود إلى الواقع: الناس الذين يعيشون في عالم الأساطير هذا هم في مأمن من كل تفنيد ونقد، ولذلك أنظّر ”لاختراق“ هذه الأنظمة بنفس الوسائل التي جاءت بها، من داخل الأسطورة نفسها. وقبل أن أقع في مغالطة تقليدية: شخصيًا لن أراهن على شيء ولا أضمن أن الفكرة ستصل لمن يملك مستلزمات التغيير الشرطية: السلطة والمال والنفوذ. في تأمّلاته حول العنف (ربما أفضل ما كتب في تحليله لعلاقة العنف والفساد العكسية)، ذكر الفيلسوف الفرنسي الذي غازل الفاشية والماركسية معًا، جورج سورل، أنه لا يوجد فشل يثبت أي شيء ضد الاشتراكية. ببساطة، لأن الاشتراكية [والديمقراطية كذلك] أسطورة أصبحت مرادفًا تحضيريًا للثورة في ذهن الكثير من دعاة دين الإنسانوية ومن الأجيال الجديدة التي لم تذق طعم المر وتجارب الماضي الدموية التي قدّمتها الأنظمة الشيوعية والاشتراكية وما زالت حتى اليوم. أسطورتها تجعلها تستمر إلى اليوم، فحتى إذا تم إخضاعها لميزان التخطئة، فهذا يثبت فقط لهؤلاء أن المحاولة لم تكن كافية أو جادة أو كما بدأنا نسمع مجددًا في الآونة الأخيرة: الفشل في التطبيق لا في النظرية، والاشتراكية لم تجرّب بشكل ”حقيقي“ بعد؛ وعليه، يجب أن يشرع المناضلون في العمل مرة أخرى بمزيد من الشجاعة والمثابرة والثقة أكثر من ذي قبل.
حتى تستمر عبر الأجيال، رغم السجل السياسي والاقتصادي الكارثي عبر التاريخ الحديث، يجب أن تحمل هذه الأسطورة في داخلها على تصوّرات اجتماعية مضادة للنقد، مضادة للتاريخ، أشبه بالطفرات التأقلمية التي تجيد باستمرار تحفيز الوعي الجمعي داخل أمة أو شعب أو طبقة اجتماعية معيّنة وتكون قادرة على إثارة مشاعرهم وتوجيه طاقاتهم نحو صياغة هوية جمعية تقمع الهوية الفردية بشكل ضمني. استيعاب البعد الأسطوري لهذه الأفكار التي تحرّك [الثوريين النشطاء] ورفاقهم بقوة، لا يساعدنا في اختراق هذه الأنظمة فحسب، بل يذكّرنا بأن الحضارة التي لا تحافظ على نفسها ولا تمرر هذه المعرفة إلى الأجيال القادمة، سوف تصبح هي الأخرى ضحية لنفس الأسطورة في المستقبل.
لكن ما الّذي تشترطه الأسطورة، بجانب المناعة التاريخية، قبل أن تصل لهذه المرحلة؟ دعني أصفه بالاختلال الوظيفي. ولأن المصطلح مستوحى من المناخ الفكري في مهنتي، سأعتمد عليه في توضيح الفكرة: الخلايا السرطانية في العادة تحتاج إلى طفرات جينية تمكّنها من تجنّب الموت عند مواجهتها خلايا منظومة الجهاز المناعي، هذه الطفرات قد تحدث في مئات الجينات داخل الخلية حتى تمتلك هذه القدرة. هذه القدرة على الاستمرار وتجنّب الموت الخلوي تأتي دائمًا على حساب الأداء الوظيفي الطبيعي للخلية. الأنظمة الاشتراكية الشيوعية والديمقراطية تطوي في جوفها خللًا وظيفيًا تطفو آثاره إلى السطح بشكل لا يمكن تجاهله لو حللت ديناميكية الحراك الاجتماعي داخل أي نظام ديمقراطي. سأعود لهذه النقطة بعد قليل. الخلل الوظيفي هذا وفشل الأنظمة هذه في تطبيق التصوّرات وتحقيق آمال المنظّرين والثوّار قبل اندلاع الثورات يضفي على هذه الأنظمة طابعًا أسطوريًا بجانب مناعتها النقدية ضد التاريخ. لو سألت أشد المعجبين والمدافعين عن الديمقراطية كنظام حكم غير استبدادي عن رأيه في الوضع الديمقراطي الحالي في أبرز الدول التي تصنّف نفسها وفق هذا المعيار، ستجده يقر بأن الأنظمة هذه تحتاج إلى إصلاحات وأنها مهددة دائمًا وفي خطر مستمر. في عام ٢٠١٥ كنت أطالع كتاب ألن ولف ـ ”مستقبل الليبرالية“ وكيف أن الليبرالية بحاجة ماسة على استعادة التوازن السياسي والفكري خصوصًا بعد الكساد الاقتصادي في ٢٠٠٨. يقول ولف: ”يجب تذكير المجتمعات الديمقراطية الليبرالية باستمرار بأخذ الليبرالية التي تحدد هويتها على محمل الجد؛ كما ويجب أن تفهم النداءات المطالبة بإلغاء القواعد الأخلاقية والقوانين الديمقراطية كفرصة للتذكير بأهمية هذه القواعد ولماذا جاءت في بادئ الأمر. […]
وكما لا ينبغي لنا أن نتجاهل الليبرالية من النوع المزاجي الطموح والتقدّمي، المنفتح على الشعور بالاكتشاف والتطلّع إلى المستقبل بإثارة والتعامل مع العالم بروح كريمة.
لكنه شيء آخر ومرفوض عندما يتحول اليساريون إلى محافظين مزاجيين، غير مستعدين لرؤية طرق حياتهم تتغير، أو أفكارهم تُتحدى، أو رؤية مزاياهم الاجتماعية وهي تنكشف. فمن غير المرجح أن تحقق الليبرالية مكاسب كبيرة في السياسة إذا استمرت في معاناتها من هذه الخسائر“.
واقعيًا هذا ما يحدث حول العالم، وربما أبرز تبعاته هي فوز ترامب في ٢٠١٦، الضربة الموجعة التي لم يستوعبها اليسار إلى اليوم.
لكن بعيدًا عن التبرير المعهود والمحاولات الباهتة التي قد تبدر عن أي نورمي يستمد معلوماته السياسية من عناوين البوستات على الفيسبوك وتويتر، الديمقراطية نظام يمكن إثبات خلله الوظيفي بشكل تقني بسيط. إن لم تقرأ عن تحليل روبرت ميشيلز البارع لديناميكية تحوّل التجمّعات الديمقراطية الحزبية إلى هياكل أوليگارشية، فهنا فرصة للاطلاع على بعض المفاهيم الجوهرية في تحليله الذي جاء في بداية القرن الماضي:
مع تزايد التنظيم، يتضاءل معيار الديمقراطية ويزداد معيار الأوليگارشية. هذا ”القانون“ يصف التحول من الهياكل الديمقراطية إلى الهياكل الأوليگارشية في المنظمات الاجتماعية عامة، من الجمعيات النقابية وحتى داخل الأحزاب السياسية. يمكن تقسيم القانون إلى ثلاث فرضيات:
ـ تميل البيروقراطية إلى توليد نخبة في السلطة.
ـ المجموعات الكبيرة من الناس تشكّل دائمًا تنظيمات بيروقراطية لأسباب تتعلق بالكفاءة.
ـ الأوليگارشية الناتجة تؤدي بدورها إلى فساد هذه النخبة الحاكمة.
يمكن شرح هذه الأطروحات بالتفصيل على النحو التالي:
الأحزاب المنظمة ديمقراطيًا والشعبية خصوصًا تميل مع زيادة عدد الأعضاء نحو تأسيس جهاز بيروقراطي داخلها ينظّم هذه الكثرة. وهو أمر قد يبدو لك بديهيًا لوهلة، لكن هذه هي ديناميكية محتومة ولا مفر منها، ووراء ذلك تبعات مهمة جدًا يجب أن نضعها في الحسبان.
الهيمنة الجماعية تعني أن لكل عضو في المجموعة صوت وتأثير متساووين في المقدار والسلطة، ويمكنه بالتالي المشاركة في صنع القرار الخاص بالمجموعة بنفس القدر. بمعنى آخر، في قاعة كبيرة تجمع ألف شخص، حتى تناقش قرارًا واحدًا وبمدة دقيقتين لكل عضو، يعني أن النقاش وحده سيستغرق قرابة اليوم والنصف بشكل مستمر! تقنيًا الديمقراطية لا تستطيع تجاوز هذه النقطة، ولذلك لا مفر من الانتقال إلى النيّابية في الحكم لضمان صنع القرار الديمقراطي.
وقبل كل شيء، يجب إيجاد أماكن كبيرة بما يكفي لتوفير مساحة لجميع الأعضاء، وإلا فإن المشاركة في الجمعيات العامة غير ممكنة لجزء كبير من الحزب. ربما يبقى خيار واحد فقط وهو التجمع في الهواء الطلق، *لول*. وحتى هذا الخيار، فهو محدود في قابليته للتطبيق بسبب تنوّع الطقس والمناخ السائد. بالإضافة إلى ذلك، الجماهير الكبيرة تكون في العادة أكثر عرضة للتأثيرات الخارجية في صنع القرار من المجموعات الأصغر، كما وتكون أكثر عرضة للتذبذبات العاطفية. فيديو بثواني معدودة على تطبيق السمارتفون يمكن أن يغير مزاج شعب كامل في ليلة وضحاها. ولكي نزيد الطين بلّة، الأحزاب التي يتعين عليها فرض نفسها بسبب التنافس الشديد على السلطة مع الأحزاب الأخرى، تحتاج إلى هيكل هرمي مناسب لتجميع قواها في ”النضال السياسي“. وفقًا لميشيلز، هذا يتوافق مع التسلسل الذي لا يختلف عن التسلسل الهرمي للجيش. مركزية السلطة وبالتالي جعل العمليات والقرارات فعاّلة وسريعة بقدر الإمكان.
ومن هنا تنشأ الحاجة إلى التفويض، حيث يتم تعيين المهام لأشخاص أو مجموعات من الأشخاص من أجل حلها بشكل أكثر كفاءة. هذا يعني أن الديمقراطية الفورية تعمل بمساعدة النظام التمثيلي. وهذه هي اللاانتظامية [anomaly] داخل النظام نفسه: استغلال الديناميكية في توزيع السلطة. تادددااا! لو امتلكت زمام السلطة وأردت اختراق النظام الديمقراطي مستقبلًا، فها أنا هنا أقدّم لك المفتاح إلى جبل إيريبور؛ مواجهة سموگ سأتركها لك.
مع تزايد التعقيد الذي يتماشى مع حجم الحزب، يحتاج الممثلون المنتخبون بشكل متزايد إلى الكفاءات من أجل أن يكونوا قادرين على إنجاز المهام الموكّلة إليهم. ويتم اكتساب هذه الكفاءات، من بين أمور أخرى، في الأنظمة التعليمية والتجارب المهنية وربما الشخصية. هذه الكفاءات المكتسبة، والتي تميّز الممثلون مسبقًا عن الأعضاء الآخرين أو الجمهور، تجعلهم يكتسبون وبشكل متزايد فرصًا أكثر وحجمًا أكبر في التأثير على سياسة ومستقبل الحزب والآراء المناسبة فيه ضمن شباك أوڤرتون. إشكالية كبيرة من الناحية الديمقراطية لو تجاهلت إرادة الأغلبية. الآن تأمّل الواقع السياسي الديمقراطي حولك، يا ترى، هل هو أوليگارشي أيضًا؟
الرأي السياسي المعاصر [رأيك أيضًا] هو قبل كل شيء سلعة، وهذا ما تستهدفه الشركات العالمية والتطبيقات التقنية لحظة بلحظة.
الخوارزميات المحفّزة للسلوك الاستهلاكي والتواصل، سواء هنا أو في الإنترنت بشكل عام، تفهم غرائزنا وتنجح في مخاطبة دوافعنا أفضل حتى من أقرب الناس إلينا ولسبب بسيط: سلوكياتنا اللاعقلانية ليست عشوائية وإنما هي منهجية ويمكن التنبؤ بها (.Ariely et al)، فالتشابك العصبي المتشابه داخل أدمغتنا قديم وأنماطه ثابتة ومحكوم بغرائز ووظائف تبلورت عبر ملايين السنين. وما تبرع هذه التطبيقات والمواقع في تطبيقه هو تحفيز ودغدغة أحد أعمق الغرائز البشرية: التواصل الاجتماعي مع الآخرين. لكن مع الآلاف في غضون ثواني ودقائق؟
هذا ما لم تستعد له أدمغتنا من قبل ولم تتدرّب عليه. ببساطة، التقنية أسرع من التطوّر نفسه حتى تتأقلم أدمغتنا معه، وبالتالي نحن ضحية تُفتَرس، انتباهنا ووقتنا القصير والثمين يُستَنزفان باستمرار حتى ندمن. وقدرة الدماغ على الاسترخاء والقراءة الطويلة واستهلاك المعلومات بهدوء لم تعد خيارًا متاحًا، بل عليك أن تعالج نفسك من أجله! قدرة السوشيال ميديا والـ smart phone وتطبيقاته على تكبيل انتباهنا وجرّنا نحو الإدمان بهذه المهارة جعلتني أعيد النظر بكل الوسائل القديمة في طرح وتبادل المعلومات. السؤال الأهم لم يعد كيف، بل كم من الوقت أملك قبل أن يفقد القارئ، بل وحتى المهتم، صبره ويحفّزه انخفاض دوبامينه على البحث عن استثارة جديدة؟
لو تابعت نمو وانتشار الآراء السياسية منذ بداية الألفية الثالثة وحتى اليوم، قد تصل بنفسك لاستنتاج تسطّحها الفكري وتقويض المنطق فيها من أجل عواطف الجموع وكسب أكبر توافق اجتماعي ممكن. أنه الصراع على العواطف قبل أن يكون على العرش، فالعرش نفسه ديمقراطي، كعكة كبيرة موزّعة بين الجميع. دعك من الاستنتاج نفسه، استفسر بنفسك [في حالة امتلاكك لوقت كافي] عن المنظمات الحكومية والحزبية والانتخابية حول العالم وكيف تدرس السلوك الانتخابي، الترندات السياسية، الرأي العام: ما هي معاييرهم؟ كيف تتغيّر آراء الجموع من شهر إلى آخر؟ كيف يؤدي تصريح أو حادثة ما إلى انقلاب تام في الأرقام؟
لا أظن أنه سيصعب عليك استيعاب فكرة نجاح التزاوج بين الليبرالية الديمقراطية والرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية. لاحقًا، عندما سقط جدار برلين في نهاية القرن الماضي، لم يكن للحلفاء [الناتو] أي رغبة حقيقية باجتياح ألمانيا الشرقية أو التدخّل العسكري فيها، على عكس ما خشيه القادة البارزين داخل الـ HVA [جهاز الاستخبارات الأجنبية في ألمانيا الشرقية]. في هذه الفترة كانت الثقة في اجتياح الغرب للشرق اقتصاديًا أحد أكبر الكوابيس السياسية التي خشيتها موسكو وبرلين الشرقية، بل تجاوزت حتى مخاوفهم من اندلاع حرب نووية بين الجانبين. لا تستغرب، يمكنك تخيّل الشركات الغربية الرأسمالية وهي تتسابق بأيام قبل سقوط الدولة نهائيًا على الانقضاض على انتباه وغرائز المواطن الشرقي ”المحروم“. الحظي بحقوق الإعلانات كان ومازال الهدف السامي والإبن البار من هذا الزواج الأيديولوجي؛ طبعًا لا ننسى تحت مسميّات تقليدية ناجحة كالحرية والانتخابات الحرة والديمقراطية. أظنك استهلكت هذه السلعة من قبل وتعلم جيدًا مدى تأثيرها في إشباع رغبة المواطن ”الحر“ بالحرية. حرية الاستهلاك المادي والإفتاء الفكري دون ضوابط وبعيدًا عن أي هرميات تفلتر الغثّ من السمين وتحفّز على العناء والتسلّح بالمنطق، لا تقويضه.
الرأي السياسي المعاصر هو قبل كل شيء سلعة: ولأنه لا يحتكم لأصول المنطق، يصبح رهينة للترند والماينستريم والـ Zeitgeist بشكل عام. وعندما تكون لطفلة بـعمر الـ ١٦ سنة تفتقر للتجارب في الحياة والاستيعاب اللازم لمشاكلها القدرة على عرض سلعتها السياسية كما يعرضها المليارات غيرها أونلاين ودون رقابة، وتلاقي هذا التفاعل الكبير [أرقام وklicks]، فهذا يجعلها سلعة برأسمال كبير، سلعة تستقطب المصادر، الانتباه وتحفّز الاستهلاك. ومن هنا نقوّض التجربة والحكمة والكفاءة من أجل إتاحة فرصة الاستهلاك للجميع [قوة شرائية]. الآن أضف إلى الوصفة بعض العواطف الجيّاشة والمغامرات الفنطازية بإنقاذ الكوكب: كل ما تحتاجه هو هاشتاگ، حساب على تويتر أو أي موقع آخر وصحفي يغطّي الخبر حتى يحتفظ بموقعه أو ”يطش، كما يقول العراقيون؛ go viral“.
من بين الكثير من اللغط الذي تركه أدورنو خلفه، إلا أنه أدرك مخاطر هذا الزواج وإن عجز عن أن تشخيص العلاج الصحيح وحاول إعادة اكتشاف العجلة بالعودة إلى هيگل، ماركس وفرويد. سأعود بدوري إلى استنتاجه واربطه بالتشخيص الواقعي.
كما نفهم من أدورنو ومن بعض رواد مدرسة فرانكفورت [مدرسة فلسفية مزجت بين الفرويدية والماركسية والهيگلية في بداية القرن الماضي، ولك أن تتخيل شكل الهجين]، في مجتمع تحكمه الثقافة الشعبية [اليوم: + الترندات] تصبح كل ثقافة سلعة؛ ويُعرَّف الفن بقيمته الاقتصادية، لا بالمعايير الجمالية التي تلعب دورًا في تحليل العمل الفني ودوافعه وأوجهه التعبيرية. وبهذه الطريقة تصبح القيمة الاقتصادية دالة الجمالية نفسها: السلعة.
حيث تظهر الصناعة الثقافية على أنها ضلال يضفي طابعًا طبيعيًا على العلاقات الاجتماعية للسيطرة عليها. التحليل هنا مفهوم ولوحظ في بادئ الامر في الولايات المتحدة وإنگلترا وبقية الدول التي انضمت إلى القطار الصناعي، أبرزها تلك التلي تخلّت عن أنظمتها الهرمية وانصاعت لموجة الدمقرطة. هذا ”الاسمنت الاجتماعي“ يعمل كوسيلة للهيمنة والتكامل. التكامل فيه يأتي من ملاحظة أن الإنتاج دائمًا ما ينظّم الاستهلاك أيضًا. وهذا ما يجبر ”المثقفين“ أيضًا على إنتاج المعرفة التي تخضع لنسبة فائدة أو تنتج واحدة. اليوم، وبواسطة تطبيقات كـ تيك توك وإنستگرام وغيرها، صار استهلاك المتع الزائفة والقصيرة ممكنًا بواسطة وسائط الإعلام والتواصل، بل وبالعشرات من المحفّزات في اليوم الواحد، ما يجعل الناس وخصوصًا الصغار في حالة من الانقياد لها بغض النظر عن ظروفهم المادية وقدرتهم الشرائية: وهل هنالك متعة أكبر من تبذير أموال ليست بحوزتنا بعد؟
الخطورة تكمن في أن هذه المحفّزات تستهلك انتباهنا بشراهة وتستنزف وقتنا بشكل محبط وتافه، بل أنها تخلق حاجات نفسية نعجز عن إشباعها إلا من خلال الاستهلاك مجددًا. والأسوا أنها تعطّل القدرة على التأمّل في الأمور والأحداث واتخاذ القرار الصائب وسط الفوضى والضجيج والتسارع التقني. بل تقف كعائق بيني وبينك، فوقتك وانتباهك تدرّبا على الفيديوهات والمقاطع القصيرة، واستهلاك المعلومات الطويلة والأخبار السريعة، ولا يمكن لي أن أنافس أي محفّز دوباميني آخر سيحظى بانتباهك بعد قليل. لا تعلم، ربما تقرأ عنوانًا دون الحاجة لقراءة المقال نفسه ومصدره، وبالتالي تضيف لخزينك السياسي ”معرفة“ جديدة خلال ثواني فقط. صدّق بهذه السرعة وبهذه ”الكفاءة“ يحصد مثقفي اليوم والـ SJW والـ Influencers إرثهم الفكري والمعرفي. لكن على ما يبدو، هذا ما يتطلّبه عصرنا لكي تتثقّف.
في ظل حكم أي نظام مستقر وفي أي وقت أو مكان، من بطرسبورغ في القرن التاسع عشر إلى واشنطن القرن الحادي والعشرين، ستجد أن عامة السكان لا يملكون أي إجراء فعّال، قانوني أوغير قانوني، يمكن من خلاله التحكّم بـ أو استبدال الأجهزة المركزية للدولة.
طبعًا هذا أمر طبيعي وليس غريبًا. فالأوتوقراطية شائعة في الأنظمة البشرية. والاستثناءات الواضحة لهذه الشوائع تشيرغالبًا إلى خلل ما في وسيلة الاستشعار أو الملاحظة.
أنتليجنسيا [النخبة المثقّفة] القرن التاسع عشر في روسيا لم يحتقروا القيصر فحسب، بل ربما حلموا بإلقاء وابل من القنابل عليه. الدولة الإدارية الروسية الحديثة، والتي لا تقل استبدادية، تخلو من أي قيصر أو أي عرش. إنها أوليگارشية، وليست ملكية. وبالتالي ليس هنالك من يمكن قصفه بالقنابل وينتهي بعدها كل شيء.
سلطة صنع القرار النهائية يجب أن توجد في مكان ما داخل متاهة بورخيسية [نسبة إلى الكاتب الأرجنتيني الشهير خ. بورخيس، والذي كتب كثيرًا في رواياته عن المرايا والمتاهات وله مجموعة قصصية مترجمة تحت هذا العنوان]. ولكن هذه الدولة المترسّخة في مفاصل السلطة تبقى لا مركزية في شكلها أمام أي استهداف ثوري كـ لامركزية عملة البيتكوين Bitcoin، وحصينة أمام الاقتراعات والرصاص على حد سواء.
في نفس الوقت لا تحصل الدولة المنغمسة والتي تملك سلطة صنع القرار على مبتغاها دائمًا وبسهولة. فالسياسة تحبط مخططاتها كثيرًا، والعنف يغضبها. ولا توجد قوة قادرة على استيعابها بموضوعية أو إتلافها أو حتى مقاومتها بشكل مستمر. مرة أخرى: هذا أمر طبيعي من الناحية التاريخية، وليس غريبًا.
في نظام حكم سليم، تصبح المقاومة العسكرية خيار أحمق والمقاومة السياسية عديمة الفائدة. وأي شخص يظن أن نظام حكم واشنطن القرن الحادي والعشرين غير مستقر أو يحتضر، يجب أن يصلي على ركبتيه أن لا يصيب ظنه ويختبر مثل هذا الظرف.
مع ذلك، هناك بُعد ثالث للثورة: الفن.
الفن هو ميدان اليمين الراسخ أو يمين الفن. ربما لم تلاحظ هذا الكراكن [وحش بحري أسطوري] من قبل؛ لكنه لاحظك!
للحسرة، لوّث الشعبويون هذا المجال من قبل. مثل شعار ”السياسة كتيار منحدر من الثقافة“. لو كانت الثقافة تنطوي على التحبّب إلى الجماهير وكسب استحسانهم من خلال پروپاگاندا متلعثمة ـ كمهزلة الرواية البروليتارية في ثلاثينيات القرن الماضي – لوجب علينا أن نتعذر بصمت.
الفن، إذا كان فنًا على الإطلاق، فهو يهدف نحو إبداع جمالي أسمى. بل أنه لا يتنازل عن سموّه ويلاحظ حتى جمهوره. إذا كان العالم كله أدنى من الفن، فالفن لن يأبه بالأمر. فهو لا يتنافس مع أي شيء سوى نفسه، مع الماضي، والمستقبل. وإن لم يكن سرمدي الجوهر [بلغة سبيونزا] فهو ليس فنًا.
الفن كسلاح
لكن كيف يمكن للفن أن يصبح سلاحًا؟
واقعيًا، الفن خطير للغاية. وأي شيء خطير هو سلاح. دعنا فقط نلقي نظرة على جمالوية واحدة في القرن الماضي وكيف قتلت مئات الملايين من الناس.
روسيا القيصرية؛ التي اعتبرتها الأوساط الفكرية في القرن التاسع عشر خلاصة الاستبداد السلطوي، أنتجت أيضًا بعضًا من أفضل روايات ذلك القرن. كتّابها، باستثناء بعض الأجواز الصلدة مثل دوستويفسكي، لم يكونوا مؤيدين للقيصر. أيديولوجيًا، كانوا أقرب إلى ما يمكن وصفه بضحايا الموضة في لندن – وهو أمر طبيعي جدًا آنذاك.
(ربما كان تولستوي هو الشخصية العظيمة في هذا الجيل. وبالطبع، لن يؤذي تولستوي ذبابة).
في نهاية المطاف أصبحت هذه الإنتليجنسيا الساخطة مهيمنة ثقافيًا لدرجة أنها تمكّنت من تأليب القيصر لمساعدة البريطانيين والفرنسيين على بدء حربهم الكبرى لتعبيد الطريق وجعل العالم آمنًا للديمقراطية. وقد حقق ذلك نتائج كبيرة للجميع – بما في ذلك القيصر نفسه.
إن السبب النهائي للثورة الروسية بأكملها – فبراير وأكتوبر – كان بمثابة أنجلوفيليا [تحبّبًا بـ أنجلترا، ثقافتها وآدابها] تولستويّة … نبضة جمالية [أستيطيقية].
