دليلك للمعارضة: ترياق للفوضى السياسية(٣)

(هذه سلسلة من المقالات في الشأن العراقي تعود للكاتب مردوخ. أنقلها هنا بطلب منه وخوفا على المحتوى من الضياع. من هو مردوخ ؟محلل سياسي بدون تحفظات، يرفض كل القوالب الإعلامية المحنطة، ويطمح لربط كل خيوط الفوضى العراقية في نموذج مفهوم. كان التهاوي الفاضح لموجة احتجاجات تشرين دافعا لظهوره، لأنه كشف عن فقر فكري مدقع لدى الأنصار والخصوم معا.)

—الجزء الثالث “الأخطاء الاستراتيجية لا تصححها المهارات التكتيكية”

مرحبا يا رفاق! هل هناك من يفتقدني؟ أعلمني احد المراهقين ان له علاقة بفتاة وشرح لي طبيعتها وسألني عن رأيي في العلاقة؛ بما انها وصلت الى مفترق طرق مبكراً. فأخبرته ان لا مستقبل لهما معاً وشرحت له لماذا اعتقد ذلك.

بدأ الرجل مقتنعاً للغاية بكلامي، رغم ذلك إختار الاستمرار معها. وتعرض لانتكاسة نفسية مدمرة فيما بعد [هذا ما يحصل غالباً اذا لم تستمع لكلامي…مزاح].

كانت أسبابي ضد أستمرار علاقتهما بسيطة: البنت لم تكن موفقة اخلاقياً -كما استنتجت شخصياً مما قيل لي- والشاب -نظراً لأني اعرفه- لم يكن من النوع اللعوب وقد كان صادقاً في مشاعره. قلت له ان ارتباطه بها خطأ استراتيجي ومهما قدم وفعل لن يستطيع تصحيح الأمور او السيطرة على مسار العلاقة والأفضل ان يتركها. ولكن…غواية النساء!

في النهاية ليس من الغريب ان يتجاهل مراهق الحقيقة [ اي: الادلة والاحداث ] مدفوعاً بالتوق الى الجنس والمتعة. الجميع أصبح يفعل ذلك ولكن لأسباب مختلفة قليلاً.

في رأيي المتواضع ان اختيار الديمقراطية لبناء الدولة هو “خطأ استراتيجي” مثله مثل الفتاة التي أختارها المراهق. ومشكلة هذا النوع من الأخطاء انه يحطمك تماماً اذا قررت تجاهله والمضيء قدماً بحزمة من الترقيعات التكتيكية. لكن لماذا أعتقد أن الديمقراطية لا يمكن ان تبني دولة؟

(النظرية الهرمية للنظام السياسي)

تأمل معي هذه المعرفة المفصلية في الفهم السياسي : قلت في الجزء الأول من المقال ان [النظام (من نظم ينظم نظما ونظاما) هو: الترتيب والاتساق. لنعرفه ب “طريقة لعمل عدة اشياء او أجزاء في وحدة واحدة.” تعريف بسيط لكن يفي بالغرض الان. من هذا التعريف يتبين ان وظيفة النظام هي ١) تقليل الإنتروبيا (العشوائية) الناتجة عن التقاء الناس وتضارب مصالحهم الخاصة في التجمعات السكانية ليصبح التعاون ممكناً ومن ثم ٢) رفع الإنتاجية البشرية لأقصى حد ممكن، فالدولة في الاساس نشأت كنتيجة مباشرة لتراكم الفائض من الانتاج الزراعي الذي اضطر المستوطنات الزراعية قديماً في وادي الرافدين لتكوين مراكز ادارية]. طبقاً لهذا التعريف وليكون النظام ممكناً “فالشرط الأول” هو السلم بين الناس.

لكن لماذا السلم اولاً؟ النظام السياسي يتطلب استقراراً في الهيكل السياسي وهذا الاستقرار ينعكس في كفاءة وقدرة النظام على فرض نفسه. فمن دون السلم الداخلي الاستقرار السياسي مستحيل ببساطة.

هل نحن في حالة حرب اساسًا؟

سقوط النظام ٢٠٠٣ وخسارته المذلة امام التحالف الدولي تركت المجتمع بلا سلطة وعندما يكون المجتمع بلا سلطة يبدأ افراد المجتمع ممن لهم تأثير بطرح الأسئلة. أسئلة خطيرة من قبيل: لماذا لا اكون انا من يحكم ويحوز السلطة؟ في النهاية صدام وقبيلته أشخاص عاديين جداً.

ولو جئت للصدق هذا السؤال مشروع للغاية، فلا تمايز واضح بين الناس، لكن المشكلة تكمن في ان السؤال يخرج من أماكن عديدة في الوقت نفسه وعندما يطرحه العديد من الأشخاص تخرج الأمور عن السيطرة. فكما يستاء الأستاذ وتتصاعد الضوضاء من تكلم خمسة طلاب في الحصة ذاتها وفي الوقت نفسه، تتغلب الفوضى على النظام ويتكتل الأفراد حسب إنتمائهم القبلي او الطائفي او المناطقي في حرب “الكل ضد الكل” ربما تفكر -عزيزي المتابع- في ان هذا الامر هو سبب مباشر في الحرب الطائفية…يا رجل انت عبقري!

