(هذه سلسلة من المقالات في الشأن العراقي تعود للكاتب مردوخ. أنقلها هنا بطلب منه وخوفا على المحتوى من الضياع. من هو مردوخ ؟محلل سياسي بدون تحفظات، يرفض كل القوالب الإعلامية المحنطة، ويطمح لربط كل خيوط الفوضى العراقية في نموذج مفهوم. كان التهاوي الفاضح لموجة احتجاجات تشرين دافعا لظهوره، لأنه كشف عن فقر فكري مدقع لدى الأنصار والخصوم معا.)
—الجزء الثاني (مكونات النظام)
في كثير من النزاعات الأسرية والاجتماعية نجد بعض العناصر التي تنشر للعامة أو تقدم للقضاء، لكنها لا تتناسب مع حجم التوتر أو التمادي الذي وصلت إليه القضية. وفي المقابل، هناك عناصر أخرى أبرز وأهم ولكن لا يشار إليها إلا همسا ومن طرف خفي، ويصدق عليها وصف ( الفيل في الغرفة elephant in the room ). وبالنظر إلى الزوبعة السياسية التي أثارتها احتجاجات تشرين (التي نقترب يوما بعد يوم من ذكراها الأولى)، يلاحظ أن هناك صنما ضخما لا يتطرق إليه أحد بالنقد أو يرفع ضده شعارات التنديد. لا أعني (السيد) طبعا، فقد تكفل سنان العزاوي وقبعاته الزرق بإسكات المعترضين.. بل النظام نفسه، الديمقراطية يا صاح.
ربما يخطر ببالك — عزيزي القارئ الماكر — رأي خبيث: البعض لا يريدون تحطيم الديمقراطية لأنهم يرغبون ارتقاء سلالمها، كما فعل الكثير من الانتهازيين من قبلهم! وإن فعلت فأقول لك: برافو، بدأت دروس هذه الصفحة تؤتي أكلها في عقلك. لكني أتحدث عن القطاع الأكبر من المتحمسين وغير المستفيدين — هل هم جميعا مسلوبو العقول؟
المشكلة الرئيسة التي يمكن الإشارة إليها في موقف كهذا، هو أن الديمقراطية (كإحدى أدوات النظام الليبرالي الغربي) قد غرقت تحت أوحال الأخطاء، ولم يعد المدافعون عنها يملكون تفسيرا غير “الخطأ في التطبيق وليس في النظرية” الذي شبعنا من سماعه من كل أنصار الأنظمة “الكلك” التي طبقت براسنا. ولهذا فإنك تجد أشجع وأجرأ “الناطقين” باسم الاحتجاجات يتصاغر أمام الكاميرات، مكتفيا بالتماس “قانون انتخابات جديد” أو “تشكيل مناطق جديدة للاقتراع”، دون أن تحدوه “الغيرة العراقية” على المناداة بإسقاط النظام “شلع قلع” كما قيل ذات يوم.
أضف إلى ذلك أن العامل المذهبي (الذي لم تتنصل منه أذهان معظم الناشطين) لا يزال يؤثر سلبيا في صياغة الموقف السائد من الديمقراطية. حيث يخشى الشيعي الشاب من إفلات السلطة من بني جلدته في حال تهاوي الديمقراطية العددية وصعود رجال أفضل وأوفر كفاءة من صفوف “الآخرين” (المعروفين أيضا بلقب “إخواننا بل أنفسنا”)، لأنه يعرف بعمق أن حساب الدولة المدنية مع الفوضوية الشيعية سيكون طويلا عسيرا.
ولكن لنفترض لوهلة حياد كل النوايا، وغياب كل المخاوف، ولنقل أن السبب الوحيد للتشبث بالديمقراطية هو “الثقة في الآليات” : بدءا بفرضية صدق اختيارات الشعب في التعبير عن آرائه، وتناسب الأحزاب المسيطرة مع قطاعات تقابلها في المجتمع، ومصداقية مفوضية الانتخابات، وإذعان الطبقة السياسية للنتائج كيفما كانت.
في هذه التجربة الفكرية، يجدر بنا أن نتأكد من تطابق هذه الفرضيات مع الوقائع، التي تراكم لدينا منها (على مدى عدة دورات) ما يكفي لأن يملأ “تاريخا” للعملية الانتخابية في العراق وانتهاكاتها.