ونبيّ ثورة أكتوبر بالطبع كان كارل ماركس ـ جنتلمان لندن الذي ولد فيها من جديد؛ رجل أفكاره هراء وكتاباته مقدّسة.
حتى البلشفية كانت تجربة أستيطيقية. والنازية أيضًا تجربة أستيطيقية. والديمقراطية هي الأخرى تجربة حيّة. اللعب في هذا الدوري، والتنافس على نطاق هذا المستوى التاريخي، يتطلّبان إيماءات جمالية من قوة عظمى: آلهة جبّارة.
من منظور أكثر دنيوية وبساطة، عرّف فيلفريدو پاريتو الثورة بأنها “تداول النخب”. النخبة الجديدة، بموظفين جدد، مذاهب ومؤسسات جديدة، تحل محل القديمة. والفن هو لغة النخبة: لغة الموهبة. والنخب تعّرف عن نفسها بالفن منذ أكثر من ثلاثمائة قرن!
جميع الثورات تبدأ كشقّ جمالي جوهري. الخطوة الأولى في الثورة الثقافية هي ولادة مدرسة فنية جديدة. وراء هذه الجمالية يجب أن تأتي حركة، ثم مؤسسات فنية. في حال ازدهرت هذه المؤسسات، تصبح هي الجوهر الثقافي للنظام الجديد. فالفن هو الربيع، العتلة والمفصلة لأي تغيير حقيقي في عصرنا.
والهيمنة الفنية ليست مقياسًا تسويقيًا؛ والسلطة ليست دالة على مبيعات الكتب. فالقوة تتحقق عندما تخشى نخب التراث من النخب الثورية الجديدة – عندما تخجل وتتواضع أمام التفوّق المطبق لعملهم، بل وعندما يخشون حتى من نطق أسمائهم. فالهيمنة دائمًا ما تسوّق لنفسها.
أسهل طريق للهيمنة الجمالية هو الحقيقة المجرّدة. فرغم كل شيئ، ميزة واحدة يمكنها أن تجعل أي قصة قبيحة: الأكاذيب.
فمعظم الأنظمة السياسية تنهار وتدمّر من خلال أكاذيبها المتراكمة، مما يجعلها قبيحة، ويقوّض الأسس الجمالية لدعائمها.
وبمجرد أن تبدأ الأنظمة بالاعتماد على القوة لتعزيز سردهم السياسي، يصبح من غير المحتمل أن يتمكنوا من العودة إلى مرحلة تكون فيها قصّتهم قائمة بذاتها؛ قصة اعتقد الناس بها في الماضي لأنها بدت لهم صادقة.
على المدى القصير، يمكن أن تصنع الأكاذيب العجائب. لكن عادة ما تكشف عن نفسها على المدى الطويل. كما أنه ومن الصعب جدًا التخلص من الأكاذيب، حتى عندما تنفد فائدتها. فالأخيرة عادة ما تنجلي وتكشف بشكل جماعي من قبل النظام السيادي الجديد.
وكل نظام جديد يرى سلفه على أنه كذوب ومضلل للغاية. ”قلة هم الخاطئون“. كما قال الكاتب الاسكتلندي كارليل بحق ثورات 1848:
لعلّ هذا هو أكبر كشف عن زيف بشري حصل في وقت واحد. هل هؤلاء الوجهاء الكرام الذين جلسوا وسط رموزهم الساطعة ومهنهم، طويلة الأمد واللفظ، كانوا إذن مجرد محتالين؟
ليس هناك شيئًا حقيقيًا واحدًا كانوا يفعلوه، بل زائفًا ما كانوا يصنعوه. القصة التي رووها للناس كانت مجرّد خرافة مبتكرة. والأناجيل التي بشّروا بها لم تكن تحاكي مكانة الإنسان الحقيقية في هذا العالم، بل مجرّد تلفيق غير مترابط لأشباح ميّتة وظلال لم تولد بعد عن التقاليد، والنفاق، والتكاسل والجبن – زيف وأكاذيب متراكمة لم تتحمل أن تزاحم بعضها البعض. عن عمد ورغمًا عن إرادتهم، كانت هذه الرموز العالية للبشرية إذن مجموعة من الغشاشين؛ والملايين الأدنى منهم والذين صدّقوا بهم كانوا مجموعة من المغفّلين. إنه نوع من الغش العكسي أيضًا، وإلا لما كانوا ليصدّقوا بهم لفترة طويلة. قد يكون التعريف المختصر لهذه الحالة هو الإفلاس الشامل للتدجيل والخداع.
جميع المؤسسات تصاب بنفس حالة الإفلاس هذه. وهكذا تصبح جميعها قبيحة. وحيث تنتج هذه المؤسسات الفن، يجب أن يحتوي في داخله على كل هذه الأكاذيب ويعززها. حرفيًا يصبح الفن نفسه قبيحًا – وجميعنا شهد ذلك.
نحن مدربون على غض البصر عن هذه الأكاذيب القبيحة. نعتقد أنها مجرّد لطخات بسيطة في عالمنا وآمالنا نحو مستقبل أفضل.
فقط هو الفن وبمفرده ـ وليست الحجّة العقلانية ـ يستطيع أن يمسك بأيدينا بينما نخطو خارج هذه الأكاذيب.
ما هو الفن؟ هل “الميمات” فن؟
بالتأكيد لكل جيل رموزه ومثله العليا. وفي اللحظة التي يظهر فيها قصور واحد غير مستور بين هذه الرموز، تقع جميعها تحت وابل الازدراء. وسيسخر منها الجميع، بالأخص المراهقين والصغار، دون أي اعتبار للحقيقة أو الباطل. ومن الواضح أن هذا ما وصلنا إليه الآن.
نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالة رأي رائعة من قبل امرأة ضبطت صبيّها وهو يضحك على ميمة meme عن هتلر. الميمة تبيّن هتلر وهو ينظر خلفه ويشعر بالملل وسط تجمع للحزب. بينما يميل شاب، موالي لترامب ومرتديًا قبّعة MAGA، إلى الأمام محذّرًا هتلر في فقاعة كلامية عن مصير أحداث النورماندي.
بطريقة ما أقنع المراهق والدته بأنه قد أساء تفسير الميمة وأنه ضحك ظنًّا منه أنها كانت تسخر من هتلر. ملخّص الكلام أن الموقف أشار إلى ”حاجة“ الطفل لمزيد من التدريب على التنوع والصوابية – وأنه كان ”فعالًا“ جدًا، كما ذكر. بارك الله في الصغار..
ولكن كما يقول الإنجيل: عندما أصبحت رجلاً، وضعت الأمور الطفولية جانبًا.
هذه الميمات، هذه النكات الصغيرة وألاعيب المراهقة للسخرية من والدته ذات الأربعين، ليست طائرات ودبابات وسفن حربية للنضال الفني من أجل العالم.
عندما يصطاد الأسد، تتراجع أشباله!
أستيطيقيا جديدة، عالم جديد
هنا ما نحتاجه ليس شبحًا من القرن القديم، بل غياب ذلك القرن الزمني نفسه. لا غياب القديم فقط، بل رؤية جديد. وليست رؤية جديدة فحسب، وإنما مؤسسة جديدة؛ ليست مجرّد مؤسسة، بل أكاديمية جديدة؛ وليس مجرّد أكاديمية، بل نظام جديد؛ وأخيرًا، ليس نظامًا فقط، بل عالم متجدد بأكمله.
أصدقائي، أقول لكم بصراحة: لسنا حتى في بداية البداية. خطوتنا الأولى، الآن وقادمًا، هي شيء واحد وشيء واحد فقط: ابتكار أفضل فن ممكن.
الخطوة الأولى نحو الوصول إلى القرن الحادي والعشرين تكمن في استحداثه. الخطوة الأولى في ابتداع القرن الحادي والعشرين تتجلّى في رؤية جمالية فاتنة، رصينة، حقيقية وواضحة لدرجة أنها تهيمن على أستيطيقيا القرن العشرين القديمة وترهبها.
الإنسان ابتدع الفن لسبب واحد: ليهيمن. والطريقة الوحيدة الموثوقة لتغيير أي نظام هي استهوائه نحو الاستسلام والإقرار بالغلبة بكامل إرادته. الإقناع هو سلوك الـ بيتا. فقط أولئك المترددين يحاولون الإقناع. بينما القوي ينجز وينفّذ.
الفن، بأوسع معانيه الممكنة – أو مضمونه، كما قد يقول البعض – هو السلاح غير الدموي الذي يمكن أن يغيّر العالم فعلًا. فالعالم لا يكسب بالقوة، بل يجب أن تغويه بالعظمة. وبينما لن يفتقر العظماء في يوم ما إلى الأتباع، إلا أن عدّهم لم يجلب العظمة لأي أحد من قبل.
وبصرف النظر عن ميشيل ويلبك، فإن Bronze Age Pervert هو أول كاتب معاصر من أعماق الإنترنت في عصرنا فهم وتقمّص هذا الواقع. بالطبع، هذا لا يعني أننا بحاجة إلى رغوته في الكابتشينو. فعندما ينظر المستقبل إلى الوراء، سيعاين حينها إلى كتابه ”عقليته العصر البرونزي“ ويفهمها على أنها محاولة مبكّرة، تم تحريرها وإنتاجها بشكل سيئ، وربما محرج قليلاً، يطغي عليها جانب الزمن أكثر من المحتوى. ومع ذلك، قد يكون (Bronze Age Pervert (BAP حينئذٍ في وضع ومستوى أفضل للتفوّق على كتابه السابق.
(في الواقع، مثل هذا الكتاب، كتاب ذو قوة مؤثّرة حقيقية، لا ينبغي أن يكون متاحًا على شكل إصدار POD سيئ [طباعة عند الطلب]، ولا يجب أن يكون متاحًا لأي أحمق في العالم الرقمي، بل يجب أن يطبع بغلاف من جلد العجل وبطبعة محدودة، تباع عن طريق الدعوة فقط. فكل شيء حول التجربة والكتاب نفسه يجب أن يكون فريدًا، مرهبًا ومذهلًا: فالكتاب، حاله كحال مؤلّفه، يجب أن يزهو ويزدهر).
مع ذلك، الكثير يسيء فهم الرسالة: يرون أن BAP يقدّم نقلة إيجابية لهذا الشيء، ذاك الشيء، وأي شيء مجنون آخر. سواء الأرض المجوفة، تسلسل فومينكو الزمني [نظرية تاريخية مزيّفة تدّعي أن التسلسل الزمني التقليدي لتاريخ الشرق الأوسط وأوروبا مغلوطًا في جوهره، وأن الأحداث المنسوبة إلى حضارات الإمبراطورية الرومانية والإغريق ومصر القديمة قد وقعت فعليًا خلال العصور الوسطى]، الدونية الوراثية لـ شعب الأودمورتيين [في روسيا] والشعوب الفنلندية الأخرى … انتبه! BAP هنا لا يقدّم ”رسالة” بهذا المعنى الغبي.
فمثل سلفه نيتشه، BAP لا يكتب ويأخذ موقفًا من ”هذا“ الموضوع وذاك وغيره. كتابه ليس محاضرة بل لهيب من النار. لا يعلّم، بل يحرق! إنها ليست كلمات، بل فعل.
بالنسبة للآخرين، الصدّيقين بين النورميز، قد يكون الكتاب بمثابة وسيلة لدفع الجدران المتقلّصة داخل نافذة الخطاب السائدة [نافذة أوفرتون]. ولا مشكلة في ذلك؛ لكن المهمة الحقيقية هي الهروب من إطار هذه النافذة.
المحيط أكبر وأعمق بكثير من سطحه. معظمه صحراء فارغة. وإن اقتصر اليمين الراسخ على جيش بشري، ككتلة كبيرة من اللحم، فسيبدو صغيرًا حتمًا.
ولكن كمجال فني، فلسفي، أدبي، تاريخي، بل حتى علمي في بعض الأحيان – جميع المجالات التي هي في نهاية المطاف حزمة من الفنون – تجد فيها اليمين الراسخ أكبر بكثير من الماينستريم.
إذا قارنا فقط الكتب المنشورة في عام 1919 بتلك التي نشرت في عام 2019، فإننا نرى مجموعة أوسع بكثير في وجهات النظر. تقريبًا جميع الأفكار الحالية تم تصوّرها في الماضي؛ لكن كل أفكار الماضي قد اختفت. مثل اللغات، تختفي التقاليد البشرية أيضًا ـ والأخيرة تندثر مع الزمن أسهل بكثير من اللغة.
ينظر العقل النمطي إلى فقاعته من خلال عدسة عين سمكة. من خلالها تجسّد الفقاعة كل شيء تقريبًا. كل الفضاء الخارجي وكل التاريخ هما عبارة عن هامش أسود صغير حولها. هذا الهامش، بطبيعة الحال، خالي.
لكن في عدسة مسطّحة، تبصر الماضي أكبر بكثير من الحاضر.
اليمين الراسخ يسيّر ويغوص في التاريخ العميق. لا يقبل الحدود الزمنية أو الجغرافية. يفكّر، على طريقة ليوپولد فون رانكه [مؤسس التاريخ الحديث الذي اعتمد منهجية المصادر]: جميع العصور تقف متساوية أمام الإله.
وإذا كانت جميع العصور متساوية، فإن أفكارها كذلك. وحتى نتقبّل العالم الذي يستبق الأحداث الثورية ـ أي النظام الأقدم الذي سبق هذا النظام القديم ـ باعتباره شرعيًا ومعقولًا، فإننا لسنا على تماس مع الاتساع الحقيقي للفضاء الفكري الحر.
فموضوع ”عقلية العصر البرونزي“ هو أنه إذا كنت تعتقد أن عقلك متنوّر ومتفتّح، فأنت مخطئ. بل إنه أشبه بـ كتلة صغيرة صلبة، مثل محار صغير – مغلق بالخوف كالأسمنت. “وجاء اليوم الذي أصبحت فيه مجازفة البقاء محشو في البرعم أكثر إيلامًا من الخطر الذي تقدم عليه لتزهر.” [أناييز نين]
هذه الرسالة لا يجب أن تتلى، بل أن تعرض وتنفّذ. والطريقة الوحيدة لإظهار ذلك هي أن يظهر المؤلّف إتقانًا ومهارة فريدة في رسم ملامح وأبعاد هذه المساحة في عقلية المتلقّي – تلك المساحة الهائلة للعقل والزمان والفضاء خارج فقاعتنا ”الماينستريم“ المتزايدة في الضيق والعبث.
في الوقت المناسب لن يكون هذا كافيًا. في الوقت الذي تلفظ فيه كل ”لا“ نافية وناهية. كلمة ”نعم” سوف تكون لازمة. أن تهرب من الفقاعة لا يعني مجرّد الهروب فقط، ولكن في النهاية يعني ذلك أن تبني.
لكن كل بداية تنتمي لنفسها. الآن ربما يمكن لأي شخص أن ينظر خارج الفقاعة، ويرى حريقًا مشتعلًا في مساحة شاسعة، حيث لا شيء يمكن أن يعيش ولا من المفترض أن يكون هناك حريق. وهذا كافي كبداية.
إن النقاش كما تعلم يا صديقي هو أهم وسيلة تملكها لنشر أفكارك وتنظيم علاقاتك مع الناس، وإنك كلما ازددت تعلما واطلاعا زادت حججك قوة ودقة، ولكن عليك أن تعلم أن قوة الحجج ومنطقيتها لا تكفيان وحدهما للفوز بالنقاشات، فطريقة عرضك لحججك وأسلوبك في التعامل مع خصمك لهما من الأهمية ما يوازي أهمية الحجج نفسها.
أما بالنسبة للحجج القوية، فلا توجد طرق مختصرة للحصول عليها، إذ إنها لا تأتي إلا بالقراءة والانتباه والتجربة، وهذه أشياء لا يمكن لأحد أن يساعدك فيها أكثر مما تستطيع مساعدة نفسك أنت، ولكن طريقة عرضك لحججك وأسلوبك في النقاش يوجد فيهما الكثير مما يمكن أن تتعلمه.
فهنالك عدة قواعد يمكنك باتباعها إتقان فن النقاش، ولكن الإلمام بها كلها ومحاولة تطبيقها فضلا عن كونه صعبا جدا فهو غير عملي، فمراعاة الكثير من القواعد الصارمة عند التكلم يشتت التركيز ويحول المتكلم إلى روبوت بلا حياة. لذلك فلابد من طريقة أخرى لإتقان فن النقاش، ولحسن الحظ هنالك طريقة أخرى، إذ توجد بعض الأفكار إذا اعتنقتها وتذكرتها بشكل دائم ستجعلك ملتزما بكل قواعد فن النقاش بشكل تلقائي ودون أن تعلم حتى. دعونا نستكشف هذه الأفكار.
الفكرة الأولى: إن وجهة نظرك ليست جزءا من جسمك، بل هي فكرة أخذتها من شخص أو كتاب أو محاضرة، لذلك يمكنك التخلي عنها بأي وقت دون أن تخسر شيئا.
الفكرة الثانية: إن خصمك مهما كان غبيا في نظرك، أو سطحيا أو مجنونا، فإن وجهة نظره يمكن أن تكون صحيحة.
هاتان الفكرتان اللتان تبدوان بديهيتان بالنسبة لك الآن، دائما ما تنساهما أنت وخصمك أثناء النقاش، فليس من السهل أبدا تجاهل غرورك وكبريائك الذان يريدان منك أقصى عناد ممكن من أجل حماية وجهة نظرك، لذلك فإن تذكرك لهاتين الفكرتين قبل وأثناء كل نقاش تخوضه كفيل بإبعاد العواطف عن كلامك وجعلك مناقشا أمهر، أنت ربما تتسائل الان، كيف يمكن أن تجعلني فكرتين بسيطتين مناقشا أفضل؟
إن اعتقادك باحتمالية صحة حجة خصمك، يجعلك تصغي باهتمام وتركيز لما يقوله، والإصغاء هو الجندي المجهول في الفوز بالنقاشات، فعن طريقه وحده يمكنك فهم وجهة نظر خصمك، فإن كانت خاطئة تمكنت من مهاجمتها بشكل دقيق وحاسم، وإن كانت صائبة ستستطيع اعتناقها وترك وجهة نظرك قبل أن تتخذ مواقفا دفاعية وتحول الموضوع إلى معركة عاطفية. يجب الإشارة هنا إلى أن الإصغاء لحجة خصمك بهدف اكتشاف الأخطاء فيها ليس إصغاء، بل هو مضيعة للوقت، فإن لم تصغ لخصمك بهدف فهم كلامه لا تفنيده لن تستطيع أن تفهم كلامه.
وأيضا فإن تذكرك الدائم لاحتمالية خطأ وجهة نظرك سيظهر بشكل واضح في تصرفاتك ولغة جسدك، إذ ستظهر بمظهر المستعد دائما لتغيير وجهة نظره، وإن لهذا المظهر تأثير كبير على خصمك، فبعد أن يراك موضوعيا ومنطقيا سيكون أكثر استعدادا لتقبل أفكارك وتغيير رأيه.
الفكرة الثالثة: إن الهدف الأساسي من النقاش ليس إقناع خصمك، بل هو تبادل وجهات النظر.
فخصمك قد يكون في كثير من الأحيان أحمقا لا يفكر أصلا بتغيير رأيه، أو قد يكون خبيثا دخل في النقاش من أجل استفزازك أو السخرية منك، لذلك فإنك بمجرد استمرارك بمحاولة إقناع هذا النوع من الخصوم أنت تعلن خسارتك للنقاش، لأن خصمك في هذه الحالة لا يريد أن يناقش أفكارك، بل إن كل ما يريده هو استفزازك وجرك لجدال لا طائل منه، لهذا السبب يجب عليك في كل النقاشات التي تخوضها أن تكتفي بطرح وجهة نظرك وتترك لخصمك حرية الاقتناع أو الرفض دون محاولة إقناعه، بذلك ستستطيع تجنب الجدالات العقيمة مع الحمقى والخبثاء.
ولكن تجنب الحمقى ليس الفائدة الوحيدة لهذه الفكرة، فإنك عندما لا تضع إقناع خصمك كهدف أساسي من النقاش، وتكتفي بطرح وجهة نظرك أمامه ليقبلها أو يرفضها، سيتجلى ذلك بكلماتك وأسلوبك ولغة جسدك، وسيجعلك تبدو أكثر ثقة وأقوى شخصية، وسيزيد من ثقة خصمك بك وبالتالي احتمالية تغييره لرأيه. إن لهذه الفكرة فوائد عديدة.
الفكرة الرابعة: إن الصمت خيار متاح دائما، بل هو الخيار الأول ما لم يثبت عدم جدواه.
أنت يا صديقي دائما ما تنسى أنك يمكن أن تصمت ولا تجيب خصمك بأي شيء، ففي الكثير من الأحيان لا يوجد أبلغ من السكوت جوابا، مثلا عندما تجد خصمك يحاول استفزازك أو السخرية منك، فسكوتك سيعريه ويكشف نواياه ويحبط خططه، أو عندما يصر خصمك على رأيه دون تفكير، فسكوتك هو الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تجعله يفكر، إن الصمت سلاح فتاك يملكه الجميع ولا يستخدمه أحد.
فإذا تسلحت يا صديقي بهذه الأفكار الأربعة، وتذكرتها قبل وأثناء نقاشاتك، ستتحسن مهاراتك بالنقاش بشكل كبير جدا، وستزداد ثقتك بنفسك وقوة شخصيتك بشكل واضح لك ولرفاقك، ولكن من واجبي أن أخبرك أن هذه المهمة ليست سهلة مثلما تبدو، فغرائزك وشهواتك ستقاوم كل محاولة لعقلنة كلامك أثناء النقاش، لذلك عليك دائما أن تذكر نفسك بهذه الأفكار وتروّض غرائزك..
من بين كل المناظر الخلّابة التي تأسر أنظارنا، أجد منظر الشباب المثقف الذي يفتّش أوراق الكتب عن جوابٍ يرضي فضوله أكثر المناظر إلهاماً وجمالاً، فالفتى الذي يفحص نظريات أينشتاين ليفهم أسرار الكون هو لوحة تخلّد طموح الإنسان، والفتاة التي تقرأ أفلاطون لتأمل مغامرات العقل الإنساني تجسيدٌ لمثال الحياة في نظرية المثل. ولكن من المؤسف أن فضولهم الذي يمتدُّ من أعماق المحيطات الى أبعد الكواكب في الفضاء، لم يسأل سؤالاً واحداً عن طبيعة الإنسان، رغم أن الإجابة عن هذا السؤال قد تكون أهم من إجابة أي سؤال آخر؛ فهي التي تحدد موقف الإنسان من السياسة والمجتمع والاقتصاد، وإن إهمال هذا الموضوع الحساس له تأثير سيءٌ جداً على تفكير الفرد؛ لأنه في الغالب السبب الرئيسيّ وراء اعتناق كل النظريات المضرّة للمجتمع؛ لذلك قرَّرتُ كتابة تفسيرٍ مختصر لطبيعة الإنسان عسى أن يكون شعلةً تضيء هذا الكهف المظلم لمن لم يدفعه الفضول لدخوله بعد.
وأظن أن أفضل بدايةٍ لفهم طبيعة الإنسان هي دراسة بدايته. لقد ظهر الإنسان على هذا الكوكب قبل ثلاثمائة ألف سنة من الآن. وقد كان ضعيفا جداً بالنسبةً لبقية الحيوانات؛ إذ لم يكن يملك مخالباً يدافع بها عن نفسه، ولا أجنحةً ترفعه فوق مستوى التهديدات، ولا سماً يضع له هيبةً بين الحيوانات، وقد كان أبطأ من أن يركض من الأخطار، وأضخم من أن يختبأ منها، ولم يملك أذرعاً قوية تساعده على التنقّل بين الأشجار، ولا شعراً كثيفاً يحميه من البرد، ولا جلداً سميكاً يصدّ به طعنات الطبيعة. لقد كان أشبه بتجربة بايولوجيةٍ فاشلة.
و على عكس بعض الحيوانات الضعيفة الأخرى؛ لم يستطع إنتاج عدد كبيرٍ من الأطفال لكي تغلب كثرتهم شجاعة الموت؛ إذ كانت أنثاه تحتاج لسنةٍ كاملة تقريباً لإنتاج مولود واحد فقط. لقد حكمت عليه الطبيعة مسبقاً بالانقراض.
ولكنه استأنف حكمها هذا الى محكمة العقل التي حكمت لصالح بقائه، وتمكّن بعد ذلك من أن يخضع الطبيعة وكل كائناتها الى سيطرته. والسؤال البديهي هنا: كيف استطاع هذا الحيوان الضعيف فعل ذلك؟! لقد كان للإنسان ميزتان مكّنتاه من الانتصار في حربه الطويلة مع الطبيعة: أولاهما طبيعته الاجتماعية التي حتّمت عليه التعاون مع أقربائه في قبائل صغيرة، والثانية إمكانيته العجيبة على التعلّم والتعليم، فقد استطاع أن يعرف المخاطر المختبأة في الطبيعة والفوائد الكامنة فيها عن طريق التجربة والخطأ، ثم اخترع أساليباً جديدة للتعامل مع الطبيعة على أساس ما تعلّمه عنها، و تمكّن من أن يعلّم مجتمعه الأساليب التي تعلّمها، ونقل مجتمعه هذه الأساليب إلى الجيل الجديد، ثم بدأ كل جيلٍ يقلّد سابقه في أغلب المسائل، وعن طريق هذا التقليد أصبح تقدّم الإنسان ممكناً؛ فلم يكن على كل جيلٍ الوقوع بنفس أخطاء سابقه، وهكذا كانت التقاليد هي السلاح الذي انتصر به الإنسان على الطبيعة.
