هل الإعلام سلطة رابعة فعلًا؟

هل الإعلام سلطة رابعة فعلًا؟ ماذا لو قلت لك أنه السلطة الأولى في أهم مراكز القوى العالمية؟ دعك من التقسيمات الرسمية بين السلطات [قضائية، تشريعية، تنفيذية]، فهذه تحف أكاديمية وشكلية جدًا في الواقع. وجودها لا يطابق ولا يمثّل توزيع السلطة الواقعية والتي تغيّر وتسيطر على الرأي العام.
لو افترضنا معًا صحة هذه الفرضية، فيمكننا أن نطرح السؤال التالي: كيف يمكن أن ينقلب توزيع السلطة بهذه الصورة الجذرية؟ [النزاع المستمر بين البوق الإعلامي في دول أوربا، الممول من بروكسل EU، وبين القضاء البولوني أو المجري، مثال سريع وبسيط على ما أذكر].

الجواب باختزال بسيط: الديمقراطية. الجواب المفصّل سيكون كالتالي: ذاكرة الإعلام قصيرة الأمد، وهذه تتناسب طرديًا مع عمق المعرفة التي يتاجر بها في وسائل الميديا بشكل عام. ولن نبالغ إن وصفنا الإعلام بالسلطة الجاهلة، لا الرابعة. ولأن ذاكرتنا في استقبال المعلومات محدودة أيضًا، يكفي لأي جهة متمكّنة أن تشغل حواسنا السمعية والبصرية بتصوّرات وهمية عن الواقع.


وعندما أتكلّم عن الميديا، فأنا لا أقصد الإعلام فقط: حاول أن تبدأ، إن لم تباشر بعد، بفهم دورة حياة ”الحقيقة الديمقراطية“ داخل سلسلة الدولة ـ الأكاديميا ـ والإعلام.
عن هذه العلاقة يكتب ماثيو باتاليولي في ”عواقب المسواة“:

”الدولة، وخاصة الدولة الديمقراطية، بحاجة دائمة لمزيد ومزيد من الدعاية، وهكذا تصبح الدولة مستعدة جدا لتوظيف أعداد هائلة من الأكاديميين للتغلغل في المؤسسات التعليمية للأمة وتوفير تلك الدعاية. وليس هذا فحسب، فما أن يصبح الأكاديمي موظفا لدى الدولة، وبالتالي معتمدا عليها في دخله ومعيشته، سيصبح أشد عرضة لأن يكون منافحا صلبا عن الدولة. ولكن هؤلاء الناس هم بالفعل أميل بشدة لأن يكونوا يساريين سياسيا في العموم. وذلك لأن الأقل تشككا في الأسواق سيجنون رزقهم بالمساهمة فيها: عبر إدارة الأعمال، الاستثمار، و »التوفير« لآخرين. أما الآخرون، وهم الأشد تشككا في الأسواق، فتبدو لهم الأكاديميا خيارا أشد جاذبية للعمل. وذلك تهديدا ثلاثي الرؤوس، حيث تبحث المؤسسات الحكومية عن ناشري الدعاية الأعظم والأفضل للدولة من بين ثلة من الدعائيين الأشد راديكالية أصلا، ومن ثم تعمل على دفعهم لمزيد من الراديكالية عبر توفير كل ما يحتاجون إليه.“

حتى الآن، تبدو العلاقة وكأنها تسير في اتجاه واحد. لكن ما يحدث بعد ذلك ـ ومن هنا يستمد الإعلام وهم حيازة ”المعرفة العلمية“ ـ هو أنه يجسّد دور الرأي العام في نفس الوقت عن طريق أسلوبه المعروف في مخاطبة السياسيين وممارسة الضغوط الإعلامية عليهم وفق الانتماء الحزبي أو جهة التمويل طبعًا. وهذا سلاح انتخابي وثغرة فساد في النظام بحجم ثغرة الأوزون، إن صح التعبير، حبيبي..
فما يسوّق إلى الناخب الديمقراطي بشكل عام هو منتوج واضح نقي وذو خلفية أخلاقية محسومة مسبقًا: فالعلم يصرّح ويركّد كلام الإعلام بدون شك ـ وبشكل مفلتر من آراء العلماء المعارضين وذوي الآراء المعارضة طبعًا، والدولة تطبّق شريعة السماء في دين الإنسانية. يو نيد بگ بولز and بيگ لاك كي تعترض دون أن تصبح مسرحية إعلامية.