تخطر ببالي هنا نادرة سمعتها من أحد الأصدقاء النابهين عن فترة دوامه في إحدى دوائر الدولة. كان مسؤوله المباشر يحدوه الفضول لمعرفة توجهات هذا الموظف الجديد وإن كان “معنا” أو “علينا”، فسأله ذات مجلس: إلى أي حزب تنتمي، أو لأي تيار تميل؟
فرد الصديق: إن كنا سنتحدث عن السياسة فأنا أعرف أن الأحزاب تجمعات تحمل توجهات أو ترعى قطاعات بعينها من المجتمع، لكن لا أرى شيئا من ذلك في العراق. فنحن لا نعرّف الأحزاب هنا إلا بقياداتها، أما التوجهات فهي غامضة إن أحسننا الظن وارتجالية إن حكمنا على الواقع. ولهذا لا أجد دافعا نحو الانتماء أو التحيز، دون أن أعني بذلك عداوة لهذه الفئة أو تلك.
هذا الموقف المختصر يحمل في طياته تشخيصا لكل مشكلات الديمقراطية في العراق: فالشعب يصوت دون غاية اقتصادية أو سياسية واضحة، فضلا عن وعود صالحة للتنفيذ؛ والأحزاب لا تشعر بأنها مدينة أبدا لجمهورها الذي تتلاعب بأحواله وتضطهده، وهو يضحي في سبيلها ويدعو لبقاء دولتها (لمجرد تشاركها وإياه في المذهب)؛ والآليات الوسيطة بين الشعب وممثليه (أو منكليه إن شئت الصدق) مصممة ومكيفة كي تضمن بقاء أثقالهم على الصدور، بنحو يذكّرنا بمشهد أمية بن خلف مع بلال الحبشي!
الشعب العراقي – لو جئت للصدق – يحيا أمية فكرية وعاطفية مذهلة، وكأنه مراهق قد احتبس عن التحولات النفسية والعقلية منذ سن السادسة عشر. إن لم تصدقني فارجع إلى اليوتيوب وابحث عن جهاز كشف المتفجرات المزيف والأسماء الكبيرة التي وقفت وراء فرضه في نقاط التفتيش، وكم حكومة استغرق الأمر قبل أن يسحب من التعامل الأمني.
أي شعب يملك حدا أدنى من النضج ومقدرة بسيطة على صنع القرار، كان سيحتشد ويؤجج ويهيج حتى يسقط الحكومة التي عبرت “كلاو” كهذا على رؤوس الملايين، غير مبالية بالآلاف من القتلى والجرحى الذين أسفر عنهم الاعتماد على هذه الكذبة الرخيصة.
مشهد آخر يؤكد نفس النقطة، لا بأس بالتنبيه عليه مجددا: محتجو ساحة التحرير، الخارجون في “ثورة تشرين” ضد حكومة “الأيادي المتوضئة” و “تيجان الرؤوس”، يمدون أيادي الضراعة والالتماس بكل بؤس وضعف – إلى من برأيك؟ إلى حاضن “بيضة الإسلام”، أدام الله ظله على هامات الأنام، الذي تجاوز عمره التسعين عام!
في بيئة كهذه تفتقر للإحساس بالخطر السياسي وتقديم المصلحة العامة على اللازم الإيديولوجي، وتتمازج فيها الفوارق (كتداخل الألوان في كوب آيس كريم ذائب) بين الولي والعدو، لن يظل هناك ما يذهلنا في انخراط مئات الآلاف في صفوف فصائل طائفية صريحة – دفاعا عن نظام بشار الأسد، الذي كان نوري المالكي يندد بتمويله وإرساله للإرهاب في العراق ذات يوم!
أعرف ما سيخطر ببالك الآن: “كفى جلدا للشعب، ألا تود نتف صوفة الأحزاب قليلا؟” لا بأس، سأجاري نقمتك، لعلمي بأنها مشروعة تماما وعمقها التاريخي أقوى مما تظن.
تشكيلة الأحزاب المسيطرة حاليا، رغم أن أسماءها قد اختلفت كثيرا عن “باقة المخضر” التي كرفها أحمد الجلبي ذات يوم وشكل منها “لجنة المتابعة والتنسيق” (أيباه، كم تبدو اليوم بعيدة تلك العناوين)، تملك أسوأ مبررات ممكنة للتصدي للقرار السياسي عرفها الشرق الأوسط خلال القرن العشرين.