لكن متى ظفر الإنسان بنصره هذا؟ لقد انتصر الإنسان في حربه الطويلة مع الطبيعة عندما بنى الحضارة وأخضع الموارد الطبيعية الى سيطرته؛ أي قبل حوالي سبعة آلاف سنة، ولكن هذه الحرب مثلها مثل بقية الحروب، لم تترك الإنسان دون أن تسلب الرحمة من قلبه، فقد رسّخت في جيناته وحشيةً يبدو أنها لن تزول أبداً؛ لأن الطبيعة كانت تقتل كل من لا يتمكّن من افتراس الحيوانات ليأكل من لحمها أو يحمي نفسه منها، وكل من لا يملك أنانيةً يحفظ بها فريسته لنفسه، وكل من لا يملك قسوة تمكنه من اغتصاب طعام قبيلةٍ ضعيفة إذا ضرب الجوع قبيلته؛ أي أنّها كانت تبيد الضعفاء والطيبين وتترك المتوحشين يتزاوجون وينشرون جيناتهم جيلاً بعد جيل، وباستمرار هذه العملية ازدادت قسوة كل جيلٍ عن سابقه، ولكي ندرك عظمة تأثير هذا الانتخاب على طبيعة الإنسان، علينا أن نتأمّل الفترة التي عمل بها، أي فترة ما قبل الحضارة، وهي أقل بقليل من ثلاثمائة ألف سنة، أي حوالي سبعة وتسعين بالمئة من تاريخ الإنسان العاقل على هذا الكوكب، فإذا تأملناها جيداً، أدركنا أنّ الطبيعة نحتت الإنسان ليكون حيوانا مفترساً لا كائناً حضارياً.
إذاً لماذا اختار الإنسان بناء الحضارة مع أنها لا تتلائم مع طبيعته؟ في الحقيقة إن الإنسان لم يختر بناء الحضارة، إنّما اضطرته الحاجة لتنظيم المجتمع الزراعي الى بنائها، وسأوضح ذلك بعد قليل، لكن أولاً يجب أن نفحص تحوّل الإنسان من الصيد الى الزراعة؛ فدراسته ضروريّة لفهم الحضارة. لقد عاش الإنسان قبل أن يتعلّم الزراعة معتمداً على الصيد وجمع الثمار؛ لذلك اضطرّ الى التنقّل باحثاً عن قوته من مكان لآخر، وبسبب عدم استقراره؛ ندر أن استطاع الحفاظ على تقاليده بثبات واستمرار، حيث كان المجتمع الإنساني يخسر جزءاً من هويته مع كل انتقال، وأيضا ندر أن استطاع مجتمع واحدٌ الحياة لفترة طويلة. ولكن هذا كله تغيّر باكتشاف الزراعة، فالزراعة وفّرت للإنسان ولأول مرة في تاريخه مصدر غذاء ثابت يعتمد عليه، وربطته بأرض صغيرة تدرُّ عليه من خيرها.
هذا التغيير البسيط الذي سمّي لاحقاً بالثورة الزراعية، كان له من التأثيرات على حياة الإنسان ما لا يمكن تخيُّله، فقد مكّن المجتمعات البشريّة لأول مرة في تاريخها من الاستقرار في أرض واحدة ولأجيال متعاقبة، وهذا الاستقرار جعل تقدّم النوع الإنساني مضموناً ومستمراً؛ فقد تمكن الإنسان في ظل هذا الاستقرار من الحفاظ على تقاليده ونقلها الى الأجيال اللاحقة بسهولة وثبات، وكما أشرنا سابقا فإن التقاليد هي السلَّم الذي يبنيه الإنسان ليرتقي، بذلك كان التأثير الأول لحياة الزراعة أنها عبَّدت طريق التقدم أمام الإنسان، وطوت صفحة مجتمع الصيد الراكد فاتحة أبواب المستقبل أمام تطلّعات البشر وأحلامهم.
وهذا بالتأكيد لم يكن التأثير المهم الوحيد للحياة الزراعية على البشر، فالزراعة ربطت الإنسان بالأرض، وأجبرته على العمل لمواسم متتابعة إذا أراد جني ثمارها؛ لذلك شعر الرجل بالانتماء الى الأرض التي يزرعها، إذ لم يكن من المعقول بالنسبة له أن يتعب على زراعة الأرض لينتفع بها غيره؛ وولد نتيجة لذلك مفهوم الملكية الخاصة الذي سيقلب كل شيء في حياة الإنسان رأساً على عقب.
نعم، صحيح أن الملكية الخاصة كانت موجودة قبل المجتمع الزراعي، وصحيح أن رغبة التملك متأصلة في طبيعة الإنسان، لكن ملكية الفرد الخاصة في مجتمعات الصيد لم تكن تتجاوز بضعة قطع من اللحم أو الثمار التي تفسد في يوم أو يومين؛ أي إن تكديس الأملاك كان مستحيلاً؛ فكل فرد بالكاد يصطاد الكمية الكافية لإشباع نفسه، بينما استطاع مزارع واحد إنتاج ما يكفي لإطعام العشرات، بالتالي لم يكن على الجميع أن يعملوا بالزراعة، فبينما أنتج المزارع كمية لا يحتاجها من الطعام، تسابق الناس على اختراع سلعٍ يمكنهم مقايضتها مع فائض إنتاج المزارع، ومن محاولة إغراء المزارعين بالسلع تطورت كل مهن المجتمع الحديث، من صانع الفخار إلى الفيلسوف، وهكذا ظهر أول نظام اقتصادي في تاريخ البشر.
واستمرت السلع التي اخترعها الناس بالتنوع، وتنوعت معها وظائف الأفراد ووسائل التبادل بينهم، وكبر حجم المجتمعات وازدادت تعقيداً، هذا كله خلق حاجة جديدة لوجود تنظيم أكثر تطوراً من تنظيم القبيلة، وقد كان هذا التنظيم الجديد هو الحضارة.
فالحضارة في أساسها ليست سوى تنظيم يوفّر إمكانية تعاون الناس مع بعضهم على نطاق واسع، ولكن الإنسان في طبيعته لا يعرف التعاون إلا مع رفقاءه المعدودين الذين يشاركونه غارات الصيد، حيث يمثل التعاون مع الغرباء امتحاناً عسيراً يتوجب عليه تجاوزه ليكون متحضراً، وهو ليس امتحان الحضارة الوحيد، فهي تتطلب أيضاً انضباطاً وتفانياً في العمل لم يعرفه الإنسان في حياته القديمة، وتحتاج بالإضافة الى ذلك التزاما بالعهود واحتراما للقوانين وقبولاً مستمراً لملك يدير شؤون الحضارة، هذه كلها مفاهيم غريبة على طبيعة الإنسان الذي لم يعرف أيام الصيد سوى الأنانية والقسوة والفردانية المفرطة. لقد احتاجت الحضارة مزارعاً بينما أعطتها الطبيعة صياداً.
لكن كيف حمى الإنسان الحضارة من طبيعته الوحشية هذه؟ لقد لجأ الإنسان في حربه الجديدة مع جيناته الى نفس السلاح الذي استخدمه في حربه مع الطبيعة: العادات والتقاليد، فبها وحدها يمكن تحويل الوحوش الى بشر.
لكن التقاليد التي احتاجها المجتمع الإنساني هذه المرة كانت مختلفةً عن تلك التي احتاجها أيام الصيد؛ فتقاليد مجتمعات الصيد كانت في الأغلب متوافقةً مع طبيعة الإنسان، أما تقاليد الحضارة فهي تقاليدٌ زراعية يراد فرضها على مجموعة صيادين، لذلك وجب أن تكون تقاليداً موحدة ومتماسكة تقوى على ترويض طبيعة الإنسان.
ومن أجل تقوية التقاليد وتوحيدها؛ لجأ الإنسان لطريقتين رئيسيتين: أولاهما وأهمُّهما دعم الأسرة والسلطة الأبوية، فالأسرة هي الوحدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، لأنها المسؤول الأول عن عملية نقل تقاليد الأجيال السابقة الى الأطفال، أو عملية التربية كما يحب أن يسميها الناس، أما السلطة الأبوية فهي الدرع الذي يحمي الأسرة من طيش صغارها، وتمثل القوة التي تفرض التقاليد على المتمردين من الصغار، وإذا راود الشك شخصاً بخصوص أهمية الأسرة للحضارة، فإن التاريخ قد أدلى بشهادته في هذا الموضوع منذ قرون، وعدم نشوء حضارة واحدة دون تقاليد ذكورية قوية هي حجته لإثبات أهمية الأسرة.
وقد مثّل الدين الطريقة الثانية التي قوّى بها الإنسان تقاليده؛ فالدين يمنح التقاليد تقديساً سماوياً يرفع هيبتها في المجتمع، ويحوُّلها الى فضائل ترضي الله ووكلائه، ويجعل من مخالفتها آثاماً تستوجب العقوبة، وغالباً ما دعمت الأديان تقاليداً تقوي الروابط العائلية وتزرع احترام السلطة السياسية وقوانينها في المواطنين، فضلاً عن توفيرها لنظام أخلاقي موحد يسهّل تعامل الأفراد مع بعضهم؛ مما يقلل الحاجة لفرض القوانين بواسطة رجال الدولة.
ولكن الحاجة للجيش والشرطة تبقى حاجة أساسية لكل حضارة؛ لأنهم صمام الأمان الذي يحمي الحضارة ممن لم تقوَ التقاليد على كبح طبيعته الوحشية، فهم يفرضون بالقوة ما لم تستطع التقاليد فرضه بالرأي العام، وتسمى القواعد التي يفرضها رجال الدولة بالقوانين، بينما تعرف التقاليد التي يختارها المجتمع بالأخلاق، وأصحُّ حالة للمجتمع هي تلك التي تتفق فيها القوانين والأخلاق على صلاح المجتمع.
فالتقاليد ورجال الشرطة يمثلان قدمي الحضارة اللتان تسير بواسطتهما، فإذا ضعفت واحدة يقع حملها على الأخرى، وإذا ماتت إحداهما تصبح الثانية بلا فائدة، أما إذا ضعفا معاً تسقط الحضارة على وجهها تاركة الإنسان يعود لحياته القديمة.
ومن أجل أن لا يعود الإنسان لحياة الصيد القديمة وُجِد الفكر المحافظ، فالمفكّر المحافظ هو من يدرك خطورة الوحش المختبئ داخل الإنسان المتحضر ويفهم أهمية التقاليد في ترويضه. ورغم أن بعض التقاليد فاسدة وضارة؛ لا ينشد المحافظ اقتلاعها من جذورها، بل يسعى دائماً لتغيير صحيّ لا يحمل مع فائدته أضراراً أكبر، فهو يعي عظمة العقل البشري، لكنه بنفس الوقت يعترف بقصوره واستحالة تطبيق نظرياته على الواقع دون مراعاة عادات المجتمع، ويكتفي بعشرات الأمثلة الفاشلة على محاولات فرض المدن العقلية الفاضلة واليوتوبيات الاشتراكية كدليل على فشلها في المستقبل. يحارب التأثيرات السيئة للدين، ولكنه يحترم أفضاله على الحضارة، إنّ المفكر المحافظ هو من يميز الغث من السمين ولا يتخذ مواقفاً متهورةً مجهولة النتائج، أما من يعتنق فكراً راديكاليا يسعى لتغيير المجتمع دفعة واحدة دون الالتفات لتأثير التقاليد، فيتحتم عليه أن يجد تفسيراً علمياً آخر لطبيعة الإنسان أو يخترع جهازاً يقوى على تغييرها، عدا ذلك، فسكوته أعظم هدية يمكن أن يمنحها للجنس البشري .
قبل أن استهل بالتوضيح و التمييز بين المصطلحات التي ذكرتها في العنوان أعلاه، حاول كقارئ عربي أن تتقبّل أن السياسة العربية بشكل عام تستورد وتخلط المزيج المحلّي الخاص بها منذ قرون من الزمن بدل أن تساهم في صياغة التاريخ السياسي الحديث. بالطبع، ظروف المناطق العربية استثنائية وهي ضحية لأيديولوجية قديمة ومهيمنة حتى اليوم، بغضّ النظر عن الاستعمار، الحروب والتدخّلات والتقسيمات التي أنهكتها على مدى القرون الماضية. من باب، أنا أتهم القارئ العربي العام بعجزه عن التمييز بين المذاهب السياسية الرئيسية، ومن باب آخر أعذره، لأن واقعنا السياسي والاجتماعي لا يفسح المجال للإنسان بأن يجد الوقت اللازم والمزاج الصافي للدخول في هكذا تفاصيل قد تبدوا مملة للكثير وربما محبطة للبعض الآخر.
سأحاول هنا وضع حجر الأساس لكي تفهم السياسة العالمية أكثر في حالة كونك لم تتعمّق في الموضوع بعد، لأنك شئت أم أبيت مقيّد بالظروف الاقتصادية والحروب والاتفاقيات العالمية. العولمة والتقنية غيّرتا قوانين اللعبة. من الذكاء أن تحاول فهم العالم حولك كي تتجنّب الوقوع في مشاكل كثيرة وتقليل نسبة الخطأ. سأكتفي بالتركيز على الأسس الجوهرية التي تميّز مذهباً سياسياً عن الآخر وتفاصيل الفلسفة السياسية التي تشكّل القاعدة التشريعية لتلك المذاهب. قبل أن نبدأ، دعنا نتناول تعريفي المذهبين المحافظ والليبرالي بشكل مقتضب:
السياسة المحافظة Conservatism [من اللاتينية: conservare = “حفظ” أو “الحفاظ”] هي مذهب سياسي يشير إلى الفلسفات السياسية والاجتماعية التي تعزز الحفاظ على المؤسسات الاجتماعية التقليدية وبقاء الوضع الراهن مع القليل من التغيير الحذر، فهي تعتبر الاستقرار شيء ثمين ويجب أن يتم التغيير بشكل تدريجي من أجل الحفاظ عليه. الفلسفة السياسية المحافظة يمكن وصفها بـشكل بسيط وغير مفصّل بأنها حالة ذهنية وفلسفة سياسية تنفر من التغيير السريع والابتكار، و تسعى جاهدة لتحقيق التوازن والنظام، وفي الوقت نفسه تتفادى التطرّف. بشكل عام تفضّل التسلسل الهرمي على المساواة والقيم الجماعية على الفردية. هي سياسة ظهرت كـ رد فعل ضد الأفكار الليبرالية التي بدأت تترسخ في أوروبا خلال الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر.
في المقابل، يواجهها كمذهب السياسة الـتقدّمية، التي تعرّف نفسها كـ فلسفة سياسية تمضي إلى التقدّم والتحرر من الماضي كجزء من تطوّر المجتمع وتصارع لصالح الإصلاحات التدريجية الاجتماعية، السياسية والاقتصادية عن طريق حكومة كبيرة تتدخّل في فرض تلك الإصلاحات. هذا المذهب يمكنك أن تضعه في خانة اليسار في الطيف السياسي. الطيف الأكثر تطرّفاً في المطالب هو ما يوصف بالـفكر الثوري اليساري، فالأخير يرفض المنهج التدريجي و يطالب بالثورة. على عكس المذهب المحافظ، تفضّل التقدّمية المساواة على التسلسل الهرمي والقيم الفردية على الجماعية. والصراع بين الفكرين يدور في جوهره حول عقلانية الإنسان أو الفرد نفسه. فالفكر المحافظ لايثق بعقلانية الفرد وعدم تحيّزه، بعكس الليبرالية التي تبالغ في تقدير البشر كفرد حر وعقلاني في اختيار مصيره. لكن كما ستقرأ لاحقاً، الواقع أكثر تعقيداً ويتشابك كثيراً ويتباين حسب الوقت والمكان. سأتناول المزيج الشائع في الدول الغربية القوية كي تفهم الصورة أكثر:
السياسة المحافظة الليبرالية Liberal Conservatism
[لا ينبغي الخلط بينها و بين السياسة المحافظة الليبرتارية]
السياسة المحافظة الليبرالية هي أيديولوجية سياسية تجمع بين السياسات المحافظة والمواقف الليبرالية، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الأخلاقية والاجتماعية، أي بكل بساطة سياسة محافظة متأثرة بشدة بالليبرالية [كما هو الحال في بعض دول أوربا الغربية].
تشمل السياسة المحافظة الليبرالية النظرة الليبرالية الكلاسيكية Classical Liberalism [من روادها آدم سميث، ديفد هيوم و فولتير] للحد الأدنى من التدخّل الحكومي في الاقتصاد؛ حيث يؤمن الليبراليون الكلاسيكيون أن تحرير السوق من التدخل الخارجي الحكومي سيقود في نهاية المطاف إلى نظام يخدم المجتمع بصورة مثالية. كذلك يجب أن يكون للأفراد حرّية المشاركة في السوق وإنتاج الثروة دون تدخّل الحكومة. في نفس الوقت، من الموهم أن نثق بالأفراد بشكل كامل على التصرف بمسؤولية في مجالات أخرى من الحياة، ولذلك فإن المحافظين الليبراليون يعتقدون أن وجود دولة قوية أمر ضروري لضمان القانون والنظام. إضافةً إلى ذلك ضرورية ودور المؤسسات الاجتماعية لتعزيز الشعور بالواجب والمسؤولية تجاه المجتمع. من الاسم نفسه نستنبط أن السياسة المحافظة الليبرالية هي موقف سياسي يدعم الحريات المدنية إلى جانب بعض التقاليد الاجتماعية المحافظة. تستطيع أن تفهم هذا المذهب كـ أيديولوجية يمين الوسط. في أوروبا الغربية هو الشكل المهيمن للسياسة المحافظة المعاصرة.
بما أن لكل من “المحافظة” و “الليبرالية” معان مختلفة تباينت على مر الزمن وعبر البلدان، فقد استخدم مصطلح “المحافظة الليبرالية” بشكل متباين أيضاً. فالواقع السياسي والخليط الديني، العرقي، الموقع الجغرافي والتاريخ السياسي للبلد،كلها عوامل تحدد الاتجاه السياسي ومراكز ثقله. لذلك حاول أن تبتعد عن التفكير الأبيض والأسود في وصف هذه المذاهب واطلق العنان لمخيّلتك كي تتصوّر نظام إحداثيات تمثّل محاوره التوجّهات الأساسية [محافظ ـ تقدّمي ـ سلطوي ـ ديمقراطي/تحرري]. لاحظ أنني أتجنّب مصطلحي اليمين واليسار، لأنهما يتباينان جداً من مجتمع و ثقافة إلى أخرى. لكن بصورة عامة تفضّل الإحداثيات السياسية لليسار اللون الأخضر وتتداخل مع اللون البنفسجي. اليمين على العكس تجد إحداثياته تتكرّر في النطاق الأزرق و البنفسجي. كما من المهم أن تميّز بين اليمين كقطب سياسي وبين اليمين كفلسفة!
أظنك ستفهم مدى صعوبة تحديد ما هو اليسار وما هو اليمين عندما نتكلّم بصورة عامة. لذلك يلجأ الكثير إلى تعريفات إضافية كـ “ما بعد الحداثة” أو “اليسار التقدّمي المعاصر” ليصف مثلاً الطيف السياسي السائد في ديمقراطيات الغرب والذي يتبنّى سياسات التحرّر، الديمقراطية، السلامية [مناهضة الحرب و العنف]، الحكومة الكبيرة، الانفتاح على الهجرة، العولمة، التخلّص من تقاليد الماضي والهويات القومية، النسوية، سياسات الصواب السياسي، المساواة، التركيز على حقوق الأقلّيات وحماية البيئة. اليمين المحافظ لا يعني أنه لا يهتم بحقوق الأقليات أو يؤيد العنف أو حتى يرفض الانفتاح على العالم، بالعكس، لكن برامجهم السياسية تركّز على الجانب المعاكس من المعادلة أكثر وتفضّل المصالح القومية و أهل البلد على حساب العولمة مثلاً، أو يجدون في بعض الحروب والتدخّلات العسكرية ضرورة سياسية أو إنسانية وأهمية اجتماعية في التمحور حول تقاليد وثقافة البلد. التأدلج والتطرّف يمكن أن يظهران في كل مربّع و لون مختلف.
كمثال آخر على التباين الفلسفي في السياسة: تتناقض السياسة المحافظة الليبرالية مع المحافظة الأرستقراطية. فالأخيرة ترفض مبدأ المساواة كشيء يتناقض مع الطبيعة البشرية، وتحث بدلاً من ذلك على فكرة عدم المساواة الطبيعية والتي تؤكّد على التباين الجيني في الذكاء، القدرات والطموح بين البشر. ومع احتفاظ المحافظين في البلدان الديمقراطية بالمؤسسات الليبرالية النموذجية مثل سيادة القانون، حق التملّك الخاص، اقتصاد السوق الحر والحكومة التمثيلية الدستورية، أصبح العنصر الليبرالي في السياسة المحافظة الليبرالية توافقياً بين المحافظين.
مع ذلك يفرض الواقع السياسي نفسه دائماً: ففي بعض البلدان، مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، يُفهَم مصطلح “المحافظة الليبرالية” ببساطة على أنه “محافظ” في الثقافة الشعبية، مما دفع بعض المحافظين الذين اعتنقوا القيم الليبرالية الكلاسيكية القديمة ليطلقوا على أنفسهم إسم “الليبرتاريون”. بشكل مقتضب: يؤمن الليبرتاريون بأن الفرد في المجتمع يملك نفسه تماماً وبالتالي فإن لديه الحرّية في التصرّف فيها وفي ممتلكاته وفي عقائده كما يشاء، شرط ألا يتعدى على حريات الآخرين و ممتلكاتهم. وعليه فهم يؤيّدون التحرّر وإزالة القيود المفروضة على الفرد من قبل الدولة والمجتمع، كالعادات والتقاليد، وتقليص حجمها قدر المستطاع.
مع ذلك، فإن التقليد الليبرالي ـ المحافظ في الولايات المتحدة غالباً ما يجمع بين الفردية الاقتصادية للليبراليين الكلاسيكيين مع توجّه محافظ “بيركي” يشدّد على عدم المساواة الطبيعية بين البشر وعدم عقلانية السلوك البشري كمعلّل للدافع البشري نحو النظام والاستقرار ورفض الحقوق الطبيعية كأساس للحكومة [ما أقصده بـ “بيركي” هو التأثّر بفلسفة إدموند بيرك، فيلسوف سياسي إيرلندي يعتبره الكثير من روّاد المذهب المحافظ الحديث و أهم نقّاد الثورة الفرنسية ١٧٨٩].
ومع ذلك، تجد التيار المحافظ الأمريكي هجيناً من مبادئ محافظة و ليبرالية كلاسيكية احتفظ ببعض المبادئ الأصلية وتجاهل أخرى. و بالتالي، لا يستخدم في الولايات المتحدة مصطلح “المحافظة الليبرالية”، في نفس الوقت تختلف توجّهات ونقاط ثقل الليبرالية الأمريكية الحديثة عن نظيرتها الأوروبية. والعكس تجده مثلاً في أمريكا اللاتينية، حيث يوصف المحافظ الليبرالي اقتصادياً تحت عنوان النيوليبرالية، سواء في الثقافة الشعبية أو الخطاب الأكاديمي. تتذّكر ما قلته عن التشابك في المصطلحات؟ الأمر يزداد تعقيداً عندما نعود لأوربا مجدداً.
في اعتناقهم لمبادئ الليبرالية والسوق الحرّة، مازال بإمكانك التمييز بين هؤلاء المحافظين الأوروبيين عن المحافظين الذين اعتنقوا آراءً ومواقف أكثر تحفّظاً اجتماعياً وفلسفياً. البعض يلصق بهم مصطلح “الشعبوية” وهم طبعاً في خندق اليمين. كمثال للوتضيح، في أوروبا الوسطى والشمالية الغربية، خاصةً في الدول الجرمانية والبروتستانتية التقليدية، لا تزال هنالك فجوة بين المحافظين، حتى داخل التحالفات نفسها، كتحالف الديمقراطيين المسيحيين الحاكم في المانيا والذي تقوده ميركل [CDU/CSU]. على سبيل المثال، فكرة الزواج كمؤسسة اجتماعية تحتاج دعم الدولة وتقتصر على الرجل و المرأة وتشكّل موقفاً رئيسياً عند المحافظين المسيحيين الديمقراطيين، بينما يحتضن نفس التحالف الحزبي محافظين ليبراليين ساهموا في كسر قدسية الزواج و فتحه على المثليين مثلاً، لأنهم يؤمنون بالتحرر أكثر من الالتزام بالتقاليد.
على العكس من ذلك، في البلدان التي دخلت فيها الحركات الليبرالية المحافظة التيار السياسي الرئيسي مؤخراً، مثل إيطاليا وإسبانيا، يمكن فهم المصطلحين “الليبرالي” و”المحافظ” على أنهما مرادفان سياسيان، وكثيراً ما ينطوي ذلك على التشديد على اقتصاد السوق الحر الاعتقاد بالمسؤولية الفردية جنباً إلى جنب مع الدفاع عن الحقوق المدنية، دعم الأقلّيات ودعم نظام الرعاية الاجتماعية المحدود. لذلك من المهم جداً أن تفهم الجغرافية السياسية لكل دولة وتتناولها بمعزل عن التعريفات العامة.
مقارنةً بالسياسة التقليدية التي يمثّلها يمين الوسط مثلاً [كـ الديمقراطيين المسيحيين في المانيا، حزب المحافظين البريطاني، الحزب المحافظ في كندا، حزب العدالة والقانون البولندي، حزب الشعب الهندي، الحزب الاشتراكي المسيحي الديمقراطي في البرازيل ] فإن المحافظين الليبراليون [كـ حزب المحافظين النرويجي، الائتلاف الوطني الفنلندي، الحزب الليبرالي الديمقراطي في المانيا، المعتدلون الجدد في النرويج] يميلون لسياسات أقل تقليدية وأكثر تحرراً من الناحية الاقتصادية، يحبّذون ضرائب منخفضة وأدنى تدخل للدولة في الاقتصاد. في الخطاب الأوروبي الحديث تجدهم يرفضون، على الأقل إلى حد ما، المحافظة الاجتماعية والتشبّث بالتقاليد.
