دليلك للمعارض: ترياق للفوضى السياسية(١)

(هذه سلسلة من المقالات في الشأن العراقي تعود للكاتب مردوخ. أنقلها هنا بطلب منه وخوفا على المحتوى من الضياع. من هو مردوخ ؟محلل سياسي بدون تحفظات، يرفض كل القوالب الإعلامية المحنطة، ويطمح لربط كل خيوط الفوضى العراقية في نموذج مفهوم. كان التهاوي الفاضح لموجة احتجاجات تشرين دافعا لظهوره، لأنه كشف عن فقر فكري مدقع لدى الأنصار والخصوم معا)

—الجزء الأول

[انا أنتمي الى هذه الجيل، الجيل الذي -على عكس الأجيال السابقة- أتيحت رفاهية الانفتاح على العالم ورؤية ما يحدث وكيف يعيش الناس في مختلف بقاع الأرض، فالمرء لم يعد مضطرًا لمتابعة التلفزيون الحكومي الذي يفتح لساعات محددة تتخللها خطابات الرئيس المثيرة للغثيان. ذلك لان التقنية جعلت من الهاتف المحمول عالم مصغر بين يديك. وبفضل التوسع الاستهلاكي -لا الانتاجي- الذي حدث كنتيجة لرفع الحصار وارتفاع اسعار النفط لأعلى مستوياتها في التاريخ، أزداد الاستيراد واتيحت لنا إمكانية شراء كل شيء تقريبًا. من اين حصلنا على المال؟ حصلنا عليه من حاجة السياسي في المنظومة الديمقراطية الى (رشوة الناس)، من حاجته الى استرضاء الناس، والكلمة السحرية كانت هي “التوظيف الحكومي”

وظيفة في القطاع العام ورواتب لقطاع كبير من الشعب والمقابل هو الصوت الانتخابي والولاء لولي نعمتهم. بعبارة اخرى: المال الذي كان يفترض ان يصرف في اتجاه إنشاء البنى التحتية وتشجيع الاستثمار وتطوير الصناعة المحلية ليكون توسعنا الاقتصادي (انتاجي) يضمن مستقبل الأجيال اللاحقة، صرفه الديمقراطيون في الموازنات التشغيلية، ولأكون اكثر دقة: صرفوه في رشوة الشعب واستقطابه سياسيًا.

ابناء جيلي قضوا مراهقتهم في الألعاب الإلكترونية وسائر وسائل الترفيه، وحصل معظهم على تغذية جيدة مقارنة بمن سبقهم ولهذا كان نموهم الجسدي السريع ظاهرة يسهل ملاحظتها من قبل الآباء. [ اولاد بقامات فارعة، وفتيات بأجساد لم نكن نتوقع انها ممكنة الا في انميات الهنتاي اليابانية]. ولكن لا شيء يدوم اذا لم تتوفر اسباب دوامه -بأستثناء وجه الله وسلالة ال الصدر…لسنا متأكدين من الأولى بصراحة- الرفاه ايضاً زائل! وذلك لان المرء يتقدم في العمر ومسؤولياته تزداد مع هذا التقدم (علاقة طردية). فالواحد منا أدرك ان العالم أوسع من البلايستيشن ومواقع التواصل الاجتماعي، وانه مطالب بشكل او أخر بالحصول على عمل وبالتالي مسكن جديد وزوجة. هنا كانت الصدمة…لا شيء من هذا ممكن يا صاح!

فتوسع البلد الاستهلاكي وصل الى اقصى ما يمكن الى درجة ان الحكومة لا تستطيع دفع الرواتب الى موظفيها -موظفيها في الواقع هم اباء هذا الجيل- من دون ان تأخذ قروض. والوضع الاقتصادي ينهار تحت وطئة أخطاء الماضي المتراكمة وقرارات الحاضر الساذجة. ونظرًا لذلك حصلنا على جيل أكمل حياته الجامعية فَلّم يجد أمامه من شيء سوى السراب. والمحصلة النهائية كانت: قطاع واسع من الشباب الغاضب.

(يقظة)

على عكس أقراني، قضيت بضعة مئات من الساعات في القراءة، عن السياسية، التاريخ، والاقتصاد. في الواقع انا شخص ملل اكثر من مباراة في الدوري العراقي. لكنني في المقابل تعلمت ان الشعور بالغضب مهما كانت دوافعه مبررة واسبابه متوفرة لا يكفي لإحداث التغيير السياسي المطلوب. فالسياسية هي علم وفن -ولعلها أصعب العلوم واجدرها بالفهم وذلك لانها تؤثر على ما سواها من المجالات.

