يزداد الأمر تعقيدا حين نركز على الملكات العقلية للشعوب العربية، التي عاشت في سبات مزمن منذ هزيمة المعتزلة وأهل التأويل وحتى القرن العشرين، الذي اضطرها فجأة لتأسيس دول عصرية (ولو شكليا) والتصدي للأزمات الراهنة بكل ما فيها من تشابك.
ولكن أنى للتفكير المجرد والمادي أن يعمل بعد قرون من السبات المفروض دينيا؟ من البديهي جدا أن تتحرك هذه الشعوب بمنطق رد الفعل دون سواه، وتتعامل مع الأجنبي الدخيل لا بوصفه شريكا محتملا بل عدوا لا شك فيه. وقد نشط ذلك الشعور في السياسة العربية لدرجة أدت بالكثير من الشعوب العربية للارتماء في أحضان الاتحاد السوفيتي (الشيوعي الملحد) لأنه كان يعدها بهزيمة ‹الاستعمار› الغربي المسيحي، الذي فتح عيونها لأول مرة على إمكانات لا تحصى للرفاه في الحياة والحضارة، وما يزال الكثير من أبنائها ينفقون الغالي والنفيس للوصول إلى شواطئه أو مطاراته، متجاهلين عواصم الصمود والممانعة مثل كوبا أو فنزويلا.
من بعد استنفاد الحركة الشيوعية لهزيمها وزخمها، وتهاوي نفوذها وانطفاء جذوتها، لم يكن من العجيب أن نرى الكثير من المثقفين ‹الطليعيين› في بلداننا يتقافزون نحو الجهة الأخرى من الخط السياسي ويصبحون أنصارا مستميتين للنيوليبرالية دون أدنى نقاش، لأن غرائزهم الحساسة للمكاسب الاجتماعية والسياسية أدركت أن الأمر يحتاج لتغيير الجلدة لا أكثر، أما الجوهر فسيظل كما هو. يقول ريشارد ليغوتكو، الفيلسوف والبرلماني البولندي، في وصف هذه الظاهرة:
«لقد رحبت النخبة السياسية البولندية المتشكلة حديثا بالشيوعيين في لفتة من الضيافة اللافتة لأسباب تكتيكية جزئيا (لئلا يتركوا جمعا كبيرا من الناس خارج النظام)، ولأسباب إيديولوجية غير يسيرة أيضا: فقد توقعوا أنهم عقب بعض الرتوش الخفيفة ووجودهم في ظروف جديدة، فسيصبح الشيوعيون لاعبين أوفياء ومتحمسين في اللعبة الليبرا-ديمقراطية. وسرعان ما تأكدت من أن هذا الافتراض الإيديولوجي حقيقة. وبالفعل، فعقب بعض الرتوش الخفيفة ووجودهم في ظروف جديدة، فقد تكيف الأعضاء السابقون في الحزب الشيوعي بشكل كامل مع الديمقراطية الليبرالية وآلياتها، ومع تمام التفسير الإيديولوجي الذي رافق هذه الآليات. وسرعان ما انضموا حتى لصفوف حراس العقيدة الجديدة. فنفس الصحف التي أهابت لعقود على صفحاتها الأولى بعمال العالم أن يتحدوا، بدأت بحماس مماثل بالنداء لكل القوى المستنيرة كي تدافع عن الديمقراطية الليبرالية ضد قوى الظلام، بما فيها أعداء الشيوعية.
هذا الدفاع الشرس عن الشيوعيين الذين امتصهم النظام الجديد، والهجمات العنيفة ضد من انطووا على رأي غير متحمس تجاه انضمامهم، قاد العديد للاعتقاد بأن ذلك كان فعلا ضرورة أخلاقية للعصر الجديد. فالشيوعيون الذين استحالوا إلى ديمقراطيين ليبراليين باتوا يعتبرون شركاء أوفياء في مهمة خلق نظام جديد، والحلف معهم بات يسمى عقدا صانعا لعصره، يشابه في تاريخ بولندا تأسيس الجمهورية في تاريخ الولايات المتحدة. ومن هنا جاء الرد الغاضب غير المفهوم ضد ضعفاء الإيمان أمثالي، الذين شككوا في المصداقية الأخلاقية والسياسية لأولئك الشركاء المنضمين حديثا. ولا يزال مستمرا. من الأعراض اللافتة في تاريخ المجتمعات البعد-شيوعية، أن أعظم الهجمات الحاقدة صحفيا وسياسيا وجهت ضد من أضمروا شكوكا حول منح الشيوعيين حصانة أولاً، وامتيازات ثانياً.»
ولم يعد يستغرب أيضا أن نجد بين الشباب العربي من يدافع عن ‹المساواة› و ‹حقوق الأقليات› وغيرها من اللافتات الليبرالية، بنفس الحماسة التي كان يندد بها آباؤهم أو أجدادهم اليساريون ‹بالعدوان الأميركي على كوبا› و ‹الحرب الظالمة في فيتنام›! ولكن بعد ثلاثة عقود على استتباب الساحة للمعسكر الليبرالي، ورؤية المآزق الاقتصادية والاجتماعية التي أفضت إليها سيطرته المطلقة (كأزمات السكان وموجات الهجرة في العالم الغربي، وتصاعد الشقاق بين الجنسين وتهاوي معدل الأجور في العالم العربي)، لا بد من طرح سؤال مهم: هل نحن مقيدون بهذين الخيارين لا غير؟
كالعادة، المميز هو أنك تخرج بسؤال بدل من الإجابات الجاهزة المعلبة.
استمروا. 🌹
إعجابإعجاب