أظنك قد لاحظت أنني لم أتطرّق إلى الدول العربية. ببساطة لأن الأوضاع السياسية غير مستقرة وتاريخ السياسة العربية مليئ بالمطبّات والثورات. إضافةً إلى ذلك، الديمقراطيات العربية غارقة إما بالفساد، بالتطرّف الديني أو الحرب الأهلية. حتى الدول المستقرة نسبياً تحكمها أنظمة لا تتحلّى بحرية سياسية كافية لتسمح للفرد بأن يتعمّق في هكذا سياسات، أو يعبّر عنها. مع ذلك، تميل الأنظمة السلطوية في المنطقة إلى الاستقرار وتبنّي سياسات طويلة المدى أكثر من تلك الديمقراطية، وهو ما يفتح باب الجدل السياسي عن كون تحديد المصير وتدخّل الفرد في السياسة يصب في النهاية فعلاً في الصالح العام. لذلك تجد الناقد العربي السياسي المهتم يضطر لاستيراد الفلسفات السياسية الغربية وتحويرها محلياً، بدل التنظير لسياسة محلية مناسبة للتاريخ، الجغرافية والواقع. كذلك لا ننسى الواقع العربي المرتبط بثقافة صحراوية دينية تفرض نفسها كنظام دين ودولة واقتصاد لا تتسامح مع المختلفين، مما يعيق نشوء مدارس سياسية تنظّر لمستقبل على أساس واقع متهالك.
السياسة وإن كانت مملة، فهية شيّقة أحياناً في التنظير الفلسفي وتبدأ من سلوكياتك كفرد وفي إطار العائلة إلى نطاق أكبر. لذلك من المهم أن تتعمّق أكثر و تحاول إيجاد المزيج الفكري المناسب لك ولمستقبلك و أيضاً للأجيال القادمة.
درّست المدرسة الإيطالية للعلوم السياسية في مطلع القرن العشرين – والتي كان من أبرز شخصياتها جيتانو موسكاوفيلفريدو باريتو، وكذلك لخصها جيمس بيرنهام في أفضل كتاب له ”الميكياڤيليون“ بعبارة: المدافعون عن الحرية (1940) – أن جميع الدول محكومة من قبل النخب الذين يُخضِعون رعاياهم بالأوهام، لا بالعنف.
وصف موسكا هذه الأوهام بأنها ”وصفات سياسية“. الوصفة السياسية هي أي عنصر سردي يجعل مضيفها يفضّل الإجراءات التي تعمل على استقرار النظام بشكل موضوعي. فقد يخضع الفلاح في مصر القديمة لفرعونه لتجنب الإساءة إلى والد الفرعون نفسه، الشمس [رع].
الوصفة السياسية هي أشبه بابنة عم السحر المسرحي. فالأخير يمارس عن طريق تقديم حقائق واقعية في نمط يشير إلى قصة مزيفة ويحجب قصة حقيقية في نفس الوقت. بينما العمل السياسي هو ممارسة على مستوى يتجاوز حياتنا وحواسنا. فلا أحد يستطيع أن يدرك الواقع بلا تدخّل أطراف ثانية أو تأثير ظروف معيّنة. نحن ببساطة نعيش واقعًا داخل قصة نقرأها على أنها حقيقة: أي التاريخ المعاصر.
لتفهم أن الرأي العام هو تأثير، وليس سببًا. لو رويت عليهم نفس القصة، فسيمتلك معظم الناس نفس الرأي. أي أن القصة تدفع نحو الرأي، والرأي يدفع نحو الفعل. تفضّل، هنا قد وفّرت عليك كتابًا كاملًا لـ والتر ليپمان [هنا يقصد كتابه Public Opinion 1922، ليپمان هو كاتب وصحفي ومعلق سياسي أمريكي يعد من أوائل من قدموا مفهوم الحرب الباردة، وصاغوا مصطلح “الصورة النمطية” بالمعنى النفسي المعاصر]. وكما قال ڤولتير: من يجعلك تؤمن بالسخافات و الخرافات يستطيع أن يجبرك على ارتكاب الفظائع.
تنص الفرضية المكياڤيلية على أن جميع الأنظمة الحديثة هي أنظمة أورويلية متحكّمة في الفكر. لكن هل هذا صحيح؟ هل تُخضع حكومتنا رعاياها من خلال محاصرة أذهانهم في قبّة مزيّفة تحاكي الواقع، كما في فلم ذا ترومان شو؟
أوه أوه..
معظم الناس لا يؤمنون بذلك. بل أن معظم من يعتقد ذلك هم، أو هذا ما أشعر به، جهلة، غير ناضجين، مختلين عقليًا أو مجرّد على خطأ. ربما هذه هي الطريقة التي تشعر بها تجاههم أيضًا. فالأشخاص الجادين يعلمون أنه لا توجد مؤامرات حقيقية – فلا يوجد أي شخص مثالي.
إنها مجرد قصة تتوقعها في داخل أي قبة تحاكي حقيقة ما من طراز الدرجة الأولى. فلا أحد يسمو فوق سحر المسرح، ولا حتى السحرة أنفسهم. فالسحر يعمل من خلال العمل بجد والتمرّن بشكل كافي للتغلّب على حدس وغرائز أي شخص. فمن السهل تعليم الجمهور الرفض الغريزي لأنواع معينة من الأفكار. ويبقى الخبراء والجادين هم الأشخاص الوحيدين الذين يجب خداعهم. ولذلك سحر المسرح السياسي هو الهندسة النفسية للشعب. كيف؟
ببساطة، معظم المجالات الهندسية تفوق فهم وقدرات معظم الناس، فما بالك بتعقيد السياسة وتفاصيل سياسات الدولة؟ ربما يمكنك أنت فهم المخطّط.. وربما أي شخص يستطيع الخروج من داخل القبّة. ربما أنا نفسي الساحر في المسرح؟! كن حذرًا!
تناول كبسولة الصفاء
إليك إحدى الطرق للتحقق من أي فكرة لا تريد تصديقها: افترض أنها حقيقية، ثم قم ببناء حقيقة جديدة حول هذه البديهية. بمجرد أن تفشل، يمكنك أن تقول: لا أستطيع أن أرى كيف يمكن لهذه الفكرة أن تكون صحيحة.
مثلًا، لنفترض أنني لا أريد أن أصدق فرضية أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA تقف خلف أحداث تفجير برجي التجارة في نيويورك. في هذه الحالة أحاول بناء واقع يفترض أنها (CIA) نفّذته. في حالة فشل هذا الواقع في الصمود، أعود إلى الاعتقاد بأنها كانت مؤامرة يقف خلفها تنظيم القاعدة.
لا أريد أن أصدق أن أو جاي سيمبسون مذنب؟ أفترض أنه بريء، ثم أبحث عن القتلة الحقيقيين. لكنني لا أستطيع حتى تخيلهم، ولذلك لا أعرف كم ستصمد فرضيتي هذه. لكنك تفهم الفكرة الآن..
هذا التحقق من سلامة أي فكرة حرفيًا آمن من الفشل. فلا يمكنه غسل دماغك بأي هراء عشوائي تقابله أثناء تصفّحك للمواقع في الإنترنت. إذا لم ترَ فتحة في القبّة، فستبقى في واقعك الحالي. وفشلك هو برهان مكافئ عكسي على أنك إما كنت على صواب أو أن خيالك كان ضعيفًا. وفي كلتا الحالتين، حان الوقت لشريحة لحم أخرى.
طبيعي أن أنبّهك على أن نجاحك – يبقى لك. فلا أحد يحتاج منك أن تصدّق أي شيء آخر. هذه الكبسولة محايدة، جحودة و بلا طعم. إنها مجرد علاج واسع الطيف والمفعول لوصفات سياسية رائجة. لا تطوي في جوفها أي معتقدات خاصة، صحيحة كانت أو خاطئة. الكبسولة تقول أنك داخل قبّة. ولا تفترض أي شيئ عن العالم الحقيقي خارج تلك القبّة، فقط أنك لا تعرف شيئًا عن هذا العالم في الخارج – فقط بعض الحقائق. حتى أنها لا تتحدى أي من هذه الحقائق. إنها مصنوعة من فلسفة خالصة ولا تحتوي على وقود نفاث أو عوارض فولاذية. جربها! أعدك بالمتعة!
الهدف من الحياد
التاريخ الحقيقي ليس مجرّد مجموعة من الحقائق. إنه قصة حقيقية مصنوعة من الحقائق. اليوم تجد قصص متعددة ومتلوّنة متاحة لنا من ضوء الحاضر، كالديمقراطية، الدستورية والفاشية. والغرض من هذه الكبسولة هو تقديم معيار لا تجتمع أي قصة من تلك القصص حوله. وتطبيق هذا المعيار يعني عدم تصديق أي قصة على الإطلاق.
أن تكون محايدًا يعني القبول بأنك لا تفهم التاريخ الحالي. فالحياد هو نوع من الإلحاد السياسي. وانعدام القناعة السياسية يعني الامتناع، ليس فقط عن العمل السياسي، بل وبشكل مثالي حتى عن الرغبة السياسية – الثيموس Thymos (الرغبة الباطنة عند الإنسان؛ مصطلح صاغه أفلاطون) عند اليونانيين القدماء.
العمل السياسي المنتج والمؤثّر هو ذلك النشاط السياسي الذي ينطوي على مجموعة تتصرف داخل ووفقًا لسرد القصة السياسية. بينما أنت مجرّد شخص واحد بلا قصص. لذلك لا يمكنك تغيير العالم!
ربما اعتدت على الاعتقاد بأن هذا كان جزءًا من دورك في هذه الحياة. كإنسان. وإن كانت هذه مهمتك فعلًا، فعلى ما يبدو كنت سيئًا في أداءها، ولذلك استقلت. والآن لا تحتاج حتى إلى محاولة “تغيير العالم”.
في حالة الحياد المثالية، والتي لا يبلغها أحد إلى حد الكمال، ستكون أنت خاليًا من الطاقة والإجهاد السياسي. حينها لن تكون ذو فائدة أو ضرر لأي سبب أو جهة معيّنة. ولن تشعر بالسخط ولا الخوف السياسي. ولن تتسبب في مشكلة، ولن تتعثر. ولا حاجة لهذه الإجازة من السياسة أن تدوم طوال حياتك. لكن الأمر وارد. الحياد هو مجرد طلاق فكري من أي سرد يفسّر العالم حولك وتقتنع به الآن. ولا يزال بإمكان شخص ما في هذا العالم أن يحكي لك قصة تستوفي معاييرك الجديدة. ولا يزال بإمكانك تصديق ما يكفي منها لتقرر العيش داخلها. لكنك الآن قد تشعر بارتياح وأنت بمفردك ودون الحاجة للتصديق بأي قصة.
ومن البديهي والضروري في خضم هذا الحياد: أن لا تصوّت، أو تتظاهر، أو تحرّض، أو تفعل أي شيء من هذا القبيل. أن تكون محايدًا هو أن تكون عديم الفائدة قدر الإمكان واتجاه جميع أطراف الصراعات. وإن لم تصبو نحو وجهة ما في السياسة بعد، فقد حان وقت إنقاذك من الذي أنت فيه!
الدعامة الجوفاء
تبدو فرضية مكياڤيلي خاطئة. وهذا ما كنا نتوقعه بالطبع. حيث أن القارئ العادي يعرف نوعين من الأنظمة في القرن العشرين ويفسّرها على النحو التالي:
النوع ”الشرير“ (الشمولي، نظام ”أولئك“) والذي تنطبق عليه القراءة الميكياڤيلية، والنوع الجيد (الديمقراطي، ”نظامنا“) والذي لا تنطبق عليه.
النوع الشرير قاتل النوع الخيّر؛ والأخير رد عليه وقاتله وانتصر عليه. ديمقراطيتنا إذن هي عكس الأورويلية: مجتمع منفتح، سوق حر للأفكار.. صحيح؟
ما لا يفهمه الكثير هو أن التاريخ يمكن أن يروى ويكتب مثل قصة الأطفال. هذه النسخة التي نعرفها اليوم عن القرن العشرين، تم معالجتها ونزع فتيلها ـ كما كانت الأعمال الأدبية والتاريخية تعالج وتنقّح من باب الرقابة كي تناسب ”قناعة“ العصر قبل أن يقرأها ولي العرش في البلاط الملكي الفرنسي ـ و هي حتمًا لا تعرف الشك. أطفالي يتهمونني بامتلاك “الكثير من الكتب القديمة عن هتلر”. وهذا الأمر حقيقي أكثر حتى مما يتصوّرون، وقد تركني هذا واثقًا تمامًا من أن ”نظام أولئك“ (الشرير) هو بالفعل كما لو كان يروي عنه أفضل راوي قصص من ”نظامنا“.
في الواقع، هنالك عدد قليل من العصور التي يعرفها ودرسها مؤرخو اليوم أكثر من الرايخ الثالث. ولأن التاريخ يحب الخاسر، فأرشيفاته عارية، وأسراره دون حراسة.
ولكن يا ترى ماذا يثبت هتلر عنا؟
يمكن أن يحظى ستالين بنفس القدر من الفضل في محاربة هتلر. وقد اقترحت بعض السلطات أنه فعل ذلك لإنقاذ اليهود. ولنكن صريحين، هذا لم يكن هدفنا من الحرب أيضًا؛ ولم ننجح فيه أصلًا.
حتى عند التدبّر الموضوعي في الأحداث الماضية، ستصل لاستنتاج إن حجّة ”الدفاع عن النفس“ لا تبدو راسخة جدًا. (لو كانت هناك خطة محور عسكري لغزو العالم، وهي نظرية اعتقد بها معظم الأميركيين قبل 75 عامًا، وهنالك قلة من المؤرخين يعتقدون بها حتى اليوم، لانتقلت اليابان إلى سيبيريا في عام 1941 ولأمست أوراسيا ملكهم).
و … هم ينتظرون منا أن نقتنع فعلًا بأن هذه النسخة الضعيفة هي بمثابة النجم الذهبي الساطع في سيرتنا التاريخية؟
حتى هذا الاستخدام للضمير ”نا“ هو أوريلي الطابع. ليسوا الأفراد، بل المؤسسات الحيّة هي من روّجت لهذه النسخة أو القصة. وبهذه النتيجة المشتبه بها للغاية، يجب علينا تبجيل علاماتهم التجارية إلى الأبد؟ إنه لحسبان معتل..
هذا التلويح بالورقة النازية، وزنًا منطقيًا تافهًا في قصتنا المشتركة في الحاضر. فأي فهم لطبيعة عمل مؤسسات الطرف الخاسر والتي زالت بعد الحرب، لا يخبرنا شيئًا واحدًا عن طبيعة عمل مؤسسات الطرف الفائز بالحرب. الدعامة التي يقدّموها لحمل روايتهم جوفاء وباطلة. وجودها أشبه بالديكور: بدون غرض حقيقي. وهنا نشهد لمحة صغيرة من الصناعة المسرحية الأصيلة.
نظرية وتطبيق: حكم الاستبداد الموزّع
على ما يبدو، الحقيقة القديمة لا تزال فاتنة. ببساطة هناك نوعان من الأنظمة، لا يمكننا إزاحتهما عن المخيّلة السياسية. فعادة، عندما نفكّر في النازية التاريخية أو الستالينية أو الماوية، فإننا نفكر تلقائيًا في الفظائع التي ارتكبت في زمن الحرب.
عندما ننظر إلى تشيكوسلوڤاكيا في ستينيات القرن الماضي، وألمانيا في الثلاثينيات، وحتى الصين اليوم، سنلاحظ عددًا أقل بكثير من الفظائع وويلات الحروب. ومع ذلك، ما زلنا نرى نفس بنية التحكّم الهرمي، حيث يقوم شخص واحد أو فريق صغير بتوجيه الدولة بالكامل ومن جانب واحد
هذا الهيكل غائب بشكل واضح في الديمقراطيات الغربية.
فمهما كان “نظامنا”، فهو لا يملك ضمن إطاره كيانًا سياسيًا مثل الحزب الشيوعي الصيني أو الرئيس شي جين بينگ. فنظامنا ليس له تسلسل هرمي، ولا مركز. بدون زعيم ولا مكتب سياسي ولا حتى كادر. ربما هي ليست ديمقراطية حقيقية. وحتمًا ليست ملكية أو ديكتاتورية.
يا ترى، هل يجسّد نظامنا استبدادًا موزّعًا بشكل يجعله خفيًّا عن الأنظار؟ هل أن وجود نظام أورويلي لامركزي شيء ممكن؟ إذا استطعنا أن نقول لا وننفي ذلك، سنكون قد انتهينا من مهمّتنا هنا. والفكرة تبدو مستحيلة؛ لكن، هل يمكننا إظهار ذلك؟
شخصيًا لا أظن ذلك، وعليه دعونا نتصوّر ونصمم نظامًا أوريليًا لامركزيًا علّنا نصل لجواب ونفهم أكثر.
لنفترض أنه هنالك نوعان من الأنظمة الأورويلية – مثل المحرّكات الثنائية والرباعية الأشواط. والمحرّكان لا يتفوّقان على بعضهما دائمًا. فمنفاخ ورق (أداة بستانية) بمحرّك أربع أشواط هو إفراط في الطاقة؛ وسيارة بمحرّك ثنائي الأشواط، هو مستوى بدائي غير مناسب.
ربما يكون النظام رباعي الأشواط غير مركزي؛ والنظام ثنائي الأشواط مركزي الطابع. الأوّل زاحف، الثاني حيوان ثديي. واحد سمك، الآخر حوت. فهم الفارق بينهما مهم لاحقًا لأنهما سيعبّران هنا عن نظامين سياسيين مختلفين.
كلاهما يحكم من خلال صياغة الرأي العام. الأنظمة ثنائية الأشواط تصمم قصصها. بينما الأنظمة الرباعية لا يحكمها ديكتاتور، لذلك لا تملك مصمّمًا؛ وبالتالي يجب لقصصها أن تتبلور.
عمومًا، يعتمد النظام ثنائي الأشواط على القمع الحازم؛ بينما يعتمد الرباعي على الوهم الناعم. لكن كلاهما، كما سنرى، يمكنهما استخدام، بل أن هذا ما يفعلاه واقعًا، أدوات الاستتباب وتثبيت النظام.
دولة القصة الواحدة
النظام ثنائي الأشواط هو نظام يمكن أن نصفه بنظام القصة الواحدة. فعلى الجميع تصديق رواية واحدة – تاريخ رسمي واحد من الحاضر.
وقد نجح هذا النظام عند أمنحتب [مصر القديمة] كما نجح بالنسبة للرئيس شي جين بينگ. النظام ثنائي الأشواط يكون مناسبًا بشكل خاص للأنظمة الملكية المركزية. كما أنه يناسب الكليشيه المعياري لمفهوم الشمولية الأورويلي.
دولة القصّة الواحدة تتسم بالكفاءة، لكنها غير مستقرة. مشكلتها المزمنة هي أن الناس يكرهون أن يملى عليهم كيف وبماذا يؤمنون. وغالبًا ما يثيرون الشغب حتى عندما تكون القصة حقيقية!
أي شخص زار الصين سيشهد كيفة تنفيذ الشمولية الكلاسيكية بكفاءة. فجمهورية الصين الشعبية لا تصنع جميع السلع الاستهلاكية فحسب، بل إنها الوجهة الأولى لسياحة زراعة الأعضاء. مع أنني أتفهّم أنك قد لا ترغب فعلًا باقتناء سيارات الدفع الرباعي الصينية ذات المحرّك“ثنائي الأشواط”، حتى وإن صممت بشكل جذّاب يبرز كدرّاجات السباق..
فبدون زيت في وقوده، يسخن المحرّك ثنائي الأشواط فورًا. وفي النهاية يشتعل بالنار.
أي دون ممارسة نشطة في القمع الحازم، وبدون أعداء جادين في الداخل أو الخارج، تضعف دولة الحزب الواحد. وبعبارة أخرى، يعفن النظام من النجاح المفرط. وفي النهاية يتم الإطاحة به من قبل فتيات صغيرات يحملن الزهور.
قد يكون النظام المثالي هو نظام القصة الواحدة عندما تكون القصة حقيقية بنسبة 100٪. لكن هذا مستوى خطير من المثالية. كما ولن يلغي هذا المستوى البديهيات الخاصة فيما يتعلّق باستخدام كل وسائل تعزيز استقرار النظام، والعنف، الصوابية السياسية والقمع غير المباشر هي وسائل بجانب أخرى..
دولة القصّتين
النظام رباعي الأشواط هو دولة مبنية على قصتين. عندما يسمع الناس قصة واحدة، يبادرون في العادة إلى التساؤل: هل هذا السرد صحيح؟
فعندما يسمعون روايتين سياسيتين، فإنهم يميلون إلى طرح السؤال: أي واحدة من هاتين صحيحة؟
لكن أليست هذه خدعة أنيقة؟ ربما عالمنا كله مبني على هذه الخدعة.
فأي نقطة يتفق عليها كلا القطبين تصبح قصة مشتركة: وهذا ما نسمّيه بالإجماع الثنائي غير المثير للجدل.
فالقصة المشتركة تحمل بين تفاصيلها ميزة جذرية: فهي لا تملك أعداء طبيعيين وبالتالي تصح تلقائيًا في عقلية الفرد. كما أن حقن الأفكار فيها أمر غير بديهي وبالتالي تصبح فرصة للربح؛ وهذه المهنة تسمى “العلاقات العامة”.
لطبيعة الحال، لا يوجد أي سبب يدعو إلى افتراض أن أيًا من قطبي الصراع في دولة القصة المشتركة، أقرب إلى الواقع من القطب الفردي داخل دولة القصة المصيرية الواحدة.
فتقسيم السرد القصصي، وهنا تكمن المناورة، لم يجب على السؤال القديم: ”هل هذا السرد صحيح؟“، عوضًا عن ذلك تفادى الإجابة بمكر. لاحظ؟ إنها الصناعة المسرحية مجددًا!
هذه الحيلة أفضل حتى من افتراض أن نكون نحن ـ بما أننا قاتلنا هتلر وهتلر كان شريرًا ـ خيّرين وعلى الجانب الصحيح من التاريخ.
هذه المغالطات البسيطة للغاية، أو هذا الاستغلال النفسي، متأصّل لدينا وبعمق في أنظمة التسيير السياسية. مثل الخطأ البرمجي في الرموز، تبقى هذه المغالطات غير مرئية حتى تنظر إليها مباشرةً؛ حينها تبدو واضحة.
النوى المدنية والسياسية
السمة الجوهرية للدولة المبنية على قصتين هي أنها لا تعتمد بدرجة كبيرة على القمع الحازم. فكما هو الحال في النظام رباعي الأشواط، فإن تكلفة هذه السمة هي كومة من الأدوار وانخفاض في الأداء، كما هو الحال في مثالنا عن منفاخ الورق.
المشكلة الهندسية الأساسية لدولة مبنية على قصتين تتمثل في احتواءها للصراع السياسي النشط وغير الضار، والذي يشغل الأطراف المتصارعة عن أي قوة ديمقراطية حقيقية. حيث تحتوي الديمقراطية الحديثة المبنية على قصتين على نواتين: نواة مدنية ونواة سياسية. الحيلة هي: نظريًا، النواة السياسية أقوى من النواة المدنية. عمليًا، النواة المدنية أقوى من النواة السياسية.
والنظام المستقر هنا يجب أن يحافظ على هذا الانعكاس على مستوى السلطة. إذا ضاع الاستقرار، تأخذ النواة السياسية بزمام الأمور عمليًا. لوهلة، يعمل المحرّك بشكل ديمقراطية حقيقي – ثم يتحول إلى شيء آخر، أو مجرد تشتعل فيه النيران وينفجر. تأمّل فقط مصير ألمانيا عام 1933.
مع ذلك، فإن الانقلاب الظاهر هنا هو في النهاية مجرّد خدعة. فالنواة السياسية تقدَّم للعوام وكأنها الحاكم الحقيقي. والنواة المدنية تقدَّم إلى الناسكأداة للحكم. لكن التدفّق الباطن والحقيقي للسلطة هو عكس التدفّق الظاهر.
فالرأي العام لا يوجّه النواة المدنية [المجتمع المدني]؛ لأن الأخيرة هي التي تقود الرأي العام وتسيطر عليه.
دولة القصة المصيرية الواحدة تحتاج إلى ممارسة القمع المستمر؛ بينما تحتاج الدولة المبنية على قصتين إلى صناعة مسرحية مستمرة، إلى نواة مدنية تقمع بشكل غير مباشر وتقدّم الوهم بأنها أداة الشعب، أداة للحكم.
في اللغة المعاصرة، تشير التسمية ذات الطابع الإيجابي، “الديمقراطية”، إلى النواة المدنية: أي يجب علينا جميعًا أن ندافع عن “الديمقراطية” من “السياسة”، والأخيرة هنا هي شارة سلبية وفق المفهوم المعاصر. والواقع المرير هو أن الناس يصدّقون فعلًا بهذه اللغة المخادعة.
هذا الانعكاس هو العلاقة بين البرلمان والملكة التي وصفها الصحفي البريطاني والتر باجهوت قبل 150 عامًا: الناخبون هم الملكة.
على الرغم من كونها إمبراطورة الهند، لم تكن الملكة ڤيكتوريا ضمن دائرة الحكومة الهندية؛ أو الحكومة البريطانية. كما أنها في نفس الوقت لم تفقد أهميتها، وحظيت باحترام الجميع.
وهذا يذكّرني بتسوية هانوڤر، والتي نصّبت ملكية “دستورية” لتحل محل ملكية حقيقية.
ڤيكتوريا يمكن من باب المقارنة أن تضعها بين إليزابيث الأولى، كـ ملكة ”حقيقية“ (وإن كانت تعتمد على أرض الواقع على مستشاريها المدبّرين خصوصًا الداهية وليام سيسيل ومن ينتمي لهذه العائلة) و بين إليزابيث الثانية، كـ ملكة رمزية.