التطلع الى التغيير هو شيء خطير للغاية، فالقول ان هناك خطأ في هيكلية النظام يتطلب منك اولاً وصف هذا الخطأ بدقة، استحداث الوسائل لاصلاحه ومن ثم تقديم البديل المناسب. ولكن ما حدث هو العكس: شاب مسلح بمزيج من الغرور، الإسراف، والتهور، يقدم على مغامرة هائلة لإصلاح السياسية، الاقتصاد، المجتمع. شاب مسلح بافتراضات لا اساس لها من الصحة، افتراضات أطلقتها المؤسسة الدعائية للنظام ورددها “مثقفو الجنس الثالثة” حتى أصبحت مسلمات لا تحتمل النقاش.

عزيزي القارئ، ان قدراً من التحلي بالموضوعية وشيئاً من الحس السليم يشيران الى ضرورة الوقوف على نتائج احتجاجات تشرين الكارثية وتحليلها. فالماضي هو الحاضر الذي يفرق من أجل الفهم. ولكن قبل ذلك ان كنت من المشاركين في الاحتجاج أدعوك الى ترك التفكير بطريقة ثنائية [معي ام ضدي؟]. أننا في هذا الظرف الحساس في احوج ما يكون الى الفهم ذلك لان “العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا”

في رأيي المتواضع، الخطوة الأساسية لفهم السياسة العراقية هي بفهم طبيعة النظام. النظام (من نظم ينظم نظما ونظاما) هو: الترتيب والاتساق. لنعرفه ب “طريقة لعمل عدة اشياء او أجزاء في وحدة واحدة.” تعريف بسيط لكن يفي بالغرض الان.

من هذا التعريف يتبين ان وظيفة النظام هي ١) تقليل الإنتروبيا (العشوائية) الناتجة عن التقاء الناس وتضارب مصالحهم الخاصة في التجمعات السكانية ليصبح التعاون ممكناً ومن ثم ٢) رفع الإنتاجية البشرية لأقصى حد ممكن، فالدولة في الاساس نشأت كنتيجة مباشرة لتراكم الفائض من الانتاج الزراعي الذي اضطر المستوطنات الزراعية قديماً في وادي الرافدين لتكوين مراكز ادارية.

ولكن النظر الى النظام العراقي الديمقراطي -تخيله كسيارة- يجعلك تدرك انهُ مصمم بطريقة عكسية. [حيث تزداد العشوائية ومعها التفسخ الاجتماعي الناتج عن كثرة الانتماءات السياسية وبالتالي يصبح الإنتاج (اي نوع من الإنتاج: غير ممكن)] لماذا؟ سأشرح لك هذا بالتفصيل فيما بعد. المهم الان هو انك اطلعت على نصيحة الميكانيكي، بعد ان اخبرك ان المشكلة هي السيارة – النظام نفسه- لا الوقود ولا العجلات ولا حتى الركاب! . [على فرض انك تعيش في منطقة جبلية ومضطر لقطع طريق وعر بشكل يومي للذهاب الى العمل في الوقت المحدد، ولكن بدلاً من ان تقلل سيارتك الصغيرة الزمن المستغرق للوصول العمل تعيقها الصخور الصغيرة عن الحركة وتتعطل فتقضي المزيد من الوقت في محاولة إخراجها واصلاحها]. يا صاح انت بحاجة لسيارة دفع رباعي — نظام جديد.

معرفتك ان العيب في نوعية السيارة، غير المخصصة لهذا النوع من الطرق، يعني على الاقل انك غير مضطر لمحاولة إصلاحها في كل مرة، ولا صرف الجهد، الوقت، والمزيد من المال عليها. اذا فهمت ان العيب هو “النظام الديمقراطي” ذاته لا في الانتخابات ولا اي شيء أخر فقد فهمت نصف “الاشكال السياسي” فالعدو هو النظام كله، والخطأ هو وجوده. هذا الفهم يعني الكثير سياسياً لو ادركه من يدفعون الناس للتظاهر والاحتجاج. “فمحاولتهم تغيير النظام عبر آلياته سواء كان الامر عن طريق الانتخابات او التظاهر تذكرنا بالرجل الذي يحاول حل مشكلة زواجه العاثر ببيع الأريكة التي حدث عليها الزنا”]

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s