لم تَعُد الرواية الكلاسيكية عن جلوس طبقة النبلاء إلى يمين الملك الفرنسي إبان الثورة الفرنسية بوصفهم مؤيدين للملك والملكية إزاء أولئك الجالسين إلى اليسار بوصفهم مؤيدين للطبقات المسحوقة والحقوق الفردية كافية لوصف جذور تيار اليمين – أو تيار اليسار بطبيعة الحال – أو بيان أحوالهم ورؤاهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالتياران مرّا وما زالا يمرّان بمراحل وأطوار ما لبث البعض منها يتبدل ويتغير والبعض الآخر يترسخ أو يزداد صلابة. لذا فإن العودة إلى رواية جلوس الطرفين على جانبي الملك ليست سوى سردية مجردة وخاوية لا تقدم وصفًا جذريًا مفعمًا للوقوع على أحوال هذين التيارين المهيمنين على الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العالمية في عصرنا الحالي.

وعلى هذا الأساس تحديدًا – أي أساس الابتعاد عن التجريد – نسأل: اليمين المحافظ، على ماذا يريد الحفاظ؟ الإجابة المجردة عن هذا السؤال هي: لقد أراد جناح اليمين الحفاظ على الملكية والتراتبية الطبقية التي كانت قائمة في القرن الثامن عشر وما قبله وبعده بمُدَدٍ وجيزة. أما الإجابة العقلانية فهي: أي يمين محافظ نقصد؟ وهل عاد هناك يمين [محافظ]؟ وإذا كان هناك يمين محافظ؛ فهل يحافظ على قيم اجتماعية، مبادئ سياسية، رؤى اقتصادية، أم نواميس القبيلة وتقاليد الأرستقراط؟ لقد بات اليمين [المحافظ] فرعًا باليًا من أفرع التيارات اليمينية في مختلف الأقطار، ولم تَعُد هناك أساسًا حاجة لمرادفة [المحافظ] اللهم إلا إذا قُلنا [المتحفظ] – لأن الحفاظ على الأفكار والرؤى المتعلقة بالمجتمع والسياسة والاقتصاد لم تَعُد رهن طبقة اجتماعية عُليا تفرض رؤاها على طبقات أدنى – ولهذا صار تيار اليمين السياسي [يتحفظ] على بعض القرارات الحكومية فيما يتعلق بالسياسة أو الاقتصاد وليس من شأنه [الحفاظ] على شيء. أما القيم الاجتماعية فلم تَعُد هي الأُخرى ترتهن بمركزية الدولة أو حاشية الملك أو أتيكيت البلاط. وبالتالي فليس هناك فرد يدّعي انتمائه لتيار اليمين ويصرح بأنه يمسك بزر أو مقبض يمكنه من الحفاظ على تقاليد أو عادات أو قيم اجتماعية معينة، سواء كانت سامية أم سافلة، فهنا، في هذا المضمار، القول الفصل هو للجينات، للتسافل والتسامي الجيني، وليس لليميني عصا سحرية أو مقبض يربط به المجتمع فيوجهه أنّى شاء. تبقى ميادين السياسة والاقتصاد هي ميادين الصراع المحتدم بين اليمين وخصومه. وهنا يتوجب التذكير مرة أُخرى بأنه ليس شرطًا أن يكون يمينًا محافظ. فالتسمية المترادفة [يمين] و [محافظ] ليست تسمية دالّة على المعنى صراحة، على أن هذا الترادف لم يَعُد مُلزِمًا لذكر اليمين، فقد انبثقت وتطورت أفرع كثيرة من التيار اليميني وصار لها شأن وصوت مسموع، وآخرها هو فرع اليمين (العودي) الجديد الذي يقوده أمثال آلان دو بنوا وتوميسلاف سونيتش وآلان دوغاتكن وكرتيس يارفن وغيرهم. وهناك اليمين المعتدل الذي يحب معتنقوه أن يُنعَتوا بالليبراليين من أمثال توماس سويل وميلتون فريدمان وجوردن بيترسون. وهناك اليمين التحرري الذي يقوده هانز هيرمان هوبه ويشترك معه ميلتون فريدمان أيضًا.
على عكس المفهوم الشائع القائل أن اليمين بوصفه [محافظًا] يريد الحفاظ على قيم أو عادات اجتماعية معينة، فإن اليمين لا ينظر إلى المجتمع بصفته طبقة واحدة ينبغي الحفاظ على عاداتها وتقاليدها، أو أنه مصدر السلطة والتشريع الأساس. إذ يُعارض توماس سويل الهندسة الاجتماعية، ويعارض هانز هيرمان هوبه اتخاذ المجتمع مصدرًا أساس للتشريع والسلطات، ويشاطره سونيتش الرأي في ذلك، ويعارض آلان دو بنوا التدخل أساسًا في الشؤون الاجتماعية لفرض أنماط معينة أو رفع غيرها. بل أن اليمين ينظر إلى المجتمعات المعاصرة كما ينظر إلى المحتضر، ولا يعول عليها في شيء من الصلاح أو العَمار، لأنها باتت رهينة التسليع والتماثل الذي أنتجته أيديولوجيا العولمة. وبالتالي
وبالتالي فلا يرى اليمين أية عادات أو تقاليد أو أنماط اجتماعية ينبغي الحفاظ عليها – وليست هذه وظيفته أو مهمته على أي حال – لأنه لا يرى في المجتمع أداة لتمرير أجندته أو دعايته، ولا يتخذ من الشعبوية التي تلعب على أوتار العامّة من الأهالي نمطًا للتسويق أو التنظير أو الترويج. فمهمة اليميني – أو همَّه الشاغل – هو العيش في مجتمع ينعم فيه بأسباب الراحة وليس أن يوفر له المجتمع وسائل الراحة. لذا فهو لا يسعى إلى تغيير المجتمع أو الوثوب للدفاع عن تقاليده أو عاداته أيًا كانت. ولكي ينعم بأسباب الراحة ينبغي أن يعيش حياة طبيعية خالية من التكلف والمحاباة والمركزية الشمولية والشعبوية والأيديولوجيات والانصهار مع العولمة التماثلية. لذا يمكننا اعتبار همّ اليميني هو العودة إلى الطبيعة في عالم بات يعتبر الطبيعة أشد أعدائه – ولهذا يصف نيكولاس جوميز دافيلا نفسه بالرجعي/العودي.
هل هناك حزب عراقي معروف او غير معروف يتبنى الفكر اليميني؟
إعجابإعجاب