ناخبو اليوم لا يعرفون كيفية إدارة الدولة، مثلما هو حال إليزابيث الثانية التي لا تجيد إدارة قصر وايتهول [حيث تقطن الحكومة].
بعبارة أخرى، قد يرغبون في الهبوط في المطار الصحيح. إلا أنهم لا يملكون أي فكرة عن كيفية التحليق بالطائرة. فالطبيعة الأم لازمت الضعف والخنوع معًا: فقد قضيت بأن يبدو الضعيف ظاهرًا وكأنه يحكم، فلا يمكنه أخذ السلطة أو حتى الاحتفاظ بها. الضعفاء لم ولن يحكموا أبدًا. فأينما تولى عاهل صغير الحكم، حكم مكانه شخص آخر.
النواة المدنية
النواة المدنية هي الإدارة المدنية الدائمة، أو ما تسميه الصحافة في الدول الأخرى “المجتمع المدني”.
“المجتمع المدني” يعني جميع المؤسسات الشرعية المصممة لخدمة أو توجيه الدولة أو الجمهور. وهذا يشمل الصحافة، والأوساط الأكاديمية، والعمل الخيري وهلمّ جرا. هذه الأعضاء الحاسمة تصل ذروتها من التأثير وتكون أكثر أمانًا وديمقراطيةً عندما تبقى خارج نطاق المساءلة السياسية.
وفي حين أن الإدارة المدنية تملك العديد من وسائل الحماية، إلا أنها تظل من الناحية النظرية تابعة لرئيس الدولة. ولو نظرنا إلى مؤسسة حاسمة لديمقراطيتنا مثل الصحافة، فحينها قد لا يبدو من الصواب أن نمتلك وزارة خاصة للمعلومات، باستثناء وقت الحرب. (أبان الحرب العالمية الثانية كان للولايات المتحدة مكتبًا للمعلومات الحربية OWI وفي الحرب العالمية الأولى ما سميت بـ لجنة شؤون الإعلام)
المجتمع المدني لا يمتلك نقطة فشل واحدة. وهذا لطيف، مع ذلك، يصعب عدم ملاحظة ثلاث حقائق مثيرة للقلق حوله:
أولاً: ليس له مركزًا تحكّميًا، لكن نظام سمعته يبدو كذلك أو ثابتًا على الأقل. حيث أن مكانة الجامعات المرموقة والصحف المشهورة لا تبدو خاضعة للتغيير. وهذا يجعل المؤسسات بين حالتين: إما لا تشوبها شائبة أو تجدها غير قابلة للتفسير وغير مسؤولة، وبالتالي مؤدلجة.
ثانيًا: يبدو أن هناك قوة غامضة تقوم بتنسيق هذا النظام أيديولوجيًا، وأن كل هذه المؤسسات المرموقة، رغم كونها منفصلة تمامًا من الناحية التنظيمية، تتفق مع بعضها البعض بشكل سحري ومثير للانتباه. فعندما يغيرون رأيهم، يغيّروه معًا وفي نفس الاتجاه. هذه القوة ليست مركزية، ولكنها تعمل مثل المركز. أو قد تكون مجرد مستوى معتل تمامًا من ”الحكمة“ الجماعية. لكن هل هذا فعلًا صحيح؟
ثالثًا: من ميول هذه القوة الغامضة هو تعزيز الوصفات السياسية الفعّالة. فالمجتمع المدني يفضّل بطريقة ما الاهتمام بالأفكار التي تجعل المجتمع المدني نفسه أقوى. فهو ما يزال سوقًا للأفكار. كما أنه يميل إلى الانشغال بالأفكار السديدة. مع أنه لا يتم محاذاة هذه التفضيلات دائمًا.
إذا استطعنا شرح كل هذه الظواهر، فيمكننا فهم وشرح كيف يمكن للمجتمع المدني اللامركزي، والمحمي بشكل فعّال من الديمقراطية، أن يتحوّل بالفعل إلى استبداد وطغيان أورويلي موزع. لكننا سوف نؤجل هذه النهايات الفضفاضة حتى المقال النهائي.
صمام السلطة
كيف تحمي النواة المدنية نفسها من النواة السياسية التي تهيمن عليها اسميًا؟
هنالك دائمًا صلة دستورية تربط بينهما. وهذه الصلة تخضع لقواعد الجانبين. أي يجب أن تكون غير خاضعة للمساءلة وديمقراطية في نفس الوقت. إنه الكونگرس.
تشريح الصلة هذه هو المفتاح نحو فهم أعمق. إنه الصمام الذي يعكس التدفق الدستوري للسلطة. فالكونگرس يعمل “كأداة رادعة“ للديمقراطية الحقيقية، أي عدم إعطاء أي سلطة فعلية للناخبين.
من الناحية النظرية، الإدارة المدنية هي جزء من السلطة التنفيذية وتقاريرها تقدّم إلى الرئيس. في الممارسة العملية، كما أشار وودرو ويلسون [الرئيس الأمريكي الثامن والعشرين (1856–1924)] في عام 1885 موضّحًا أن “الشكل الفعلي لحكومتنا الحالية هو مجرد مخطط لسيادة الكونگرس التشريعية“. الرؤساء الأقوياء في القرن العشرين – كـ ويلسون وروزفلت – وجدوا طرقًا لترهيب الكونگرس، ولكن فقط بعد تحالفهم مع نواة مدنية شابة وصاعدة.
قد يشغل البيت الأبيض عدة آلاف من المكاتب في العاصمة، وجميع الوكالات الحكومية التابعة له تعمل بشكل جيد دون أي موظّفين مشرفين ومعيّنين بشكل خاص، مع أنه لن تعترف أي وكالة بذلك.
في المكتب، يمكن أن يسبب هؤلاء الأشخاص مشاكل حقيقية – الأمر الذي يؤدي بدوره إلى حدوث مشاكل في العلاقات العامة لرئيسهم المتضعضع في موقفه السياسي. حتى المشرف المعيّن لا يمكن أن يجبر أي قسم في وكالة حكومية ما على فعل أي شيء لا تريد القيام به.
من الصعب أن تكون ”مسؤولًا“ عندما تكون مؤقتًا ولا تستطيع أن تطرد أو حتى تعيد تنظيم الموظفين الدائمين الذين ”يعملون عندك“. هذه التمثيلية هي ضمان رئيسي للدستور غير المكتوب، لأن الرئاسة تظل جهازًا ديمقراطيًا وظاهريًا. فعلى الأقل، يهتم معظم الناس العاديين بالانتخابات الرئاسية، وعلى الناس الاحتفاظ بهذا الوهم.
لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للكونگرس، الذي هو، ومنذ فترة طويلة، مؤقت من الناحية النظرية ودائم على مستوى التطبيق. مرة أخرى: الصلة بين النواة المدنية والنواة السياسية يجب أن تبقى ديمقراطية وغير قابلة للمساءلة. والكونگرس يطابق هذا الوصف تمامًا.
منذ عام 1983 ومعدّل شغر المناصب في مجلس النواب لم ينخفض بنسبة تقل عن 80 ٪، ومجلس الشيوخ أيضًا لم ينخفض معدّله بنسبة تقل عن 60 ٪ منذ عام 1980؛ الأرقام المعتادة هي 90+ و 80+ ؛ فالأقدمية والوظائف السياسية الأخرى تسد هذه الفجوة المؤسسية بسهولة.
ومع ذلك، ومن الناحية النظرية، يمكن للناخبين أن يغيّروا مجلس النواب وبنفس اليسر مجلس الشيوخ – وحتى الوظائف السياسية الجانبية. وبما أن الناخبين لا يقدمون على ذلك، فهذا يعني أنهم راضون من الناحية النظرية عن الوضع كما هو. ورغم ذلك، تجد أن معدل شعبية الكونگرس لا يتجاوز الـ 20 ٪.
لكن لو استطاع الناخب إنجاز هذا التحويل، سيصبح حينها كل شيء ممكنًا، لكنه مستبعد.
الكونگرس عبارة عن نقطة تقاطع للسلطة، وليس مركزًا لها. فهو لا يمارس السلطة، بل يفوضّها. والمشرعون ليسوا في الواقع رجال دولة. فهم لا يناقشون الأفكار ورؤاهم ـ كما فعل كاتو الأكبر وشيشرون ـ حول مفهوم الخير. لإنهم لو قرأوا شيئًا ما فسيلقون خطابًا أمام الكاميرا كتبه على الأرجح أحد الموظّفين عندهم. مهمتهم الحقيقية هي جمع التبرعات وتوطيد العلاقات العامة فقط.
الموظفون هم من يقومون فعليًا بالعمل، لكنهم رغم ذلك لا يكتبون الفواتير الفعلية. فلدى الكونگرس مصدران للمساهمة التشريعية: النشطاء وجماعات الضغط (اللوبي). يأتي النشطاء من أجل الحصول على بعض رفات السلطة؛ بينما يلهث جماعات اللوبي خلف المال.
النشطاء هم ديموقراطيون. جماعات الضغط هم عاهرات المال.
يدير الكونگرس واشنطن من خلال تنسيق القوى الناشطة والقوى المالية مع الوكالات الحكومية نفسها، في أعقاب الدور الملهم الذي تلعبه الصحافة، الرأي الأكاديمي المؤيّد، وكرم العمل الخيري. هذا الدستور الحقيقي غير مدوّن في أي مكان.
والعاصمة لا تحتاج حتى إلى سلطة تنفيذية. فالإمبراطورية الداخلية (“السياسة الداخلية”) بالكاد ستفتقد البيت الأبيض لو اختفى من الوجود، فكل ما ستلاحظه هو أن مصدر ًا للفوضى قد اختفى. الإمبراطورية الخارجية هي الأخرى (“الأمن القومي”) يجب أن تتجاوب مركزيًا مع الجهات الخارجية الفاعلة والتي لا يمكن التنبؤ بها. أي إنها تحتاج إلى أوراكل: إلى مصدر للقرارات النهائية.
ويالها من خدعة سحرية! جهاز الردع الديمقراطي ليس قبيحًا، بل طبيعي وجميل. تبلور من الظروف ولم يخترعه أحد؛ مع أنهم اخترعوا شيئًا آخر بالفعل: لكن هذا الشيء قد فشل ومات، حتى أخذ هذا الشكل. صدفة الحلزون القديمة هي منزل السلطعون الجديد.
ببساطة، الديمقراطية لا تنجح، لذلك ومن المتوقّع أن يتم ردعها؛ وأولئك الذين لا يستطيعون التعامل مع الحقيقة لا يستحقونها. مع ذلك فكر في كل الأصوات الصاخبة، وهي تطالب الشعب الأمريكي بالانتباه إلى مشاكل ملحّة تتطلب اهتمامًا فوريًا، بينما تتناسى ذكر، ولو لمرة واحدة، أنهم يهتمون بالانتخابات الخاطئة.
النواة السياسية
صمام السلطة هذا يعمل بشكل رائع! ولكن مثله مثل أي صمام: قدراته محدودة. يمكنه أن يمنع التأثير المباشر للرأي العام على النواة المدنية، ولكن فقط عندما يكون الرأي العام نفسه خاضعًا لسيطرة معقولة. إذا انقلب كل السكان ضده، فسوف يتمزق.
فكل نظام حكم يحتاج إلى توجيه الرأي العام. لكن من هو هذا الجمهور؟
كما كتب أورويل، كل المجتمعات لها ثلاث طبقات بشرية. الطبقة العليا والعوام والدهماء. الطبقة العليا هي من سكان المدن، مثقّفة وطموحة. العوام هي طبقة من الضواحي، متعلمة ومستقلة. والدهماء هم بروليتاريا ولومبنبروليتريا كارل ماركس: غير متعلمين وغير مستقلين وعالة على الآخرين.
السيطرة على الدهماء والعوام
كان الرومان محقين في خصوص سياسة ”فرّق تسد”. فالصراع الطبيعي يألّب العوام ضد الطبقة العليا والدهماء معًا. هذان الجانبان يحملان نظريات غير متوافقة حول مفهوم الحكومة. فعامة الناس يرون أنها جمعية خدمية، بينما يفهم الناس من الطبقة العليا الحكومة كظاهرة روحية، قوة للخير ومصدر لغاية. الدهماء أو الطبقة السفلى هم ما يصفهم علماء السياسة الهنود بـ “البنك الانتخابي؛ فهم دائمًا يتبعون الطبقة العليا. فنظرًا لأن النواة المدنية مكتظة بأفراد من الطبقة العليا، فإن هذا التحالف يصبح جبهة دفاعية أمام النواة السياسية. أو يمكن للتحالف المدني أن يقدم على خطوة أفضل ويختار الهجوم في هذه اللعبة السياسية.
عندما يخسر هذا التحالف، تصبح العمليات الفعلية للحكومة معرضة لتأثير السلطة السياسية. لكن طالما أن الضغوط والتأثيرات هذه تبقى منخفضة وعابرة، يمكن للصمام أن يتحمّلها. فنفس الكونگرس والإدارة المدنية طويل جدًا.
ولذلك تجد التحالف المدني مجبرًا على عزف أغنيته وفقًا للنسبة الديمغرافية. النسبة في العالم الأول، تكون فيها عامة الناس هي الأغلبية. بينما تتسم النسبة في العالم الثالث بأن عدد العوام فيها متفوق عليه بشكل آمن.
في حالة كونه الأقلية، يعتمد التحالف المدني وجوديًا على ترويض هؤلاء الناخبين ـ المستعدين حتى لانتخاب هتلر لو وجد ـ بحيل الجيداي الذهنية. في حالة الأغلبية، كل ما يهم وعلى التحالف فعله هو أن يظل متحدًا. أما الضواحي، لو أرادت التصويت لهتلر، فلن يمانعوا مطلقًا! في الواقع، قد يكون ذلك مسلّيًا.
لكن التحالف لا يزال بحاجة إلى وصفات سياسية لإبقاء الضواحي مؤمنة بالانتخابات. وكما يقول نيكولاي تشاوتشيسكو: الديمقراطية ليست مجرد انتخابات. وهذا أمر مخيف خاصة إذا كان العوام مسلّحين ومنظّمين عسكريًا.
السيطرة على الطبقة العليا
يعد الحفاظ على طبقة عليا متحدة أكثر أهمية مما قد يبدو. فثورات فلاحين ناجحة هو أمر نادر. بينما ثورات ناجحة للنخبة هو أمر شائع. بالنسبة للعوام والطبقة السفلى، تكون السياسة ثقافية أو قبلية. بينما تُحكَم الطبقة العليا فعليًا من خلال الفلسفة.
إليكم عبقرية نظام القصتين: كل قصة هي فلسفة كاملة، والخيار بينهما ليس منطقيًا. القصتان تصبحان قطبين لإهليلج، يمكن أن يفكر الجميع بحرية داخله: فقاعة أوڤرتون[مصطلح يصف مجموعة الأفكار المقبولة في الخطاب العام].كل نقطة داخل هذا الإهليلج تكون مختلفة. فيمكن لأي عقل ذو أي مستوى من الموهبة والثقافة أن يبحث عن الحقيقة داخل هذه الفقاعة إلى الأبد دون التفكير في السؤال الأصلي: هل كل هذا صحيح؟
إن هذا السوق من الأفكار قد يبدو لوهلة غير مضرًّا، لكنه مهما بلغ من مستوى الإقناع يبقى محتويًا تمامًا من الخارج؛ ففي النهاية هو مجرد جهاز أمان يحمي النظام. ودولة القصة المصيرية الواحدة لا تملك مثل هذا الجهاز.
يعتقد معظم منتقدي الوضع الراهن أنه في الماضي كانت هناك حرية تعبير في أمريكا، لكنها وخصوصًا في السنوات القليلة الماضية تعرّضت لحملة صارمة، على حد تعبيرهم.
إذا كان ذلك صحيحًا وكانت لدينا أرضية لحرية التعبير في ما مضى، فلا أظن أنه هنالك من وطأها من قبل. الجديد في الأمر ليس القيود ولكن الحاجة إلى فرضها. فجوهر فكرة الدولة المبنية على قصتين هو تقليل الحاجة إلى استخدام وسيلة القمع أو حتى تفاديها. ولكن…
دولة الثلاث قصص:
لا تدوم أي إمبراطورية إلى الأبد. فالاستقرار نفسه يزعزع الاستقرار. وكلما كانت النخبة أكثر استقرارًا، زادت حريتها في العبث، ولم تستطع أي نخبة في التاريخ من مقاومة هذا الإغراء بشكل دائم.
تبعات هذا العجز من جانب النخبة هي أن جميع الروايات داخل فقاعة أوڤرتون تصبح غير مقنعة. حينها تتوقّف الأوهام عن العمل، حتى تبزغ قصص جديدة من خارج الفقاعة.
هذه القصص الجديدة يمكن أن تدور حول أي شيء. فالمساحة خارج الفقاعة أكبر بكثير من المساحة الموجودة داخلها. وأخطر القصص الخارجية تكون (أ) صحيحة تمامًا، (ب) تهدف إلى طبقة عليا غير نزيهة و (ج) ترفع من قدر عوام الناس و/ أو تحط من قدر الطبقة السفلى. قد تكون مثل هذه الرواية هي الوصفة السياسية للنظام المقبل. وهذا في الواقع يجب أن يجعلك تفكّر في هتلر وطبيعة الظروف التي سبقته.
لا تقلق! ما زال كل شيء بعيدًا عن الضياع. والقمع الحازم لا يزال متاحًا كورقة سياسية. فهو وسيلة تلحق الضرر بوهم الفكر الحر. كما أنها تعمل بشكل جيد للغاية. فالأوهام قابلة للترقيع، بل حتى للتحطيم. معظم الألمان اليوم سعداء بـ حرية غير مشوبة بأفكار ”مضّرة“ badthink [مصطلح أوريلي يشير إلى أن حرية التعبير مقموعة].
بشكل أكثر دقة وجمالًا، فإن القصة “الثالثة” ليست خطيرة إذ لم تتمكن من النجاح. بل يمكن أن تكون مفيدة – كنوع من اللقاحات ضد الأفكار الخطيرة فعلًا. لكن ظهور قصة مثالية ثالثة هي فكرة سيئة وغير موفقة للغاية. فهي أيضًا تجعل القمع أسهل وأقرب للتطبيق.
كما أن وجودها خارج الفقاعة لا يعني استقلالها عن الفقاعة، فالقصة الثالثة يمكن أن تصاغ بشكل سيئ ومتعمّد.
على المدى الطويل، يتمثّل الخطر في نظام يسري على ثلاث قصص في دمج القصتين السائدتين في قصة واحدة؛ حينها يصبح الإهليلج دائرة؛ والمحرّك رباعي الأشواط يصبح ثنائي. ومع أن هذا النظام لم يصمم ليعمل بمحرّك ذو شوطين. ولكن كما نعلم، هنالك ”مرة أولى“ لكل شيء.
الآن وبعد أن بدأت تشعر بمفعول العلاج
لقد تركنا لغزًا أو اثنين إلى وقت لاحق. لكن إذا كنت تتساءل كيف يمكن لتشوهات أورويلية في الفكر واللغة والتاريخ أن توجد داخل ديمقراطية دستورية حديثة، فأظنك الآن قد عرفت الجواب.
لكن كبسولة الصفاء لم تكتمل بعد. لقد بنينا نظام أورويلي افتراضي في مخيلتنا يشبه إلى حد كبير نظامنا الحالي. وطبعًا ليس لدينا أي دليل على أن ما تصوّرناه يطابق الواقع.
فلا يمكن للمرء أن يشكك في قصة ما من خلال تحقير أصولها. تخيل فقط التشكيك بحقيقة الإسلام عن طريق السخرية من نبيه!
ما سمّاه سي أس لويس بـ ”Bulverism“ [مصطلح صاغه الكاتب والباحث الإيرلندي الشهير في إحدى رواياته قاصدًا به مغالطة فكرية تجعل الفرد يتعامل مع الأسئلة الثانوية حول فكرة ما بدلًا من السؤال الأساسي، وبالتالي يتجنب السؤال الجوهري أو التفاصيل التي تنتج عن قطار التفكير المنطقي] ـ يفتقر للفاعلية من الناحية المنطقية والعملية. والتفسير المكياڤيلي هنا يفسّر فقط أصول السؤال.
ستتبع هذه المقالة أربع مقالات أخرى ضمن هذه السلسلة. المقالات الثلاثة التالية ستكون موجّهة للمؤمنين الحقيقيين بكل قصة من القصص الرئيسية الثلاثة: التقدمية، الدستورية، الفاشية. هذه المقالات ليست اتهامات؛ بل مداخلات. لا تتحدّث عن الفلسفات هذه، بل تخاطبها باللغة التي ينبغي أن يفهمها المؤمنون بها. كما أنها لن تفترض أن رواية ما هي الخير أو الشر.
ونظرًا لأن الروايات لا تشترك في إطار أخلاقي واحد (كما يمكن أن تفهم وفق قانون هيوم ought)، يمكن تحليلها بموضوعية من خلال تشخيص مباشر (هيوم ”is“).
كل مداخلة تسعى إلى استخلاص خاصيتين، الأولى: أن كل فلسفة من هذه الفلسفات الثلاث غير فعّالة من الناحية الموضوعية أو تأتي بنتائج عكسية بخلاف ما تدّعيه من امتلاك وصفة الحنكة السياسية، وأيضًا لأن نتائج السياسات التي تروج لها لا تميل إلى مطابقة أغراضها الصريحة.
الثانية: أن كل فلسفة فعّالة بشكل موضوعي كوصفة سياسية للنظام الحالي.
كبسولة الصفاء، الجزء 1/5: النظام رباعي الأشواط
جرعة واحدة سوف تمحو عقلك السياسي كله.
درّست المدرسة الإيطالية للعلوم السياسية في مطلع القرن العشرين – والتي كان من أبرز شخصياتها جيتانو موسكاوفيلفريدو باريتو، وكذلك لخصها جيمس بيرنهام في أفضل كتاب له ”الميكياڤيليون“ بعبارة: المدافعون عن الحرية (1940) – أن جميع الدول محكومة من قبل النخب الذين يُخضِعون رعاياهم بالأوهام، لا بالعنف.
وصف موسكا هذه الأوهام بأنها ”وصفات سياسية“. الوصفة السياسية هي أي عنصر سردي يجعل مضيفها يفضّل الإجراءات التي تعمل على استقرار النظام بشكل موضوعي. فقد يخضع الفلاح في مصر القديمة لفرعونه لتجنب الإساءة إلى والد الفرعون نفسه، الشمس [رع].
الوصفة السياسية هي أشبه بابنة عم السحر المسرحي. فالأخير يمارس عن طريق تقديم حقائق واقعية في نمط يشير إلى قصة مزيفة ويحجب قصة حقيقية في نفس الوقت. بينما العمل السياسي هو ممارسة على مستوى يتجاوز حياتنا وحواسنا. فلا أحد يستطيع أن يدرك الواقع بلا تدخّل أطراف ثانية أو تأثير ظروف معيّنة. نحن ببساطة نعيش واقعًا داخل قصة نقرأها على أنها حقيقة: أي التاريخ المعاصر.
لتفهم أن الرأي العام هو تأثير، وليس سببًا. لو رويت عليهم نفس القصة، فسيمتلك معظم الناس نفس الرأي. أي أن القصة تدفع نحو الرأي، والرأي يدفع نحو الفعل. تفضّل، هنا قد وفّرت عليك كتابًا كاملًا لـ والتر ليپمان [هنا يقصد كتابه Public Opinion 1922، ليپمان هو كاتب وصحفي ومعلق سياسي أمريكي يعد من أوائل من قدموا مفهوم الحرب الباردة، وصاغوا مصطلح “الصورة النمطية” بالمعنى النفسي المعاصر]. وكما قال ڤولتير: من يجعلك تؤمن بالسخافات و الخرافات يستطيع أن يجبرك على ارتكاب الفظائع.
تنص الفرضية المكياڤيلية على أن جميع الأنظمة الحديثة هي أنظمة أورويلية متحكّمة في الفكر. لكن هل هذا صحيح؟ هل تُخضع حكومتنا رعاياها من خلال محاصرة أذهانهم في قبّة مزيّفة تحاكي الواقع، كما في فلم ذا ترومان شو؟
أوه أوه..
معظم الناس لا يؤمنون بذلك. بل أن معظم من يعتقد ذلك هم، أو هذا ما أشعر به، جهلة، غير ناضجين، مختلين عقليًا أو مجرّد على خطأ. ربما هذه هي الطريقة التي تشعر بها تجاههم أيضًا. فالأشخاص الجادين يعلمون أنه لا توجد مؤامرات حقيقية – فلا يوجد أي شخص مثالي.
إنها مجرد قصة تتوقعها في داخل أي قبة تحاكي حقيقة ما من طراز الدرجة الأولى. فلا أحد يسمو فوق سحر المسرح، ولا حتى السحرة أنفسهم. فالسحر يعمل من خلال العمل بجد والتمرّن بشكل كافي للتغلّب على حدس وغرائز أي شخص. فمن السهل تعليم الجمهور الرفض الغريزي لأنواع معينة من الأفكار. ويبقى الخبراء والجادين هم الأشخاص الوحيدين الذين يجب خداعهم. ولذلك سحر المسرح السياسي هو الهندسة النفسية للشعب. كيف؟
ببساطة، معظم المجالات الهندسية تفوق فهم وقدرات معظم الناس، فما بالك بتعقيد السياسة وتفاصيل سياسات الدولة؟ ربما يمكنك أنت فهم المخطّط.. وربما أي شخص يستطيع الخروج من داخل القبّة. ربما أنا نفسي الساحر في المسرح؟! كن حذرًا!
تناول كبسولة الصفاء
إليك إحدى الطرق للتحقق من أي فكرة لا تريد تصديقها: افترض أنها حقيقية، ثم قم ببناء حقيقة جديدة حول هذه البديهية. بمجرد أن تفشل، يمكنك أن تقول: لا أستطيع أن أرى كيف يمكن لهذه الفكرة أن تكون صحيحة.