وهذا المنتوج يتغير كل يوم ويكفي لأن يشغل حواسك وذاكرتك بصورة مرسومة مسبقًا عن الواقع السياسي دون عناء البحث والتقصّي عن المعلومات بنفسك. وكي لا تنسى، أحب أن أذكرك بكسل البشر عندما يتعلّق الأمر بالتفكير..

ومشكلة هذه الثغرة أنها كبيرة بشكل لا يجعلها تحدد مصير الانتخابات فحسب، بل تحدد ملامح الرؤية الأخلاقية عن النخبة الحاكمة أيضًا، ولا يوجد سياسي ينوي اعتلاء عرش السلطة في بلاده دون تقبيل خاتم الإعلام: أقصد دعم حرية الصحافة والإعلام طبعًا، لا يروح بالك بعيد.

تأثير هذه المنتوجات السريعة والمختزلة جبّار ويمكن أن يدوم لعقود طويلة، لا بل لقرون من الزمن.

البارحة وأنا أتصفّح كتاب The German Way of War مر علي مثال عن العلاقة المتوترة بين الإعلام وبين الحزب النازي في المانيا في بداية الأربعينيات. علاقة متوترة؟ نعم، مع الإعلام الخارجي طبعًا، وفي بعض الأحيان مع ”شطحات“ في إعلام الداخل.
لو أردت اختزال الحرب العالمية الثانية من ناحية حربية، فمصطلح Blitzkrieg يفي بهذا الغرض. وهي معلومة شائعة حتى يومنا هذا. لكن من ناحية تاريخية، فإن هذا المصطلح منتوج إعلامي رفضه قادة الڤيرماخت Wehrmacht بشدّة ولأسباب عسكرية واضحة: فعلى عكس ما روج إليه الإعلام، لم تكن هذه الاستراتيجية جديدة إطلاقًا، وإنما جسّدت الاعتماد على طريقة الحرب الألمانية التقليدية منذ عصر الإمبراطورية الألمانية ووفق تقاليد بروسيا العسكرية. فالمجازفة بالبحث عن ثغرة بين أجنحة العدو ومحاولة حسم الحرب في معركة واحدة، هي استراتيجية بروسية قديمة طبّقها الألمان في حروبهم مع نابوليون وفي الحرب العالمية الأولى أيضًا. هي فقط نجحت بشكل حاسم وباهر في الحرب العالمية الثانية بعد أن تمكّن الألمان من توفير جميع الشروط العسكرية [غطاء جوّي + زحف مركّز لقوّات مدرعة أو آلية]. بل أنه لا توجد أدلة على أن العسكريين الألمان قد استخدموا هذا المصطلح في كتبهم وتقاريرهم العسكرية.

لكن الجهل الإعلامي بتفاصيل وتاريخ التقاليد العسكرية، أعطى للمصطلح شهرة أزعجت القادة الألمان أنفسهم، حتى ذكروا مرارًا أن سر النجاح العسكري لم يكن حصيلة الحنكة العسكرية النازية، بل هو نجاح نابع من تقاليد عسكرية قديمة ومن انضباط صارم. [على الأقل يملك النازيون هذا الكم من الاحترام للذات، يمنعهم من استغلال مديح الصحافة العالمية..].

وأنا هنا لا أكتشف طرق التسويق الإعلامي والإشاعات مجددًا. هذه أمور بديهية. أنا فقط أستدعي أمثلة حيّة من ذاكرة التاريخ، كدليل بسيط على عمق الكذبة التاريخي. إضافة إلى ذلك: معرفتك الجديدة بأصل المصطلح لن تغيّر من أي شيء أصلًا . فالإعلام لا يملك رمزية تمثّله، وبالتالي لا يحتاج لاعتذار وتصحيح رسمي ولا حتى هو مطالب بتحمّل أي مسؤولية أخلاقية.
لاحظ أن الإعلام يطالب دائمًا دون أن يوفر هو أي مقابل. ولعل أجرأ وقاحة سياسية معاصرة هي المطالبة بـ ”حرية الإعلام“. وهم لا يصدق به سوى المغفّل السياسي أو السياسي الذي يريد أن يحتال عليك أو يسوّق إليك بضاعته. وأنا أجد أن أي نقاش جدّي حول مستقبل السلطة في أي رقعة جغرافية، يحتاج إلى ضبط الدور الإعلامي من ناحية المنفعة العامة والمسؤولية الأخلاقية وتبعاتها.


اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s