لنبدأ من أقدمها وأبرزها: حزب الدعوة. هذا “الحزب الفاطمي” (اسمه الأصلي في النجف، الذي استبدل لاحقا بداعي التقريب المذهبي مع الإخوان المسلمين) نشأ كردة فعل على محاولات “حزب التحرير” الأردني استمالة بعض العمائم الشيعة في الكرادة الشرقية ببغداد، وأعني بهم تحديدا عارف البصري وقريبه عبد الجبار البصري، على يد محمد هادي السبيتي (رجل الظل الذي لا يعرفه أكثركم). حين علم مرتضى العسكري بذلك هرع إلى النجف يشكو إلى “جماعة العلماء” الناشئة كيف يستغل أهل السنة فراغ الشيعة سياسيا (نظرا لأن الخميني لم يخترع “ولاية الفقيه” بعد)، ويحاولون تجريدهم من مذهبهم بحجة التعاون لمقاومة الشيوعية.
هل لمحت في هذه الأحداث التأسيسية التفاتا لحاجة الشعب، أو دعوة لتحفيز الاقتصاد، أو إطلاقا لحرية الرأي والإبداع؟ كلا، الأمر برمته “صراع على المنابر” وتنافس على الحق في التصدي للشيوعية باسم الإسلام.
نأتي من ثم إلى “تيار الحكمة” العريض والواسع، المعروف بالوجوه النضرة (الما لايحتها شمس) والأصوات الناعمة (التي لا تصلح للتحريض) التي تتصدره. وحدهم أصحاب الذاكرة الحديدية يتذكرون أنه فرع من أصل أقدم هو “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق”. وقصة تأسيس هذا الآخر لا تقل انفصالا عن التعريف التقليدي للحزب مقارنة بالقصة السابقة.
فقد توسط الداعية المعروف حسن شبر بين محمد باقر الحكيم (المقيم في سوريا عام 1982) والخميني، محاولا استمالة الأخير للقبول بوضع الأول على رأس تشكيل “جهادي” موحد يجمع شتات الفصائل المتفرقة. وقد وافق الخميني – متغاضيا عن خصومته القديمة مع آل الحكيم الموالين للشاه – ليأمر من ثم بانضواء حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي وغيرها من الحركات تحت هذا اللواء الجديد. حتى إن “قوات الشهيد الصدر” التي شكلها الإسلاميون الفارون مع بعض “التوابين” اتخذت عنوانا بديلا نعرفه اليوم بلا شك: منظمة بدر!
بالإضافة إلى بلائهم الحسن (على الجانب الإيراني طبعا) في الحرب الطويلة بين البلدين، فإنهم لطالما شنوا هجمات على مقرات للجيش والشرطة في العراق خلال عقد التسعينات، كانت تستخدم الصواريخ أحيانا ولا تبالي بهوية القتلى (هل يذكركم هذا بشيء؟). وحين كانت أوكارهم داخل العراق تكتشف وتفتش، كان هناك كتاب واحد لا تخلو منه: “دليل المجاهد” لكاظم الحائري، الذي برع في فتاوى الاستحلال والانتقام كما برع زميله محمد الصدر في “فقه الفضاء”.
بالنسبة “للطائفة الصدرية” -ولا اقول الحزب او التيار- فحدث ولا حرج. فهي عبارة عن مدرسة للقتلة والمختلين والمتخلفين عقلياً كما اثبت سابقاً (راجع مقالة: الطائفة الصدرية). بالتالي لا علاقة لها بالسياسة ولا بالاقتصاد ولا حتى بالبشر منتصب القامة.
اما الأحزاب الكردية فهي اساساً أحزاب معادية لوجود العراق كوطن للعراقين، ولطالما استعملوا ورقة الاستقلال عن العراق لابتزاز بغداد سياسياً واقتصادياً. [في الواقع استقلال كردستان أمر مستحيل من الناحية “الجيوسياسية” فالحصول على دولة اراضيها جبلية بدون منفذ بحري ويحيط بها أربع بلدان معادية هو أمر يشبه خنق رقبتك بحبل متين في غرفة منقوصة الاوكسجين. هذا ان تجاوزنا جزئية ان المحافظات الكردية محاطة بدول ذات شأن اقليمي (تركيا-وايران) لن تسمح بحدوث ذلك حتى لو عنى ذلك ادخال جيوش والقيام ببعض المذابح.] ناهيك عن تاريخهم الطويل في العمالة لدول الجوار، فتعاونهم مع دولة معادية للعراق في زمن الشاه ومن ثم الخميني لزعزعة الاستقرار الامر الذي اضطرنا لتوقيع اتفاقية الجزائر فيما يخص حدودنا البحرية مع ايران ومن ثم الانقلاب ومن ثم…احزر ماذا؟ الحرب الايرانية- العراقية.