مثلًا، لنفترض أنني لا أريد أن أصدق فرضية أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA تقف خلف أحداث تفجير برجي التجارة في نيويورك. في هذه الحالة أحاول بناء واقع يفترض أنها (CIA) نفّذته. في حالة فشل هذا الواقع في الصمود، أعود إلى الاعتقاد بأنها كانت مؤامرة يقف خلفها تنظيم القاعدة.
لا أريد أن أصدق أن أو جاي سيمبسون مذنب؟ أفترض أنه بريء، ثم أبحث عن القتلة الحقيقيين. لكنني لا أستطيع حتى تخيلهم، ولذلك لا أعرف كم ستصمد فرضيتي هذه. لكنك تفهم الفكرة الآن..
هذا التحقق من سلامة أي فكرة حرفيًا آمن من الفشل. فلا يمكنه غسل دماغك بأي هراء عشوائي تقابله أثناء تصفّحك للمواقع في الإنترنت. إذا لم ترَ فتحة في القبّة، فستبقى في واقعك الحالي. وفشلك هو برهان مكافئ عكسي على أنك إما كنت على صواب أو أن خيالك كان ضعيفًا. وفي كلتا الحالتين، حان الوقت لشريحة لحم أخرى.
طبيعي أن أنبّهك على أن نجاحك – يبقى لك. فلا أحد يحتاج منك أن تصدّق أي شيء آخر. هذه الكبسولة محايدة، جحودة و بلا طعم. إنها مجرد علاج واسع الطيف والمفعول لوصفات سياسية رائجة. لا تطوي في جوفها أي معتقدات خاصة، صحيحة كانت أو خاطئة. الكبسولة تقول أنك داخل قبّة. ولا تفترض أي شيئ عن العالم الحقيقي خارج تلك القبّة، فقط أنك لا تعرف شيئًا عن هذا العالم في الخارج – فقط بعض الحقائق. حتى أنها لا تتحدى أي من هذه الحقائق. إنها مصنوعة من فلسفة خالصة ولا تحتوي على وقود نفاث أو عوارض فولاذية. جربها! أعدك بالمتعة!
الهدف من الحياد
التاريخ الحقيقي ليس مجرّد مجموعة من الحقائق. إنه قصة حقيقية مصنوعة من الحقائق. اليوم تجد قصص متعددة ومتلوّنة متاحة لنا من ضوء الحاضر، كالديمقراطية، الدستورية والفاشية. والغرض من هذه الكبسولة هو تقديم معيار لا تجتمع أي قصة من تلك القصص حوله. وتطبيق هذا المعيار يعني عدم تصديق أي قصة على الإطلاق.
أن تكون محايدًا يعني القبول بأنك لا تفهم التاريخ الحالي. فالحياد هو نوع من الإلحاد السياسي. وانعدام القناعة السياسية يعني الامتناع، ليس فقط عن العمل السياسي، بل وبشكل مثالي حتى عن الرغبة السياسية – الثيموس Thymos (الرغبة الباطنة عند الإنسان؛ مصطلح صاغه أفلاطون) عند اليونانيين القدماء.
العمل السياسي المنتج والمؤثّر هو ذلك النشاط السياسي الذي ينطوي على مجموعة تتصرف داخل ووفقًا لسرد القصة السياسية. بينما أنت مجرّد شخص واحد بلا قصص. لذلك لا يمكنك تغيير العالم!
ربما اعتدت على الاعتقاد بأن هذا كان جزءًا من دورك في هذه الحياة. كإنسان. وإن كانت هذه مهمتك فعلًا، فعلى ما يبدو كنت سيئًا في أداءها، ولذلك استقلت. والآن لا تحتاج حتى إلى محاولة “تغيير العالم”.
في حالة الحياد المثالية، والتي لا يبلغها أحد إلى حد الكمال، ستكون أنت خاليًا من الطاقة والإجهاد السياسي. حينها لن تكون ذو فائدة أو ضرر لأي سبب أو جهة معيّنة. ولن تشعر بالسخط ولا الخوف السياسي. ولن تتسبب في مشكلة، ولن تتعثر. ولا حاجة لهذه الإجازة من السياسة أن تدوم طوال حياتك. لكن الأمر وارد. الحياد هو مجرد طلاق فكري من أي سرد يفسّر العالم حولك وتقتنع به الآن. ولا يزال بإمكان شخص ما في هذا العالم أن يحكي لك قصة تستوفي معاييرك الجديدة. ولا يزال بإمكانك تصديق ما يكفي منها لتقرر العيش داخلها. لكنك الآن قد تشعر بارتياح وأنت بمفردك ودون الحاجة للتصديق بأي قصة.
ومن البديهي والضروري في خضم هذا الحياد: أن لا تصوّت، أو تتظاهر، أو تحرّض، أو تفعل أي شيء من هذا القبيل. أن تكون محايدًا هو أن تكون عديم الفائدة قدر الإمكان واتجاه جميع أطراف الصراعات. وإن لم تصبو نحو وجهة ما في السياسة بعد، فقد حان وقت إنقاذك من الذي أنت فيه!
الدعامة الجوفاء
تبدو فرضية مكياڤيلي خاطئة. وهذا ما كنا نتوقعه بالطبع. حيث أن القارئ العادي يعرف نوعين من الأنظمة في القرن العشرين ويفسّرها على النحو التالي:
النوع ”الشرير“ (الشمولي، نظام ”أولئك“) والذي تنطبق عليه القراءة الميكياڤيلية، والنوع الجيد (الديمقراطي، ”نظامنا“) والذي لا تنطبق عليه.
النوع الشرير قاتل النوع الخيّر؛ والأخير رد عليه وقاتله وانتصر عليه. ديمقراطيتنا إذن هي عكس الأورويلية: مجتمع منفتح، سوق حر للأفكار.. صحيح؟
ما لا يفهمه الكثير هو أن التاريخ يمكن أن يروى ويكتب مثل قصة الأطفال. هذه النسخة التي نعرفها اليوم عن القرن العشرين، تم معالجتها ونزع فتيلها ـ كما كانت الأعمال الأدبية والتاريخية تعالج وتنقّح من باب الرقابة كي تناسب ”قناعة“ العصر قبل أن يقرأها ولي العرش في البلاط الملكي الفرنسي ـ و هي حتمًا لا تعرف الشك. أطفالي يتهمونني بامتلاك “الكثير من الكتب القديمة عن هتلر”. وهذا الأمر حقيقي أكثر حتى مما يتصوّرون، وقد تركني هذا واثقًا تمامًا من أن ”نظام أولئك“ (الشرير) هو بالفعل كما لو كان يروي عنه أفضل راوي قصص من ”نظامنا“.
في الواقع، هنالك عدد قليل من العصور التي يعرفها ودرسها مؤرخو اليوم أكثر من الرايخ الثالث. ولأن التاريخ يحب الخاسر، فأرشيفاته عارية، وأسراره دون حراسة.
ولكن يا ترى ماذا يثبت هتلر عنا؟
يمكن أن يحظى ستالين بنفس القدر من الفضل في محاربة هتلر. وقد اقترحت بعض السلطات أنه فعل ذلك لإنقاذ اليهود. ولنكن صريحين، هذا لم يكن هدفنا من الحرب أيضًا؛ ولم ننجح فيه أصلًا.
حتى عند التدبّر الموضوعي في الأحداث الماضية، ستصل لاستنتاج إن حجّة ”الدفاع عن النفس“ لا تبدو راسخة جدًا. (لو كانت هناك خطة محور عسكري لغزو العالم، وهي نظرية اعتقد بها معظم الأميركيين قبل 75 عامًا، وهنالك قلة من المؤرخين يعتقدون بها حتى اليوم، لانتقلت اليابان إلى سيبيريا في عام 1941 ولأمست أوراسيا ملكهم).
و … هم ينتظرون منا أن نقتنع فعلًا بأن هذه النسخة الضعيفة هي بمثابة النجم الذهبي الساطع في سيرتنا التاريخية؟
حتى هذا الاستخدام للضمير ”نا“ هو أوريلي الطابع. ليسوا الأفراد، بل المؤسسات الحيّة هي من روّجت لهذه النسخة أو القصة. وبهذه النتيجة المشتبه بها للغاية، يجب علينا تبجيل علاماتهم التجارية إلى الأبد؟ إنه لحسبان معتل..
هذا التلويح بالورقة النازية، وزنًا منطقيًا تافهًا في قصتنا المشتركة في الحاضر. فأي فهم لطبيعة عمل مؤسسات الطرف الخاسر والتي زالت بعد الحرب، لا يخبرنا شيئًا واحدًا عن طبيعة عمل مؤسسات الطرف الفائز بالحرب. الدعامة التي يقدّموها لحمل روايتهم جوفاء وباطلة. وجودها أشبه بالديكور: بدون غرض حقيقي. وهنا نشهد لمحة صغيرة من الصناعة المسرحية الأصيلة.
نظرية وتطبيق: حكم الاستبداد الموزّع
على ما يبدو، الحقيقة القديمة لا تزال فاتنة. ببساطة هناك نوعان من الأنظمة، لا يمكننا إزاحتهما عن المخيّلة السياسية. فعادة، عندما نفكّر في النازية التاريخية أو الستالينية أو الماوية، فإننا نفكر تلقائيًا في الفظائع التي ارتكبت في زمن الحرب.
عندما ننظر إلى تشيكوسلوڤاكيا في ستينيات القرن الماضي، وألمانيا في الثلاثينيات، وحتى الصين اليوم، سنلاحظ عددًا أقل بكثير من الفظائع وويلات الحروب. ومع ذلك، ما زلنا نرى نفس بنية التحكّم الهرمي، حيث يقوم شخص واحد أو فريق صغير بتوجيه الدولة بالكامل ومن جانب واحد
هذا الهيكل غائب بشكل واضح في الديمقراطيات الغربية.
فمهما كان “نظامنا”، فهو لا يملك ضمن إطاره كيانًا سياسيًا مثل الحزب الشيوعي الصيني أو الرئيس شي جين بينگ. فنظامنا ليس له تسلسل هرمي، ولا مركز. بدون زعيم ولا مكتب سياسي ولا حتى كادر. ربما هي ليست ديمقراطية حقيقية. وحتمًا ليست ملكية أو ديكتاتورية.
يا ترى، هل يجسّد نظامنا استبدادًا موزّعًا بشكل يجعله خفيًّا عن الأنظار؟ هل أن وجود نظام أورويلي لامركزي شيء ممكن؟ إذا استطعنا أن نقول لا وننفي ذلك، سنكون قد انتهينا من مهمّتنا هنا. والفكرة تبدو مستحيلة؛ لكن، هل يمكننا إظهار ذلك؟
شخصيًا لا أظن ذلك، وعليه دعونا نتصوّر ونصمم نظامًا أوريليًا لامركزيًا علّنا نصل لجواب ونفهم أكثر.
لنفترض أنه هنالك نوعان من الأنظمة الأورويلية – مثل المحرّكات الثنائية والرباعية الأشواط. والمحرّكان لا يتفوّقان على بعضهما دائمًا. فمنفاخ ورق (أداة بستانية) بمحرّك أربع أشواط هو إفراط في الطاقة؛ وسيارة بمحرّك ثنائي الأشواط، هو مستوى بدائي غير مناسب.
ربما يكون النظام رباعي الأشواط غير مركزي؛ والنظام ثنائي الأشواط مركزي الطابع. الأوّل زاحف، الثاني حيوان ثديي. واحد سمك، الآخر حوت. فهم الفارق بينهما مهم لاحقًا لأنهما سيعبّران هنا عن نظامين سياسيين مختلفين.
كلاهما يحكم من خلال صياغة الرأي العام. الأنظمة ثنائية الأشواط تصمم قصصها. بينما الأنظمة الرباعية لا يحكمها ديكتاتور، لذلك لا تملك مصمّمًا؛ وبالتالي يجب لقصصها أن تتبلور.
عمومًا، يعتمد النظام ثنائي الأشواط على القمع الحازم؛ بينما يعتمد الرباعي على الوهم الناعم. لكن كلاهما، كما سنرى، يمكنهما استخدام، بل أن هذا ما يفعلاه واقعًا، أدوات الاستتباب وتثبيت النظام.
دولة القصة الواحدة
النظام ثنائي الأشواط هو نظام يمكن أن نصفه بنظام القصة الواحدة. فعلى الجميع تصديق رواية واحدة – تاريخ رسمي واحد من الحاضر.
وقد نجح هذا النظام عند أمنحتب [مصر القديمة] كما نجح بالنسبة للرئيس شي جين بينگ. النظام ثنائي الأشواط يكون مناسبًا بشكل خاص للأنظمة الملكية المركزية. كما أنه يناسب الكليشيه المعياري لمفهوم الشمولية الأورويلي.
دولة القصّة الواحدة تتسم بالكفاءة، لكنها غير مستقرة. مشكلتها المزمنة هي أن الناس يكرهون أن يملى عليهم كيف وبماذا يؤمنون. وغالبًا ما يثيرون الشغب حتى عندما تكون القصة حقيقية!
أي شخص زار الصين سيشهد كيفة تنفيذ الشمولية الكلاسيكية بكفاءة. فجمهورية الصين الشعبية لا تصنع جميع السلع الاستهلاكية فحسب، بل إنها الوجهة الأولى لسياحة زراعة الأعضاء. مع أنني أتفهّم أنك قد لا ترغب فعلًا باقتناء سيارات الدفع الرباعي الصينية ذات المحرّك“ثنائي الأشواط”، حتى وإن صممت بشكل جذّاب يبرز كدرّاجات السباق..
فبدون زيت في وقوده، يسخن المحرّك ثنائي الأشواط فورًا. وفي النهاية يشتعل بالنار.
أي دون ممارسة نشطة في القمع الحازم، وبدون أعداء جادين في الداخل أو الخارج، تضعف دولة الحزب الواحد. وبعبارة أخرى، يعفن النظام من النجاح المفرط. وفي النهاية يتم الإطاحة به من قبل فتيات صغيرات يحملن الزهور.
قد يكون النظام المثالي هو نظام القصة الواحدة عندما تكون القصة حقيقية بنسبة 100٪. لكن هذا مستوى خطير من المثالية. كما ولن يلغي هذا المستوى البديهيات الخاصة فيما يتعلّق باستخدام كل وسائل تعزيز استقرار النظام، والعنف، الصوابية السياسية والقمع غير المباشر هي وسائل بجانب أخرى..
دولة القصّتين
النظام رباعي الأشواط هو دولة مبنية على قصتين. عندما يسمع الناس قصة واحدة، يبادرون في العادة إلى التساؤل: هل هذا السرد صحيح؟
فعندما يسمعون روايتين سياسيتين، فإنهم يميلون إلى طرح السؤال: أي واحدة من هاتين صحيحة؟
لكن أليست هذه خدعة أنيقة؟ ربما عالمنا كله مبني على هذه الخدعة.
فأي نقطة يتفق عليها كلا القطبين تصبح قصة مشتركة: وهذا ما نسمّيه بالإجماع الثنائي غير المثير للجدل.
فالقصة المشتركة تحمل بين تفاصيلها ميزة جذرية: فهي لا تملك أعداء طبيعيين وبالتالي تصح تلقائيًا في عقلية الفرد. كما أن حقن الأفكار فيها أمر غير بديهي وبالتالي تصبح فرصة للربح؛ وهذه المهنة تسمى “العلاقات العامة”.
لطبيعة الحال، لا يوجد أي سبب يدعو إلى افتراض أن أيًا من قطبي الصراع في دولة القصة المشتركة، أقرب إلى الواقع من القطب الفردي داخل دولة القصة المصيرية الواحدة.
فتقسيم السرد القصصي، وهنا تكمن المناورة، لم يجب على السؤال القديم: ”هل هذا السرد صحيح؟“، عوضًا عن ذلك تفادى الإجابة بمكر. لاحظ؟ إنها الصناعة المسرحية مجددًا!
هذه الحيلة أفضل حتى من افتراض أن نكون نحن ـ بما أننا قاتلنا هتلر وهتلر كان شريرًا ـ خيّرين وعلى الجانب الصحيح من التاريخ.
هذه المغالطات البسيطة للغاية، أو هذا الاستغلال النفسي، متأصّل لدينا وبعمق في أنظمة التسيير السياسية. مثل الخطأ البرمجي في الرموز، تبقى هذه المغالطات غير مرئية حتى تنظر إليها مباشرةً؛ حينها تبدو واضحة.
النوى المدنية والسياسية
السمة الجوهرية للدولة المبنية على قصتين هي أنها لا تعتمد بدرجة كبيرة على القمع الحازم. فكما هو الحال في النظام رباعي الأشواط، فإن تكلفة هذه السمة هي كومة من الأدوار وانخفاض في الأداء، كما هو الحال في مثالنا عن منفاخ الورق.
المشكلة الهندسية الأساسية لدولة مبنية على قصتين تتمثل في احتواءها للصراع السياسي النشط وغير الضار، والذي يشغل الأطراف المتصارعة عن أي قوة ديمقراطية حقيقية. حيث تحتوي الديمقراطية الحديثة المبنية على قصتين على نواتين: نواة مدنية ونواة سياسية. الحيلة هي: نظريًا، النواة السياسية أقوى من النواة المدنية. عمليًا، النواة المدنية أقوى من النواة السياسية.
والنظام المستقر هنا يجب أن يحافظ على هذا الانعكاس على مستوى السلطة. إذا ضاع الاستقرار، تأخذ النواة السياسية بزمام الأمور عمليًا. لوهلة، يعمل المحرّك بشكل ديمقراطية حقيقي – ثم يتحول إلى شيء آخر، أو مجرد تشتعل فيه النيران وينفجر. تأمّل فقط مصير ألمانيا عام 1933.
مع ذلك، فإن الانقلاب الظاهر هنا هو في النهاية مجرّد خدعة. فالنواة السياسية تقدَّم للعوام وكأنها الحاكم الحقيقي. والنواة المدنية تقدَّم إلى الناسكأداة للحكم. لكن التدفّق الباطن والحقيقي للسلطة هو عكس التدفّق الظاهر.
فالرأي العام لا يوجّه النواة المدنية [المجتمع المدني]؛ لأن الأخيرة هي التي تقود الرأي العام وتسيطر عليه.
دولة القصة المصيرية الواحدة تحتاج إلى ممارسة القمع المستمر؛ بينما تحتاج الدولة المبنية على قصتين إلى صناعة مسرحية مستمرة، إلى نواة مدنية تقمع بشكل غير مباشر وتقدّم الوهم بأنها أداة الشعب، أداة للحكم.
في اللغة المعاصرة، تشير التسمية ذات الطابع الإيجابي، “الديمقراطية”، إلى النواة المدنية: أي يجب علينا جميعًا أن ندافع عن “الديمقراطية” من “السياسة”، والأخيرة هنا هي شارة سلبية وفق المفهوم المعاصر. والواقع المرير هو أن الناس يصدّقون فعلًا بهذه اللغة المخادعة.
هذا الانعكاس هو العلاقة بين البرلمان والملكة التي وصفها الصحفي البريطاني والتر باجهوت قبل 150 عامًا: الناخبون هم الملكة.
على الرغم من كونها إمبراطورة الهند، لم تكن الملكة ڤيكتوريا ضمن دائرة الحكومة الهندية؛ أو الحكومة البريطانية. كما أنها في نفس الوقت لم تفقد أهميتها، وحظيت باحترام الجميع.
وهذا يذكّرني بتسوية هانوڤر، والتي نصّبت ملكية “دستورية” لتحل محل ملكية حقيقية.
ڤيكتوريا يمكن من باب المقارنة أن تضعها بين إليزابيث الأولى، كـ ملكة ”حقيقية“ (وإن كانت تعتمد على أرض الواقع على مستشاريها المدبّرين خصوصًا الداهية وليام سيسيل ومن ينتمي لهذه العائلة) و بين إليزابيث الثانية، كـ ملكة رمزية.
ناخبو اليوم لا يعرفون كيفية إدارة الدولة، مثلما هو حال إليزابيث الثانية التي لا تجيد إدارة قصر وايتهول [حيث تقطن الحكومة].
بعبارة أخرى، قد يرغبون في الهبوط في المطار الصحيح. إلا أنهم لا يملكون أي فكرة عن كيفية التحليق بالطائرة. فالطبيعة الأم لازمت الضعف والخنوع معًا: فقد قضيت بأن يبدو الضعيف ظاهرًا وكأنه يحكم، فلا يمكنه أخذ السلطة أو حتى الاحتفاظ بها. الضعفاء لم ولن يحكموا أبدًا. فأينما تولى عاهل صغير الحكم، حكم مكانه شخص آخر.
النواة المدنية
النواة المدنية هي الإدارة المدنية الدائمة، أو ما تسميه الصحافة في الدول الأخرى “المجتمع المدني”.
“المجتمع المدني” يعني جميع المؤسسات الشرعية المصممة لخدمة أو توجيه الدولة أو الجمهور. وهذا يشمل الصحافة، والأوساط الأكاديمية، والعمل الخيري وهلمّ جرا. هذه الأعضاء الحاسمة تصل ذروتها من التأثير وتكون أكثر أمانًا وديمقراطيةً عندما تبقى خارج نطاق المساءلة السياسية.
وفي حين أن الإدارة المدنية تملك العديد من وسائل الحماية، إلا أنها تظل من الناحية النظرية تابعة لرئيس الدولة. ولو نظرنا إلى مؤسسة حاسمة لديمقراطيتنا مثل الصحافة، فحينها قد لا يبدو من الصواب أن نمتلك وزارة خاصة للمعلومات، باستثناء وقت الحرب. (أبان الحرب العالمية الثانية كان للولايات المتحدة مكتبًا للمعلومات الحربية OWI وفي الحرب العالمية الأولى ما سميت بـ لجنة شؤون الإعلام)
المجتمع المدني لا يمتلك نقطة فشل واحدة. وهذا لطيف، مع ذلك، يصعب عدم ملاحظة ثلاث حقائق مثيرة للقلق حوله:
أولاً: ليس له مركزًا تحكّميًا، لكن نظام سمعته يبدو كذلك أو ثابتًا على الأقل. حيث أن مكانة الجامعات المرموقة والصحف المشهورة لا تبدو خاضعة للتغيير. وهذا يجعل المؤسسات بين حالتين: إما لا تشوبها شائبة أو تجدها غير قابلة للتفسير وغير مسؤولة، وبالتالي مؤدلجة.
ثانيًا: يبدو أن هناك قوة غامضة تقوم بتنسيق هذا النظام أيديولوجيًا، وأن كل هذه المؤسسات المرموقة، رغم كونها منفصلة تمامًا من الناحية التنظيمية، تتفق مع بعضها البعض بشكل سحري ومثير للانتباه. فعندما يغيرون رأيهم، يغيّروه معًا وفي نفس الاتجاه. هذه القوة ليست مركزية، ولكنها تعمل مثل المركز. أو قد تكون مجرد مستوى معتل تمامًا من ”الحكمة“ الجماعية. لكن هل هذا فعلًا صحيح؟
ثالثًا: من ميول هذه القوة الغامضة هو تعزيز الوصفات السياسية الفعّالة. فالمجتمع المدني يفضّل بطريقة ما الاهتمام بالأفكار التي تجعل المجتمع المدني نفسه أقوى. فهو ما يزال سوقًا للأفكار. كما أنه يميل إلى الانشغال بالأفكار السديدة. مع أنه لا يتم محاذاة هذه التفضيلات دائمًا.
إذا استطعنا شرح كل هذه الظواهر، فيمكننا فهم وشرح كيف يمكن للمجتمع المدني اللامركزي، والمحمي بشكل فعّال من الديمقراطية، أن يتحوّل بالفعل إلى استبداد وطغيان أورويلي موزع. لكننا سوف نؤجل هذه النهايات الفضفاضة حتى المقال النهائي.
صمام السلطة
كيف تحمي النواة المدنية نفسها من النواة السياسية التي تهيمن عليها اسميًا؟
هنالك دائمًا صلة دستورية تربط بينهما. وهذه الصلة تخضع لقواعد الجانبين. أي يجب أن تكون غير خاضعة للمساءلة وديمقراطية في نفس الوقت. إنه الكونگرس.
تشريح الصلة هذه هو المفتاح نحو فهم أعمق. إنه الصمام الذي يعكس التدفق الدستوري للسلطة. فالكونگرس يعمل “كأداة رادعة“ للديمقراطية الحقيقية، أي عدم إعطاء أي سلطة فعلية للناخبين.
من الناحية النظرية، الإدارة المدنية هي جزء من السلطة التنفيذية وتقاريرها تقدّم إلى الرئيس. في الممارسة العملية، كما أشار وودرو ويلسون [الرئيس الأمريكي الثامن والعشرين (1856–1924)] في عام 1885 موضّحًا أن “الشكل الفعلي لحكومتنا الحالية هو مجرد مخطط لسيادة الكونگرس التشريعية“. الرؤساء الأقوياء في القرن العشرين – كـ ويلسون وروزفلت – وجدوا طرقًا لترهيب الكونگرس، ولكن فقط بعد تحالفهم مع نواة مدنية شابة وصاعدة.
قد يشغل البيت الأبيض عدة آلاف من المكاتب في العاصمة، وجميع الوكالات الحكومية التابعة له تعمل بشكل جيد دون أي موظّفين مشرفين ومعيّنين بشكل خاص، مع أنه لن تعترف أي وكالة بذلك.
في المكتب، يمكن أن يسبب هؤلاء الأشخاص مشاكل حقيقية – الأمر الذي يؤدي بدوره إلى حدوث مشاكل في العلاقات العامة لرئيسهم المتضعضع في موقفه السياسي. حتى المشرف المعيّن لا يمكن أن يجبر أي قسم في وكالة حكومية ما على فعل أي شيء لا تريد القيام به.