لإقامة السلم تقترح الديمقراطية حل بسيط يمكن صياغته بالطريقة الآتية: الصراع على السلطة هو المشكلة. لايقاف الصراع -انعدام السلم- يجب ان يتشارك الجميع بالسلطة.

حل بسيط ويعجب الكثيرين منكم. ولكن اليك المشكلة في هذا النوع التفكير: انتم لستم معنيين بالأمر مثل الذين في السلطة. لم تفهمني؟ سأشرح لك: فيما مضى عرفت عائلة تتكون من ثلاث أخوة وأختين ترك لهم والدهم المتوفي بيت على قطعة ارض لا تتجاوز مساحتها الثلاثمائة متر. وفاة والدهم الذي كان يسكن في هذه الارض مع احد الأخوة جعلت الآخرين يطالبون بالإرث. لكن وجهات النظر كانت متباعدة للغاية فيما بينهم: فاحدهم تحمل الجزء الأكبر في بناء البيت على قطعة الارض ولهذا يريد حصة مضاعفة. والثاني كان يرعى والده طيلة فترة عجزه وتسكن معه اخته غير المتزوجة ولهذا كان يريد اخذ ١٠٠ متر يسكن فيها مع زوجته واخته. اما الثالث فكان في موقع نفوذ ويقترح حرمان الأختين من الإرث خاصة ان إحداهما خرجت من البلد وتزوجت بالضد من إرادة اخوتها وابوها ودون علمهم. فجئة ظهرت هذه الاخت من العدم وطالبت بحصتها ايضاً.

فشل رجل الدين (الشرع) ورجل القانون ووالدي ايضاً في حل مشكلتهم، لان كل واحد من الأخوة كان يرى ان الحق معه وان الاحتكام للمنطق الديني او القانوني او العرفي الوسيط هو تقويض لحقه وانتصار للآخر. تنتهي القصة بشكل مأساوي للغاية وبفاجعة دموية بعد تهور احد الأخوة واحتكامه لمنطق القوة والسلاح.

كانت حلول والدي -بعد ان طلبوا منه التدخل- منطقية لكن المشكلة تكمن في ان كل فرد من هؤلاء الأخوة الثلاثة حمل فكرته الخاصة عن العدالة لا فكرة القانون ولا مقترحات ابي. ذات المشكلة تكمن في الاقتراح الذي تقدمه الديمقراطية عن مشاركة السلطة مع الآخرين: فبما ان القوانين يمكن صناعتها من طرف من يتشاركون في السلطة -ولهذا فهي ليست في موضع الاحترام والتقدير من كافة الأطراف- وكل فرد ذو تأثير في السلطة يحمل عدالته الخاصة ويرى نفسه احق من الآخرين بها، يزداد التوتر ويفشل النموذج الديمقراطي لنعود الى المربع الاول: حرب الكل ضد الكل.

ولهذا فالتنافس الاقتصادي جيد للغاية والتنافس السياسي سيء للغاية وينتهي بالحروب الاهلية الطاحنة. فبدل التركيز على التنمية الاقتصادية وتحسين حياة رعاياهم يتحرك الساسة الديمقراطيون في اتجاه اقتصادي واحد: التحضير للحرب مع الخصوم عبر زيادة الإنفاق العام واستهلاك الميزانية العامة وتحشيد الأتباع وسرقة ما يمكن سرقته والسيطرة على ما يمكن السيطرة عليه وهكذا دواليك.

تنهار الأطروحة وتفشل الفرضية في إثبات نفسها عند اول إختبار، فالمناخ الديمقراطي يحتفظ بحالة مزمنة من القلق الذي يصيب الجميع وصولاً الى مرحلة فقدان السيطرة والصدام والذي تلخصه عبارة: (قلق دائم حتى ظهور القائم). ونتيجة لذلك يصبح الانتماء لا على أساس ايديولوجي فكري بل مصلحي ولهذا نشهد صعود “المجتمع الكتلي” الذي يتحشد فيه الناس بناء على مصالحهم الخاصة. [ربما تفكر عزيزي القارئ في ان هذا هو سبب عدم وجود برامج انتخابية اساسًا بل وعود يقدمها المرشح لتحسين الحالة المادية لمن أنتخبه شخصياً…قلت لك من البداية: انت ذكي جداً]

ننتقل الى الشرط الثاني لإقامة النظام السياسي، الأمان: لا يعني الأمان الغياب المطلق للجريمة الاعتيادية فهذا الامر غير قابل للتحقيق لانه لا يمكن استباق الجريمة عالمياً. الأمان يعني ببساطة الغياب التام للجريمة المنظمة فضلاً عن الغياب المطلق “للمقاومة المنهجية” ضد سلطة الدولة من الارهاب الى المليشيات الى العصيان المدني.