اما الاحزاب السنية فهي عبارة عن لفيف من الكاولية، القتلة، البعثية السابقون ممن كونوا ثروتهم في عراق ما بعد ٢٠٠٣ ليستغلوها في إدامة التحريض الطائفي. لكن ديمقراطية المحاصصة اضطرت لاستيعابهم تحت حماية امريكية اولاً، من باب حماية الاخر وقبوله سياسياً ومن ثم استوعبتهم الاحزاب الشيعية مجدداً بأوامر ايرانية مباشرة بعد نكسة ٢٠١٤ للمشاركة في عملية “الفرهود السياسي” الذي يتعرض له البلد. فعقدت المصالحة السياسية سريعاً ورجع الهاربون منهم الى بغداد (بعد ان اعلنهم القضاء العراقي مجرمون سابقاً) لتتوقف بعد ذلك سلسلة الاحد الدامي والخميس الدامي في بغداد…مصادفة أليس كذلك؟
عزيزي القارئ، من هذه التركيبة العجيبة والخليط غير المتجانس من الأحزاب التي يجمعها الفرهود السياسي وتقاسم السلطة، يتضح لنا ان العملية السياسية جريمة منظمة والمشاركون فيها مدانون. ولكنك تجادل قائلاً: “اذاً الحل يكمن في استحداث حزب وطني جديد يربح في الانتخابات” [بافتراض انك تعرضت لحادث سير بعد ان صدمت بسيارة يقودها مثقفو الجنس الثالث وكان موضع الضربة في رأسك لدرجة جعلتك تنسى ان التزوير سائد بينهم، وان المفوضية بيدهم، وان الشارع مستقطب لهم. بالتالي فرصة فوزك في الانتخابات تكافىء فرصة إيجاد غابة من الاشجار على سطح القمر].
ولكنك مخطئ مرة أخرى، كيف؟
اولاً لنعرف الحزب، الحزب السياسي: هو مجموعة اشخاص متحالفين مع بعضهم لغرض الاستيلاء على السلطة، تجمعهم افكار ومفاهيم يتعاملون من خلالها مع الواقع.
عندما يسيطر حزب سياسي بشكل كامل على البلد — كما فعلها حزب البعث في ظل نظام ديكتاتوري— فان كمية هائلة من العائدات المالية تتحول لخدمة هيكلية هذا الحزب واتباعه، ولهذا السبب ينضم عدد كبير من الناس للحزب؛ طمعاً في المال والسلطة او تجنباً لتسلط آخرين عليهم في حال فضلوا البقاء كمواطنين عاديين معرضين للقمع في اي لحظة ولأتفه الأسباب.
في حين عندما يسيطر حزب سياسي مع احزاب أخرى على البلد — يفعلها حزب الدعوة الان — فإن تدفق العائدات المالية يقسم بينهم وفق معطيات تتعلق بالثقل السياسي والشعبي. بالتالي فأن هذه العائدات المالية المهمة في استقطاب الناس وحتى تأسيس مليشيات مسلحة للابتزاز السياسي سيحرم منها الحزب الجديد وهو أمر يعني الفشل بلا ريب.
إذا لم تكن لدى الحزب امكانية مالية ولا قدرة على تسليح أتباعه، فقط لأنه يجد المتابعين العزل أكثر فائدة من المسلحين. اذن فقد اختار استراتيجيات أقل فاعلية بدافع اخلاقي، ومن البديهي ان يتفوق عليه حزب أقل اهتماماً بالمبادئ. وعليه فأن حديثك عن تكوين حزب سياسي معادي — ومعظم الناشطين ينامون خارج بيوتهم بعد إحداث تشرين خوفاً من “الصك”— هو امر يشبه وضعك أسماك الكارب الصغيرة في حوض مملوء بأسماك القرش وانتظار أنتصار الكارب على القرش!
يتبع..