من الصعب أن تكون ”مسؤولًا“ عندما تكون مؤقتًا ولا تستطيع أن تطرد أو حتى تعيد تنظيم الموظفين الدائمين الذين ”يعملون عندك“. هذه التمثيلية هي ضمان رئيسي للدستور غير المكتوب، لأن الرئاسة تظل جهازًا ديمقراطيًا وظاهريًا. فعلى الأقل، يهتم معظم الناس العاديين بالانتخابات الرئاسية، وعلى الناس الاحتفاظ بهذا الوهم.
لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للكونگرس، الذي هو، ومنذ فترة طويلة، مؤقت من الناحية النظرية ودائم على مستوى التطبيق. مرة أخرى: الصلة بين النواة المدنية والنواة السياسية يجب أن تبقى ديمقراطية وغير قابلة للمساءلة. والكونگرس يطابق هذا الوصف تمامًا.
منذ عام 1983 ومعدّل شغر المناصب في مجلس النواب لم ينخفض بنسبة تقل عن 80 ٪، ومجلس الشيوخ أيضًا لم ينخفض معدّله بنسبة تقل عن 60 ٪ منذ عام 1980؛ الأرقام المعتادة هي 90+ و 80+ ؛ فالأقدمية والوظائف السياسية الأخرى تسد هذه الفجوة المؤسسية بسهولة.
ومع ذلك، ومن الناحية النظرية، يمكن للناخبين أن يغيّروا مجلس النواب وبنفس اليسر مجلس الشيوخ – وحتى الوظائف السياسية الجانبية. وبما أن الناخبين لا يقدمون على ذلك، فهذا يعني أنهم راضون من الناحية النظرية عن الوضع كما هو. ورغم ذلك، تجد أن معدل شعبية الكونگرس لا يتجاوز الـ 20 ٪.
لكن لو استطاع الناخب إنجاز هذا التحويل، سيصبح حينها كل شيء ممكنًا، لكنه مستبعد.
الكونگرس عبارة عن نقطة تقاطع للسلطة، وليس مركزًا لها. فهو لا يمارس السلطة، بل يفوضّها. والمشرعون ليسوا في الواقع رجال دولة. فهم لا يناقشون الأفكار ورؤاهم ـ كما فعل كاتو الأكبر وشيشرون ـ حول مفهوم الخير. لإنهم لو قرأوا شيئًا ما فسيلقون خطابًا أمام الكاميرا كتبه على الأرجح أحد الموظّفين عندهم. مهمتهم الحقيقية هي جمع التبرعات وتوطيد العلاقات العامة فقط.
الموظفون هم من يقومون فعليًا بالعمل، لكنهم رغم ذلك لا يكتبون الفواتير الفعلية. فلدى الكونگرس مصدران للمساهمة التشريعية: النشطاء وجماعات الضغط (اللوبي). يأتي النشطاء من أجل الحصول على بعض رفات السلطة؛ بينما يلهث جماعات اللوبي خلف المال.
النشطاء هم ديموقراطيون. جماعات الضغط هم عاهرات المال.
يدير الكونگرس واشنطن من خلال تنسيق القوى الناشطة والقوى المالية مع الوكالات الحكومية نفسها، في أعقاب الدور الملهم الذي تلعبه الصحافة، الرأي الأكاديمي المؤيّد، وكرم العمل الخيري. هذا الدستور الحقيقي غير مدوّن في أي مكان.
والعاصمة لا تحتاج حتى إلى سلطة تنفيذية. فالإمبراطورية الداخلية (“السياسة الداخلية”) بالكاد ستفتقد البيت الأبيض لو اختفى من الوجود، فكل ما ستلاحظه هو أن مصدر ًا للفوضى قد اختفى. الإمبراطورية الخارجية هي الأخرى (“الأمن القومي”) يجب أن تتجاوب مركزيًا مع الجهات الخارجية الفاعلة والتي لا يمكن التنبؤ بها. أي إنها تحتاج إلى أوراكل: إلى مصدر للقرارات النهائية.
ويالها من خدعة سحرية! جهاز الردع الديمقراطي ليس قبيحًا، بل طبيعي وجميل. تبلور من الظروف ولم يخترعه أحد؛ مع أنهم اخترعوا شيئًا آخر بالفعل: لكن هذا الشيء قد فشل ومات، حتى أخذ هذا الشكل. صدفة الحلزون القديمة هي منزل السلطعون الجديد.
ببساطة، الديمقراطية لا تنجح، لذلك ومن المتوقّع أن يتم ردعها؛ وأولئك الذين لا يستطيعون التعامل مع الحقيقة لا يستحقونها. مع ذلك فكر في كل الأصوات الصاخبة، وهي تطالب الشعب الأمريكي بالانتباه إلى مشاكل ملحّة تتطلب اهتمامًا فوريًا، بينما تتناسى ذكر، ولو لمرة واحدة، أنهم يهتمون بالانتخابات الخاطئة.
النواة السياسية
صمام السلطة هذا يعمل بشكل رائع! ولكن مثله مثل أي صمام: قدراته محدودة. يمكنه أن يمنع التأثير المباشر للرأي العام على النواة المدنية، ولكن فقط عندما يكون الرأي العام نفسه خاضعًا لسيطرة معقولة. إذا انقلب كل السكان ضده، فسوف يتمزق.
فكل نظام حكم يحتاج إلى توجيه الرأي العام. لكن من هو هذا الجمهور؟
كما كتب أورويل، كل المجتمعات لها ثلاث طبقات بشرية. الطبقة العليا والعوام والدهماء. الطبقة العليا هي من سكان المدن، مثقّفة وطموحة. العوام هي طبقة من الضواحي، متعلمة ومستقلة. والدهماء هم بروليتاريا ولومبنبروليتريا كارل ماركس: غير متعلمين وغير مستقلين وعالة على الآخرين.
السيطرة على الدهماء والعوام
كان الرومان محقين في خصوص سياسة ”فرّق تسد”. فالصراع الطبيعي يألّب العوام ضد الطبقة العليا والدهماء معًا. هذان الجانبان يحملان نظريات غير متوافقة حول مفهوم الحكومة. فعامة الناس يرون أنها جمعية خدمية، بينما يفهم الناس من الطبقة العليا الحكومة كظاهرة روحية، قوة للخير ومصدر لغاية. الدهماء أو الطبقة السفلى هم ما يصفهم علماء السياسة الهنود بـ “البنك الانتخابي؛ فهم دائمًا يتبعون الطبقة العليا. فنظرًا لأن النواة المدنية مكتظة بأفراد من الطبقة العليا، فإن هذا التحالف يصبح جبهة دفاعية أمام النواة السياسية. أو يمكن للتحالف المدني أن يقدم على خطوة أفضل ويختار الهجوم في هذه اللعبة السياسية.
عندما يخسر هذا التحالف، تصبح العمليات الفعلية للحكومة معرضة لتأثير السلطة السياسية. لكن طالما أن الضغوط والتأثيرات هذه تبقى منخفضة وعابرة، يمكن للصمام أن يتحمّلها. فنفس الكونگرس والإدارة المدنية طويل جدًا.
ولذلك تجد التحالف المدني مجبرًا على عزف أغنيته وفقًا للنسبة الديمغرافية. النسبة في العالم الأول، تكون فيها عامة الناس هي الأغلبية. بينما تتسم النسبة في العالم الثالث بأن عدد العوام فيها متفوق عليه بشكل آمن.
في حالة كونه الأقلية، يعتمد التحالف المدني وجوديًا على ترويض هؤلاء الناخبين ـ المستعدين حتى لانتخاب هتلر لو وجد ـ بحيل الجيداي الذهنية. في حالة الأغلبية، كل ما يهم وعلى التحالف فعله هو أن يظل متحدًا. أما الضواحي، لو أرادت التصويت لهتلر، فلن يمانعوا مطلقًا! في الواقع، قد يكون ذلك مسلّيًا.
لكن التحالف لا يزال بحاجة إلى وصفات سياسية لإبقاء الضواحي مؤمنة بالانتخابات. وكما يقول نيكولاي تشاوتشيسكو: الديمقراطية ليست مجرد انتخابات. وهذا أمر مخيف خاصة إذا كان العوام مسلّحين ومنظّمين عسكريًا.
السيطرة على الطبقة العليا
يعد الحفاظ على طبقة عليا متحدة أكثر أهمية مما قد يبدو. فثورات فلاحين ناجحة هو أمر نادر. بينما ثورات ناجحة للنخبة هو أمر شائع. بالنسبة للعوام والطبقة السفلى، تكون السياسة ثقافية أو قبلية. بينما تُحكَم الطبقة العليا فعليًا من خلال الفلسفة.
إليكم عبقرية نظام القصتين: كل قصة هي فلسفة كاملة، والخيار بينهما ليس منطقيًا. القصتان تصبحان قطبين لإهليلج، يمكن أن يفكر الجميع بحرية داخله: فقاعة أوڤرتون[مصطلح يصف مجموعة الأفكار المقبولة في الخطاب العام].كل نقطة داخل هذا الإهليلج تكون مختلفة. فيمكن لأي عقل ذو أي مستوى من الموهبة والثقافة أن يبحث عن الحقيقة داخل هذه الفقاعة إلى الأبد دون التفكير في السؤال الأصلي: هل كل هذا صحيح؟
إن هذا السوق من الأفكار قد يبدو لوهلة غير مضرًّا، لكنه مهما بلغ من مستوى الإقناع يبقى محتويًا تمامًا من الخارج؛ ففي النهاية هو مجرد جهاز أمان يحمي النظام. ودولة القصة المصيرية الواحدة لا تملك مثل هذا الجهاز.
يعتقد معظم منتقدي الوضع الراهن أنه في الماضي كانت هناك حرية تعبير في أمريكا، لكنها وخصوصًا في السنوات القليلة الماضية تعرّضت لحملة صارمة، على حد تعبيرهم.
إذا كان ذلك صحيحًا وكانت لدينا أرضية لحرية التعبير في ما مضى، فلا أظن أنه هنالك من وطأها من قبل. الجديد في الأمر ليس القيود ولكن الحاجة إلى فرضها. فجوهر فكرة الدولة المبنية على قصتين هو تقليل الحاجة إلى استخدام وسيلة القمع أو حتى تفاديها. ولكن…
دولة الثلاث قصص:
لا تدوم أي إمبراطورية إلى الأبد. فالاستقرار نفسه يزعزع الاستقرار. وكلما كانت النخبة أكثر استقرارًا، زادت حريتها في العبث، ولم تستطع أي نخبة في التاريخ من مقاومة هذا الإغراء بشكل دائم.
تبعات هذا العجز من جانب النخبة هي أن جميع الروايات داخل فقاعة أوڤرتون تصبح غير مقنعة. حينها تتوقّف الأوهام عن العمل، حتى تبزغ قصص جديدة من خارج الفقاعة.
هذه القصص الجديدة يمكن أن تدور حول أي شيء. فالمساحة خارج الفقاعة أكبر بكثير من المساحة الموجودة داخلها. وأخطر القصص الخارجية تكون (أ) صحيحة تمامًا، (ب) تهدف إلى طبقة عليا غير نزيهة و (ج) ترفع من قدر عوام الناس و/ أو تحط من قدر الطبقة السفلى. قد تكون مثل هذه الرواية هي الوصفة السياسية للنظام المقبل. وهذا في الواقع يجب أن يجعلك تفكّر في هتلر وطبيعة الظروف التي سبقته.
لا تقلق! ما زال كل شيء بعيدًا عن الضياع. والقمع الحازم لا يزال متاحًا كورقة سياسية. فهو وسيلة تلحق الضرر بوهم الفكر الحر. كما أنها تعمل بشكل جيد للغاية. فالأوهام قابلة للترقيع، بل حتى للتحطيم. معظم الألمان اليوم سعداء بـ حرية غير مشوبة بأفكار ”مضّرة“ badthink [مصطلح أوريلي يشير إلى أن حرية التعبير مقموعة].
بشكل أكثر دقة وجمالًا، فإن القصة “الثالثة” ليست خطيرة إذ لم تتمكن من النجاح. بل يمكن أن تكون مفيدة – كنوع من اللقاحات ضد الأفكار الخطيرة فعلًا. لكن ظهور قصة مثالية ثالثة هي فكرة سيئة وغير موفقة للغاية. فهي أيضًا تجعل القمع أسهل وأقرب للتطبيق.
كما أن وجودها خارج الفقاعة لا يعني استقلالها عن الفقاعة، فالقصة الثالثة يمكن أن تصاغ بشكل سيئ ومتعمّد.
على المدى الطويل، يتمثّل الخطر في نظام يسري على ثلاث قصص في دمج القصتين السائدتين في قصة واحدة؛ حينها يصبح الإهليلج دائرة؛ والمحرّك رباعي الأشواط يصبح ثنائي. ومع أن هذا النظام لم يصمم ليعمل بمحرّك ذو شوطين. ولكن كما نعلم، هنالك ”مرة أولى“ لكل شيء.
الآن وبعد أن بدأت تشعر بمفعول العلاج
لقد تركنا لغزًا أو اثنين إلى وقت لاحق. لكن إذا كنت تتساءل كيف يمكن لتشوهات أورويلية في الفكر واللغة والتاريخ أن توجد داخل ديمقراطية دستورية حديثة، فأظنك الآن قد عرفت الجواب.
لكن كبسولة الصفاء لم تكتمل بعد. لقد بنينا نظام أورويلي افتراضي في مخيلتنا يشبه إلى حد كبير نظامنا الحالي. وطبعًا ليس لدينا أي دليل على أن ما تصوّرناه يطابق الواقع.
فلا يمكن للمرء أن يشكك في قصة ما من خلال تحقير أصولها. تخيل فقط التشكيك بحقيقة الإسلام عن طريق السخرية من نبيه!
ما سمّاه سي أس لويس بـ ”Bulverism“ [مصطلح صاغه الكاتب والباحث الإيرلندي الشهير في إحدى رواياته قاصدًا به مغالطة فكرية تجعل الفرد يتعامل مع الأسئلة الثانوية حول فكرة ما بدلًا من السؤال الأساسي، وبالتالي يتجنب السؤال الجوهري أو التفاصيل التي تنتج عن قطار التفكير المنطقي] ـ يفتقر للفاعلية من الناحية المنطقية والعملية. والتفسير المكياڤيلي هنا يفسّر فقط أصول السؤال.
ستتبع هذه المقالة أربع مقالات أخرى ضمن هذه السلسلة. المقالات الثلاثة التالية ستكون موجّهة للمؤمنين الحقيقيين بكل قصة من القصص الرئيسية الثلاثة: التقدمية، الدستورية، الفاشية. هذه المقالات ليست اتهامات؛ بل مداخلات. لا تتحدّث عن الفلسفات هذه، بل تخاطبها باللغة التي ينبغي أن يفهمها المؤمنون بها. كما أنها لن تفترض أن رواية ما هي الخير أو الشر.
ونظرًا لأن الروايات لا تشترك في إطار أخلاقي واحد (كما يمكن أن تفهم وفق قانون هيوم ought)، يمكن تحليلها بموضوعية من خلال تشخيص مباشر (هيوم ”is“).
كل مداخلة تسعى إلى استخلاص خاصيتين، الأولى: أن كل فلسفة من هذه الفلسفات الثلاث غير فعّالة من الناحية الموضوعية أو تأتي بنتائج عكسية بخلاف ما تدّعيه من امتلاك وصفة الحنكة السياسية، وأيضًا لأن نتائج السياسات التي تروج لها لا تميل إلى مطابقة أغراضها الصريحة.
الثانية: أن كل فلسفة فعّالة بشكل موضوعي كوصفة سياسية للنظام الحالي.
من الصعب تخيل أي شخص يقبل بهذين الافتراضين، ويبقى مؤمنًا حقيقيًا بإحدى الروايات. ومن خلال تعبئة كبسولة واحدة بلقاحات ضد جميع الوصفات السياسية الرئيسية الثلاثة، سنحظى حينها بفرصة لمحو العقل السياسي لأي شخص. المقال الأخير سيدور حول ما يجب فعله بلوحك الجديد والخاوي من الشوائب.”
لا يمكن كتابة التاريخ في أعقاب الحرب. فالجانب الخاسر لا يملك من ينطق عن لسانه، والمؤرّخون من الجانب المنتصر مقيدون بسنوات من الدعاية الحربية التي شيطنت العدو وحجبت جرائم المنتصر. وكالعادة، يريد الناس أن يستمتعوا ويشعروا بالرضا تجاه انتصارهم على “الشر”، لا أن يسمعوا عن حقيقة أن جانبهم كان مسؤولًا عن الحرب أو أنه كان من الممكن تجنّبها لولا أجنّدة زعمائهم الخفية التي حالت دون ذلك. أضف إلى ذلك، أن المؤرخين مقيّدون أيضًا بعدم توفّر المعلومات والمصادر دائمًا. فلإخفاء الأخطاء والفساد والجرائم، تقوم الحكومات بحجب المستندات لعدة عقود. مذكّرات عديدة لمن عاصر وشهد على الأحداث عن كثب تضيع أو تحجب خوفًا من الانتقام. يمكنك أن تتخيّل أن البحث عن الشهود وتحديد مكانهم يعدّ أمرًا مكلفًا ويستغرق وقتًا طويلاً، خاصة أولئك المحسوبين على الجانب الخاسر. دون ذكر العناء والجهد لإقناعهم بالإجابة على الأسئلة الحساسة.
أي قراءة تاريخية تتحدّى “القراءة السعيدة” تتطلب قدراً كبيراً من التأكيد والبراهين من الوثائق الرسمية والمقابلات والرسائل والمذكرّات، وحتى هذا لن يكون كافيًا. بالنسبة لتاريخ الحرب العالمية الثانية في أوروبا، يمكن لهذه الوثائق أن تنشر من نيوزيلندا وأستراليا عبر كندا والولايات المتحدة عبر بريطانيا العظمى وأوروبا وإلى روسيا. هنا يواجه المؤرّخ الساعي في مسار الحقيقة سنوات طويلة من التحقيق المضني وتطوير الفطنة للحكم واستيعاب الأدلّة التي اكتشفها وإعادة رسمها في صورة صادقة وأقرب ما يمكن من الوصف لما حدث فعلًا. الحقيقة دائمًا ما تكون مختلفة كثيرًا عن الدعاية التي يروّج لها المنتصر.
كما ذكرت مؤخراً، كان هاري إلمر بارنز هو أول مؤرّخ أمريكي يقدّم تاريخًا للحرب العالمية الأولى استند إلى مصادر أوّلية، فرواياته الصادقة تختلف بشكل كبير عن الدعاية الحربية للحلفاء لدرجة أنه كان يسمّي كل شخص نقل أو كتب عنه في الكتاب.
ديڤد إيرڤينگ، بلا شك أفضل مؤرّخ للجانب الأوروبي من الحرب العالمية الثانية، تعلّم وبثمن باهض أن تحدّي الخرافات لا يمر دون عواقب. ومع ذلك، ثابر إيرڤينگ في المضي قدمًا ومواجهة رأي المنتصر. إذا كنت ترغب في الهروب من الأكاذيب المتعلّقة بالحرب العالمية الثانية والتي لا تزال توجّه مسارنا الكارثي المعاصر، فأنت تحتاج فقط إلى دراسة كتابين من تأليف ديفيد إيرڤينگ “حرب هتلر” والمجلّد الأول من سيرة تشرشل الذاتية “حرب تشرشل ـ الصراع من أجل السلطة“.
إيرڤينگ هو المؤرّخ الذي قضى عقودًا من الزمن في تتبع مذكّرات الناجين والمطالبة بإصدار الوثائق الرسمية. هو المؤرّخ الذي عثر على مذكرّات روميل وگوبلز ، والمؤرّخ الذي دخل في الأرشيف السوفيتي، وهلم جرا. إيرڤينگ شخص على دراية بالحقائق الفعلية حول الحرب العالمية الثانية أكثر من بقية المؤرّخين مجتمعين. كتب المؤرّخ العسكري البريطاني الشهير السير جون كيجان في ملحق التايمز الأدبي: “كتابان يبرزان في أدب الحرب العالمية الثانية: كتاب تشيستر ويلموت “الصراع من أجل أوروبا” والذي نشر في عام 1952، وكتاب “حرب هتلر” لـ ديڤد إيرڤينگ.
وعلى الرغم من العديد من الجوائز التي نالها، فإن إيرڤينگ يعد اليوم مؤرّخ شرير ومنبوذ، ويضطر لنشر كتبه الخاصة بنفسه، بسبب رفض وخوف المطابع.
قد أتجنب ذكر لماذا ومن وراء كل ذلك، لكن نعم، تخمينك للأمر صائب: الصهاينة. بكل بساطة يستحيل قول أي شيء يغيّر صورتها الدعائية للتاريخ، الصورة المهيمنة في عقول البشر المعاصر.
في ما يلي، سأقدّم ما هو انطباعي بعد قراءة هذين العملين. إيرڤينگ نفسه نادرًا ما يستطرد في الآراء. هو يقدّم الحقائق من الوثائق الرسمية فقط، والاعتراضات المسجلّة، واليوميات، والرسائل والمقابلات.
الحرب العالمية الثانية كانت حرب تشرشل وليست حرب هتلر. إيرڤينگ يقدّم حقائق موثّقة لا يمكن للقارئ تجنّب هذا الاستنتاج منها. فتشرشل قد حصل على حربه التي اشتاق إليها بسبب معاهدة فرساي التي جرّدت ألمانيا من الأراضي الألمانية وفرضت الإذلال بشكل غير عادل وغير مسؤول.
هتلر وألمانيا الاشتراكية القومية (يرمز مصطلح النازي [ناتسي Nazi] إلى حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني Nationalsozialismus) هما أكثر الكيانات التي شيطنها التاريخ المعاصر. أي شخص يجد أي خير في هتلر أو ألمانيا يصبح بطبيعة الحال شيطانًا على الفور، ومن بعدها منبوذًا بغضّ النظر عن الحقائق التي قد يقدّمها. إيرڤينگ أدرك هذا جيدًا. ففي كل مرة يبدأ تقريره الواقعي عن هتلر في عرض شخص مختلف كثيرًا عن الصورة الشيطانية في عقل المتلقّي، يبادر إيرڤينگ بالتعقيب بلغة سلبية عن هتلر.
وبالمثل في ما يخص وينستون تشرشل، ففي كل مرة يعرض فيها تقريره شخصًا مختلفًا تمامًا عن الأيقونة التي يقدّسها الكثير، يبادر إيرڤينگ بلغة تقديرية في وصفه.
وهذا ما يتعين على المؤرّخ فعله للبقاء على قيد الحياة عند قول الحقيقة.
لكي أكون واضحًا، أنا فقط أعرض لك كقارئ ما يبدو لي أنه الاستنتاج الأمثل من الحقائق الموثّقة المقدّمة في هذين الكتابين. أنا أنقل ما توصّلت إليه أبحاث إيرڤينگ من نتائج. نصيحتي لك هي أن تقرأ الكتابين بنفسك وتصل إلى استنتاجك الخاص.
بدأت الحرب العالمية الثانية بإعلان الحرب البريطاني والفرنسي على ألمانيا، وليس بحرب خاطفة [حرب البرق Blitzkrieg] من جانب ألمانيا كما يروّج له. فقد كانت الهزيمة المطلقة للجيشين البريطاني والفرنسي نتيجةً لانهيار بريطانيا التي أعلنت حربًا لم تكن هي مستعدة لها، والفرنسيون من جانبهم حصروا أنفسهم كالمغفّلين بمعاهدة مع البريطانيين الذين هجروا حليفهم الفرنسي بسرعة تاركين فرنسا في رحمة ألمانيا.
كانت رحمة ألمانيا كبيرة فعلًا. فقد ترك هتلر جزءًا كبيرًا من فرنسا والمستعمرات الفرنسية آمنة من الحرب في ظل حكومة شبه مستقلة تحت حكم فيليب بيتان. حُكِم على الأخير بالإعدام من قبل شارل ديغول بعد الحرب لتعاونه مع ألمانيا، وهي تهمة غير عادلة بحق من حاول الحفاظ على نوع من الاستقلالية رغم الموقف المنهزم.
في بريطانيا، كان تشرشل خارج السلطة الفعلية في البلاد. ولذلك اعتقد أن الحرب ستعيده حتمًا إلى السلطة، خصوصًا وأنه لم يتمكن وقتها أي بريطاني من مضاهاة خطابه وبلاغته السياسية أو العزم الذي كان يشعّه في خطبه. ببساطة طمع تشرشل بالسلطة، وأراد أن يعيد تكرار المآثر العسكرية المذهلة لسلفه المتميز، الدوق مارلبورو، الذي كتب سيرة حياته تشرشل نفسه. ولعل أبرز انتصارات الدوق هي هزيمته لملك فرنسا لويس الرابع عشر، بعد سنوات من الكفاح العسكري.
على عكس الأرستقراطي البريطاني، كان هتلر رجلًا من الشعب، وقدّم نفسه كشخص جاء من أجل الشعب الألماني. كانت معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى قد قطّعت ألمانيا وأنهكتها اقتصاديًا وأهانتها دوليًا. فقد تمت مصادرة أجزاء من أراضي ألمانيا وضمّها إلى فرنسا وبلجيكا والدنمارك وبولندا وتشيكوسلوفاكيا. حينها خسرت ألمانيا ما يقارب الـ 7 ملايين ألماني إلى بولندا وتشيكوسلوفاكيا، حيث تعرض الألمان هنالك للإيذاء والتمييز، وهذه لم تكن نتيجة عادلة إطلاقًا.
كان برنامج هتلر هو إعادة أراضي ألمانيا مرة أخرى ولملمة ما تفكك جراء المعاهدة. ولقد نجح في تحقيق ذلك دون حرب حتى وصل إلى بولندا. حيث كانت مطالب هتلر نزيهة وواقعية، لكن تشرشل، الذي تموّله مجموعة فوكاس بالمال اليهودي والتي أسسها عالم الاجتماع اليهودي روبرت ك. ميرتون، مارس ضغوطًا على رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين حتى تدخّل في المفاوضات البولندية الألمانية وأصدر ضمانًا بريطانيًا للديكتاتورية العسكرية البولندية إذا رفضت بولندا التخلّي عن الأراضي الألمانية والسكان فيها.