ولكن كيف يمكن جعل الأمان هو الحالة السائدة في البلد؟ الإجابة بسيطة ولكنها عنيفة: سحق المقاومة المنهجية لسلطة الدولة. ولتفعل الدولة ذلك تحتاج الى قوة مسلحة ذات كفاءة قادرة على فعل ذلك. ولكن نظرًا لان السلطة متاحة للجميع والقوانين يمكن انتاجها من عدة اطراف في السلطة، والسلم لم يتحقق في المناخ الديمقراطي المشحون بالتوتر، يحمي كل طرف في السلطة جماعته المسلحة (المليشيا) ويحاول إيجاد تبرير قانوني لوجودها تحسباً لحربه القادمة مع الخصوم. نتيجة لذلك تصبح الدولة عاجزة عن فرض الأمان وإيقاف الجريمة المنظمة والمقاومة المنهجية لوجودها. فبدل ان تسحق الدولة معارضيها تتعرض هي للسحق بصورة مخزية ولهذا ولان الدولة ضغيفة وغير قادرة يلجأ الناس للانتماء الى الجماعات المسلحة ويتصاعد العنف والفساد ويعود “المجتمع الكتلي” ليفرض نفسه من جديد.

ينهار النموذج الديمقراطي مرة ثانية وتنحصر خيارات الناس السياسية عند الانتخاب في المصلحة الخاصة والانتماء العقائدي ولهذا لا تصحح الانتخابات المسار الذي أتخذه النظام بل تحفز تراكم الأخطاء القاتلة في جسد مؤسسات الدولة.

ننتقل الأن إلى الخطوة الثالثة في النظام السياسي: القانون. بمجرد ان تسحق الدولة كل مقاومة مضادة لإرادتها تبدأ في جعل أفعالها متسقة وقابلة للتنبؤ. فالنظام هو الترتيب ومن ثم “الاتساق” والمسؤول عن هذا الامر هي المؤسسات القانونية بطبيعة الحال. فإذا كانت القوانين واضحة ومعيارية وتنطبق على الجميع، يتفادى الناس خرقها فيتعزز السلم والأمان وبالتالي تزداد صلابة النظام. ولكن نظرًا لان الدولة فشلت في تحقيق السلم والأمان يفشل القانون في تحقيق سيادته على الجميع وعندما يحدث ذلك تنهار سلطة الدولة فالقانون الذي لا يطبق على الجميع لا يمكن تسميته قانون. عطفاً على ذلك تنهار الفرضية مرة أخرى، وتصبح الفوضى والعشوائية وكل أنواع التجاوزات المجتمعية مقبولة وشرعية الى حد ما.

الخطوة (الرابعة) التي تأتي بعد فرض القانون هي منح الحريات للرعايا. وبهذا يتحول النظام القسري الى تلقائي دون خوف او خشية من ان تصبح الحرية اضطراب. لكن المشكلة تكمن في السلم منعدم والأمان غائب والقانون ضبابي ولهذا تحولت الحرية الى اضطراب شديد يقوض من سلطة الدولة باستمرار.

تقترح الديمقراطية ترتيب بديل لأوليات النظام السياسي يمكن صياغته بالشكل التالي: حرية > قانون > أمان > سلم.

مشكلة هذا الترتيب أنه يقلب الهرم رأساً على عقب فالحرية السياسية تنتج فوضى قانونية وصراع سياسي والصراع السياسي يدمر الأمان وبانعدام الأمان ينهار السلم الاجتماعي. ولهذا السبب لم نشهد تجربة سياسية واحدة ناجحة في بناء دولة منهارة حتى الان.

يجادل بعضكم بأن الديمقراطية تعمل في انجح دول العالم -وهو ادعاء غير صحيح فالاحصائيات تظهر ارتفاع البطالة وانخفاض الاجور وارتفع الدين العام الى مستويات فلكية مع تزايد مطرد في معدل الجرائم والتفكك الاسري والانحلال الثقافي وتفاقم معدلات الطلاق والاطفال غير الشرعيين والاجهاض- ولكن حتى لو كنت محقاً فدول العالم الأول لم تتحول الى ديمقراطية الا بعد تحقيق النظام لثلاث اولويات سياسية على الأقل: السلم > الأمن > القانون.

ولتصبح الحجة اكثر وضوحاً تخيل الامر على النحو الآتي: الديمقراطية فيزياء نيوتونية (نسبة الى نيوتن) يمكن ان تفسر حركة الأجسام الكبيرة ولكنها بلا ريب عاجزة عن تقديم تفسير مقبول لحركة الأجسام الذرية وما دون الذرية….حان وقت تقديم البديل السياسي يا أولاد! هل سمعتم بالفيزياء الكموميّة؟

يتبع..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s