واقعيًا لم يكن لدى البريطانيين أي وسيلة للوفاء بهذا الضمان، لكن الديكتاتورية العسكرية البولندية كانت تفتقر في نفس الوقت إلى الذكاء الكافي لإدراك ذلك. وبالتالي، رفضت الديكتاتورية البولندية طلب ألمانيا.
من هذا الخطأ الذي ارتكبه تشامبرلين والدكتاتورية البولندية الغبية، جاء اتفاق ريبنتروب / مولوتوف بأن ألمانيا والاتحاد السوفيتي سوف يقسّمان بولندا بينهما ويلتزمان الحياد في حالة تعرّض أحد الطرفين لهجوم من طرف ثالث. وعندما هاجم هتلر بولندا، أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا بسبب الضمان البريطاني غير القابل للتنفيذ. لكن البريطانيين والفرنسيين كانوا حريصين على عدم إعلان الحرب على الاتحاد السوفيتي وإن احتلّ النصف الشرقي من بولندا.
وهكذا كانت بريطانيا مسؤولة عن الحرب العالمية الثانية، أوّلًا بالتدخّل بغباء في المفاوضات الألمانية البولندية، والثانية بإعلان الحرب على ألمانيا.
كان تشرشل من جانبه يركّز على الحرب مع ألمانيا؛ الحرب التي كان ينويها لسنوات سابقة. لكن هتلر لم يكن يريد أي حرب مع بريطانيا أو مع فرنسا، ولم يقصد قط غزو بريطانيا. فكرة التهديد بالغزو من قبل النازيين كانت بمثابة خطّة واعدة استحضرها تشرشل لتوحيد إنجلترا خلفه. مع أن هتلر سبق وأن أعرب عن رأيه بأن الإمبراطورية البريطانية ضرورية للحفاظ على النظام في العالم، وأن الأوروبيين في غيابها سيفقدون تفوّقهم على العالم. وحتى بعد هزيمة ألمانيا للجيوش الفرنسية والبريطانية، عرض هتلر معاهدة سلام غير عادية الامتيازات إلى بريطانيا. وقال إنه لا يريد شيئًا من بريطانيا سوى عودة المستعمرات الألمانية. بل ألزم الجيش الألماني بالدفاع عن الإمبراطورية البريطانية، وقال إنه سيعيد تشكيل كل من الدولتين البولندية والتشيكية ويتركهما تحدددان مصيرهما، وأخبر مساعديه أن هزيمة الإمبراطورية البريطانية لن تجني شيئًا لألمانيا ولكن كل شيء للبلاشفة في روسيا واليابان.
ونستون تشرشل من جانبه أبقى عروض هتلر للسلام سراً قدر المستطاع ونجح في جهوده الرامية إلى عرقلة أي بوادر سلام. تشرشل أراد الحرب، وعلى ما يبدو وإلى حد كبير، لمجده الخاص.
فرانكلين روزفلت شجّع تشرشل في حربه ولكن دون تقديم أي التزام عسكري نيابة عن بريطانيا. فقد أدرك روزفلت أن الحرب ستحقق هدفه الخاص بإفلاس بريطانيا وتدمير الإمبراطورية البريطانية، وأن الدولار الأمريكي سيرث الموقف القوي أمام الجنيه البريطاني لكونه عملة الاحتياط في العالم. وبمجرّد أن حشر تشرشل بريطانيا في حرب لم تستطع كسبها بمفردها، بدأ روزفلت بتوزيع قطع من المساعدات في مقابل أسعار مرتفعة للغاية – على سبيل المثال توزيع 60 مدمرة أمريكية قديمة وغير مجدية إلى حد كبير لقواعد بحرية بريطانية في المحيط الأطلسي. شرّعت بريطانيا حينها قانون الإعارة والتأجير Lend – Lease Act وتفاقمت الأسعار حتى قامت بريطانيا اليائسة بتسليم 22.000 مليون دولار من الذهب البريطاني بالإضافة إلى 42 مليون دولار من الذهب الذي حصلت عليه بريطانيا في جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة. ثم بدأت عمليات البيع القسري للاستثمارات البريطانية الخارجية.
على سبيل المثال، شركة Viscose Company المملوكة لبريطانيا، والتي بلغت قيمتها 125 مليون دولارًا في عام 1940، لم تكن عليها ديون ولديها 40 مليون دولار من السندات الحكومية، وقد تم بيعها إلى House of Morgan مقابل 37 مليون دولارًا.
لقد كان فعلًا لا يختلف عن السرقة، حيث اضطر البريطانيون إلى بيعها بحوالي ثلثي قيمة الشركة وتسليمها إلى واشنطن مقابل ذخائر الحرب. كانت المساعدات الأمريكية أيضًا مشروطة بتفكيك بريطانيا لنظام التفضيل الإمبراطوري المرتكز في اتفاقية أوتاوا لعام 1932. بالنسبة إلى كورديل هال، وزير الخارجية الأمريكي بين 1933 ـ 1944، كانت المساعدات الأمريكية “سكّينا لفتح ذلك المحّار، الإمبراطورية”.
أدرك تشرشل هذا الثمن إلا أنه كان غارقًا في الحرب بشكل جعله يضطر قبول التماس مع روزفلت والخضوع لمطالبه: وكتب حينها لروزفلت أنه “من الخطأ إذا تم تجريد بريطانيا العظمى من جميع الممتلكات القابلة للبيع، بحيث، بعد الانتصار بالدم وإنقاذ الحضارة، نقف مكتوفي الأيدي ومجرّدين من كل شيء”.
يمكن كتابة مقال طويل حول كيف أن روزفلت قد جرّد بريطانيا من أصولها وقوتها العالمية. يكتب إيرڤينگ أنه في عصر رجال عصابات الدولة، لم يكن تشرشل في مكانة تنافس روزفلت أصلًا. حتى أن بقاء الإمبراطورية البريطانية لم يكن من أولويات روزفلت. فقد اعتبر تشرشل بمثابة مهمّة سهلة – لا يمكن الاعتماد عليها في معظم الأوقات. يكمل إيرڤينگ أن سياسة روزفلت كانت داعمة لتشرشل بشكل أشبه بـ “نوع الدعم الذي يقدّمه الحبل لرجل على وشك شنق نفسه”. تابع روزفلت تخريبه للإمبراطورية طوال الحرب. وفي النهاية أدرك تشرشل أن واشنطن كانت في حالة حرب مع بريطانيا أكثر شراسة من تلك مع هتلر. المفارقة العظيمة هي أن هتلر قد عرض على تشرشل السلام وبقاء الإمبراطورية في أكثر من مرة. وعندما فات الأوان، توصّل تشرشل إلى نفس استنتاج هتلر بأن الصراع مع ألمانيا كان حربًا “غير ضرورية”.
هتلر نهى في الواقع عن قصف المناطق المدنية بالمدن البريطانية. لقد كان تشرشل هو من بدأ جريمة الحرب هذه، والتي احتذى بها الأمريكيون لاحقًا. بل تفادى وأخفى تشرشل حقيقة القصف البريطاني للمدنيين الألمان وأبقاه سرًّا عن الشعب البريطاني وعمل على منع الصليب الأحمر من مراقبة الغارات الجوية حتى لا يعلم أحد أنه يقصف المناطق السكنية المدنية. كان الغرض من تفجير تشرشل – أول قنابل حارقة لإشعال كل شيء ثم المتفجّرات الشديدة ومنع رجال الإطفاء من السيطرة على الحرائق – هو استفزاز هجوم ألماني على لندن، والذي اعتقد تشرشل آنذاك أنه سيربط الشعب البريطاني به ويجذب التعاطف في الولايات المتحدة مع لبريطانيا بشكل كافي لجر أمريكا إلى الحرب. قتلت غارة بريطانية من سلاح الجو 50 ألف من المدنيين في مدينة هامبورغ وحدها، وحصد هجوم لاحق 40 ألف قتيل مدني آخر. كما أمر تشرشل باستخدام الغاز السام وقصف المناطق السكنية المدنية الألمانية بالقنابل النارية وحتى تحويل روما إلى رماد. لكن سلاح الجو البريطاني رفض كلا الأمرين. في نهاية الحرب، دمّر البريطانيون والأمريكيون مدينة دريسدن الجميلة الباروكية، وقاموا بحرق وخنق 100.000 من سكّانها في الهجوم على المدينة. وبعد أشهر من الهجمات بالقنابل الحارقة على ألمانيا، بما في ذلك برلين، استسلم هتلر لجنرالاته وأجاب بالمثل. وبالتالي نجح تشرشل من كسب غايته وأصبح الجلّاد هو الضحية.
كما هو حال هتلر في ألمانيا، تولّى تشرشل زمام أمور الحرب بشكل مباشر وعمل كدكتاتور تجاهل القوّات المسلحة رغم كونه رئيس وزراء تنصحه القادة العسكر في البلاد وليس العكس. ربما كان كلا الزعيمين محقّين في تقييمهما للقادة العسكريين، لكن هتلر كان استراتيجي حرب أفضل بكثير من تشرشل الذي لم ينجح في أي شيء على الإطلاق [تذكّر أن من أوقف ألمانيا هو التحالف ضدها]. في مغامرة تشرشل WW I Gallipoli أبان الحرب العالمية الأولى [٦٠ ألف قتيل و٢٠٠,٠٠٠ جريح بسبب قرارات تشرتشل العسكرية الخاطئة]، زجّ بإلقوّات البريطانية إلى كارثة تضاف إلى قرارات خاطئة أخرى تكررت في النرويج واليونان وكريتا وسوريا و داكار. حتى حلفاؤه الفرنسيين لم يسلموا منه، حيث دفعه الخوف المفرط، والذي لا توجد إلى اليوم أدلّة عسكرية تبرره، إلى تدمير أسطول فرنسي في معركة المرسى الكبير والتضحية بحياة 1600 بحّار فرنسي بين قتيل وجريح خوفًا من أن هتلر قد ينتهك معاهدته مع الفرنسيين ويستولي على الأسطول. كل خطأ فادح من هذه كان يمكن أن يؤدّي إلى تصويت بحجب الثقة عنه، ولكن مع تشامبرلين وهاليفاكس لم تكن هناك قيادة بديلة. في الواقع، الافتقار إلى القيادة هو السبب في عدم قدرة الحكومة أو الجيش على مواجهة قائد ذو تصميم حديدي كتشرشل آنذاك.
هتلر هو الآخر كان شخصًا ذو تصميم صلد، وهذا ما قاده وألمانيا إلى الهزيمة. هو لم يكن يريد الحرب مع إنجلترا وفرنسا، بل تشرشل هو من أراد هذه الحرب. ومثل تشرشل الذي كان وراءه الشعب البريطاني، كان وراء هتلر الشعب الألماني أيضًا في هذه الحرب، لأنه أعاد بناء ألمانيا واسترد مكانتها بعد الاغتصاب والخراب بسبب معاهدة فرساي.
لكن هتلر ليس أرستقراطيًا مثل تشرشل، بل ذو أصول بسيطة وعادية، لم يكن له ولاء العديد من الضبّاط العسكريين البروسيين، الذين ميّزتهم من الـ “فون von” [بن، بن آل..] التي تسبق أسمائهم. لقد كان محاطًا بالخونة في محاور الدفاع، مخابراته العسكرية، بما في ذلك مديرها الأدميرال ڤيلهلم كاناريس. على الجبهة الروسية في العام الأخير من الحرب، تعرّض هتلر للخيانة من قبل بعض الجنرالات الذين فتحوا سبلاً للروس للتوغّل نحو برلين.
كانت أسوأ أخطاء هتلر هي تحالفه مع إيطاليا وقراره بغزو روسيا. لقد كان مخطئًا أيضًا في السماح للبريطانيين بالذهاب إلى دونكيرك. حيث سمح لهم بالرحيل لأنه لم يرغب بالتفريط بفرصة إنهاء الحرب عن طريق إذلال البريطانيين بفقدان جيشهم بأكمله. لكن مع تشرشل لم تكن هناك فرصة للسلام. فمن خلال عدم تدمير الجيش البريطاني، عزز هتلر موقف تشرشل الشعبي والذي حوّل عمليات الإخلاء من فرنسا إلى سواحل إنجلترا إلى بطولات بريطانية قوّت من استعدادهم للقتال.
من غير الواضح لماذا غزا هتلر روسيا. أحد الأسباب المحتملة هو المعلومات الرديئة أو الخادعة المتعمّدة من جنرالات الدفاع الخائنة حول القدرة العسكرية الروسية. قال هتلر في وقت لاحق لمعاونيه إنه لم يكن ليغزو روسيا أبدًا لو كان قد علم بالحجم الهائل للجيش الروسي والقدرة الاستثنائية للسوفييت على إنتاج الدبابات والطائرات. استنتج بعض المؤرّخين أن السبب وراء غزو هتلر لروسيا هو أنه أدرك أن البريطانيين لن يوافقوا على إنهاء الحرب لأنهم توقّعوا أن تدخل روسيا الحرب إلى جانب بريطانيا. وعليه، قرر هتلر قهر هذا الاحتمال عن طريق قهر روسيا.
كتب مؤرّخ روسي أن هتلر هاجم من جبهة الشرق لأن ستالين نفسه كان يستعد لمهاجمة ألمانيا. كانت لدى ستالين قوى كبيرة، ومن المنطقي أن ينتظر ستالين حتى يلتهم الغرب نفسه في سفك الدماء المتبادل، ويتدخّل بعد ذلك ويسيطر على الموقف بقوّة. أو ربما كان ستالين في موقع يمكّنه من احتلال جزء من أوروبا الشرقية كي يوسّع المساحة الجغرافية العازلة بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا.
مهما كان سبب الغزو، فإن ما هزم هتلر هو في الواقع أوّل شتاء روسي طويل منذ 30 عامًا. لقد أجهض كل شيء قبل أن يكتمل التطويق الألماني الذي خطط له. وبالتالي أعطى فصل الشتاء القاسي والذي جمّد زحف وحراك الألمان المزيد من الوقت لستالين للتعافي.
بسبب تحالف هتلر مع موسوليني، والذي كان يفتقر إلى قوة قتالية فعّالة ، تم استنزاف الموارد اللازمة على الجبهة الروسية من أجل إنقاذ إيطاليا. وبسبب سوء قيادة موسوليني، اضطر هتلر إلى سحب الكثير من القوّات والدبابات والطائرات من جبهة روسيا لإنقاذ إيطاليا في اليونان وشمال إفريقيا واحتلال جزيرة كريت. لقد ارتكب هتلر هذا الخطأ بسبب ولائه لموسوليني. في وقت لاحق من الحرب، عندما كانت الهجمات الروسية المضادة تدفع الألمان خارج روسيا، كان على هتلر تحويل الموارد العسكرية الثمينة لإنقاذ موسوليني من الاعتقال واحتلال إيطاليا لمنع استسلامها. ألمانيا افتقرت ببساطة إلى القوى البشرية والموارد العسكرية للقتال على جبهة تبلغ مساحتها ألف ميل [1600 كم] مع روسيا، وكذلك في اليونان وشمال إفريقيا، وهي مازالت تحتل جزءًا من فرنسا، وتقاتل في جبهة الغزو الأمريكي/البريطاني للنورماندي وإيطاليا.
كان الجيش الألماني قوة عسكرية قتالية مدهشة آنذاك، لكنه كان غارقًا في العديد من الجبهات، ومعدّاته قليلة جدًا. لم يدرك الألمان أبدًا، على الرغم من الأدلةّ الكثيرة، أن البريطانيين تمكّنوا من فك تشفير اتصالاتهم. وبالتالي، تم منع الجهود المبذولة لتزويد رومل في شمال أفريقيا بالدعم من قبل البحرية البريطانية.
إيرڤنگ لا يتناول في كتابيه المحرقة بشكل مباشر. هو يوثّق مذبحة العديد من اليهود، لكن الصورة التي تنبثق من الأدلة الواقعية هي أن محرقة اليهود كانت مختلفة تمامًا عن القصة الصهيونية الرسمية.
لم يتم العثور على أي خطط ألمانية أو أوامر من هتلر أو من هيملر أو أي شخص آخر بالمباشرة بعمليات حرق منظّمة عن طريق الغاز وحرق اليهود جميعًا. مثل هكذا قرار غير عادي يتطلّب الاستخدام المكثّف للموارد والنقل ويتطلّب تنظيمًا ضخمًا وميزانيات وموارد كبيرة. ما تظهره الوثائق هو خطة هتلر لنقل اليهود الأوروبيين إلى مدغشقر بعد نهاية الحرب. لكن مع النجاح المبكّر للغزو الروسي، تم تغيير هذه الخطة إلى إرسال اليهود الأوروبيين إلى جانب اليهود البلاشفة في الجزء الشرقي من روسيا والذي كان هتلر سيغادره بكل الأحوال. قال هتلر مرارًا وتكرارًا أن “المشكلة اليهودية” سيتم تسويتها بعد الحرب.
يبدو أن معظم مذابح اليهود ارتكبها المسؤولون السياسيون الألمان في الأراضي المحتلة في الشرق، وهم اليهود الذين تم إرسالهم من ألمانيا وفرنسا إلى مكان آخر. لكن بدلاً من التعامل معهم بجهد، اصطفّهم بعض المسؤولين العسكريين من وحدات الـ SS وأطلقوا عليهم النار في خنادق مفتوحة. وقع اليهود الآخرون ضحية غضب القرويين الروس الذين عانوا لفترة طويلة في عهد المسؤولين البلشفيين اليهود.
“معسكرات الموت” كانت في الواقع معسكرات عمل. معسكر أوسشڤيتس، على سبيل المثال ـ اليوم متحف الهولوكوست ـ كان مصنعًا مهمًا للمطاط الصناعي في ألمانيا. وألمانيا كانت يائسة بسبب قلة وجود أيدي عاملة. فأغلب القوى العاملة انخرطت بأعداد كبيرة في الجيش لسد الثغرات الموجودة في الخطوط الألمانية على الجبهة الروسية. كانت مواقع الإنتاج الحربي، مثل أوسشڤيتس، بمثابة قوة عاملة اجبرت على العمل. احتاجت ألمانيا بشدّة إلى أي يد عاملة يمكن الحصول عليها.
كما كان في كل معسكر محارق. لم يكن الغرض منها إبادة السكان بل التخلّص من الوفيات الناجمة عن آفة التيفوس والوفيات الطبيعية وغيرها من الأمراض. كان اللاجئون والمعتقلون هنالك من كل مكان، وأحضروا معهم بطبيعة الحال الأمراض والجراثيم. إن الصور المروعة لأتلال الجثث الشبيهة بالهيكل العظمي التي قيل أنها دليل على الإبادة المنظّمة لليهود هي في الواقع نزلاء المعسكر والمعتقلين الذين ماتوا من التيفوس والمجاعة في الأيام الأخيرة من الحرب عندما كانت ألمانيا غير منظّمة وخالية من الأدوية والمواد الغذائية في معسكرات العمل. لقد قصف المنتصرون الغربيون النبيلون أنفسهم معسكرات العمل وساهموا في مقتل السجناء، لكن لا أحد يتكلّم عن هذه الوقائع.
بلغ مجموع الكتابين اللذين أنقل عنهما هنا 1663 صفحة، وهناك مجلّدان آخران عن سيرة تشرشل. ويبدو أن هذه المعلومات التاريخية الهائلة والموثّقة من المحتمل أن يكون مصيرها النسيان والضياع، لأنها لا تتسق مع الموقف الغربي الذي يدّعي امتلاكه للحقيقة التاريخية ولا مع موقف أغلب المؤرّخين المتسيّسين في هذه الحقبة. الحقائق باهظة الثمن للغاية. لكن المثير للانتباه أن بعض المؤرخين قد بدأوا بإضافة الكثير من المعلومات التي كشفها إيرڤينگ إلى تقاريرهم الخاصة.
يتطلب الأمر مؤرّخًا شجاعًا ليمتدحه، لكن بدلاً من ذلك، يقتصر أغلبهم على الاستشهاد به أو سرقة مصادره.
إنه لأمر مدهش أن تعي مقدار القوة التي حصلت عليها الحركة الصهيونية من المحرقة. الأستاذ الجامعي الأمريكي اليهودي والمتخصص في العلوم السياسية نورمان فينكلشتاين يسمّيها “صناعة المحرقة”. هناك أدلة كثيرة على أن اليهود مع آخرين كثيرين عانوا، لكن الصهاينة يصرّون على أنها كانت تجربة فريدة تقتصر على اليهود فقط.
في مقدّمة كتابه “حرب هتلر”، يذكر إيرڤينگ أنه على الرغم من المبيعات الواسعة لكتابه، والثناء من المؤرخين البارزين وحقيقة أن الكتاب كان مطلوبًا ومرغوبًا للقراءة في الأكاديميات العسكرية من ساندهيرست إلى ويست بوينت، “إلا أن البلطجية قد حطّموا منزلي في أكثر من فرصة، أرعبوا عائلتي، شوّهوا اسمي، هاجموا المطبعة التي نشرت كتبي، وألقي القبض علي ونفيت من النمسا الديمقراطية الصغيرة، حيث أن إنكار الهولوكوست يعتبر جريمة هنالك [حتى في المانيا اليوم]، وقضت محاكمهم بمعاقبة “المذنبين” بناءً على طلب الأكاديميين الساخطين والمواطنين المؤثّرين [الصهاينة]. في السنوات اللاحقة، تم ترحيلي من كندا (في عام 1992)، ورفضت من الدخول إلى أستراليا ونيوزيلندا وإيطاليا وجنوب إفريقيا ودول “حضارية” أخرى حول العالم. قامت مجموعات تابعة على المستوى الدولي بتوزيع الرسائل على المكتبيين والمطابع، مطالبة بإخراج هذا الكتاب من أرففهم.”
قليل يذكر عن “الفكر الحر والحقيقة” في العالم الغربي. حريّة التعبير وأهمية الحقيقة في الغرب لا تحظى بقيمة كما يعتقد البعض. في الغرب يتم التحّكم في التفسيرات من أجل دفع أجنّدة ومصالح المجموعات الحاكمة. وكما تعلّم ديڤيد إيرڤينگ، سيلاقي الويل كل من يعيق ذلك.
مشكلة الفهم واستيعاب أنماط التاريخ هي عائق لا بد من محاولة تجاوزه، أو على الأقل إلقاء الضوء عليه، كما أحاول هنا:
ما يستعصي على الإنسان المعاصر هو التكيّف مع التسارع الأسّي للتقنية والذي يرتبط بشكل عكسي مع قدرة الإنسان على استيعاب التاريخ وتطوّر الأحداث فيه وفق أنماط تتكرر لو توفّرت نفس الظروف. المجتمعات البشرية القديمة أدركت منذ حين أن مستجدّات التكنولوجيا تمكّنها من تعزيز قدراتها التنافسية مقابل المجتمعات الأخرى، وتعزّز سيطرتها على الطبيعية حولها. وبالسيطرة أقصد أكبر قدر ممكن. فالعلاقة بين الإنسان والطبيعة الأم ليست في شكل تنافسي، كما يريد أن يفهمه أو يصوّره البعض، بل أن مصيرنا هو رهن بيدها، دائمًا وأبدًا. من يعتقد العكس يحتاج إلى كمية Ego خيالية للوصول لمثل هذا الاستنتاج.
وبينما لا يجيد الإنسان المعاصر ترتيب الأحداث التاريخية المتباطئة منذ بزوغ الحضارة وحتى قبل الثورة الصناعية؛ من الصعب أن تنتظر منه استيعاب التسارع التقني والاجتماعي في آخر مئة سنة. أو حتى التنبّؤ بالتطوّرات في العقود القليلة القادمة. والنقطة الأخيرة جوهرية في صياغة الفلسفة التي تتبناها أو النهج السياسي/الاقتصادي الذي تعوّل عليه.
كيف تفهم فكرتي أكثر: الفرق بين من ولد بعد الإنترنت نهاية الثمانينيات وانتشار الكمبيوترات ودخولها لبيوت المستخدم العادي [الإنسان الرقمي] و بين من سبقه ويعتبر طارئ على المجتمع الرقمي الحديث، هو أشبه بالفرق بين الإنسان الذي اخترع محرّك البخار [الثورة الصناعية الأولى] وبين من سبقه ممن عاش في عصر الزراعة والتدجين في العصور القديمة.
كي نتمكّن من الاقتراب من تنبّؤات قريبة من الواقع، لا بد من محاولة التفكير بشكل متسارع [المحاولة هي أفضل فرصة نملكها وقد تفشل] أو يراعي التسارع التقني الذي يعجّل من انتقال المجتمعات إلى مرحلة التطوّر القادمة أو الزوال بسرعة.
ولكي تبدأ بفهم هذا النمط المتسارع [مراحله الأولى]، لا بد من متابعته بدءًا من السنة ٧٠,٠٠٠ قبل هذا اليوم. أو إن استعصى الأمر، ابدأ من ٨٠٠٠ ق. م. مع أن التسارع يتباين من منطقة لأخرى [كمقارنة أوساط أفريقيا أو أوربا مع الهلال الخصيب إبان الثورة الزراعية]. والتسارع هذا بحكم طبيعته الرياضية يتطلّب منك أن تتابع الأحداث الرئيسية التي غيّرت من مجرى التطوّر للحضارات البشرية. ولذلك أكرر، الغوص في أعماق التاريخ هو المفتاح ولا يمكن استبداله. وبما أن هذه العملية في فهم الأنماط قد تستغرق سنوات من عمرك وجهدك، ربما ستعي لماذا هي عسيرة على أغلب البشر ولماذا وغالبية البشر العظمى لن تعي كل ذلك في عصرنا هذا. أنت بحاجة لمتخصصين وقادة. لنخبة تقود بعيداً عن استحسان مزاج الشعب