كيف أفسدت ’ما بعد الحداثة‘ مفهوم الحرب

سيف البصري

على مستوى النزاع بين الجموع، فالحرب هي الفيصل؛ وعلى مستوى الأيديولوجيات، تصبح السيطرة على تعريف الحرب وأخلاقياتها بمثابة الانتصار الحقيقي ـ وهنا تحتاج لسلطة رابعة؛ ويفضّل أن تكون عولمية وتؤمن بحقوق الـ … you know the drill.
هيمن على سلطة تعريف العدو وأخلاق الحرب، وستخضع أكثر من ”عدو“ في آن واحد. أي جرّد الحرب من أخلاقياتها الذكورية العنيفة، وستتحول فورًا إلى وسيلة غير مباشرة، تطيل المصيبة، لا تنهيها. وفي عالم ديمقراطي، تصبح الحرب الوسائطية هي طريقة ناجحة لكسب أصوات السذّج. خصوصًا في الشرق الأوسط.

أكتب هذا المقال ونحن في الشهر الخامس من العام الثاني بعد كورونا. وأفترض أن بعضكم قد لبّى نداء التعاضد الاجتماعي وبقي في بيته، في وقت يمرّ فيه الاقتصاد العالمي بركود يقتل حرفيًا. طبعًا هنا لا أقارن وفاة الملايين من الأطفال تحت سن الخامسة بسبب الجوع والفقر وانقطاع المساعدات ببشاعة كورونا وعدد وفياته فوق الـ 3 مليون من كبار السن..

لكن يا ترى، كيف سيبقى المواطن الصالح في بيته وهو معرّض لقصف مستمر بصواريخ أرض ـ أرض، على أرض ملعونة أصلًا؟

”stay the fuck home“ بسبب فشل القبّة الحديدية، أم أن خطر الفايروس أكبر على أعداد البشر هناك؟ تابع الأرقام وقارنها، من باب الإثارة..
وماذا عن الحرب وسط جائحة تصيب الجميع دون استثناء؟ من المذنب وكيف نصف العدو كي نبرر الحرب؟ ما هي اللغة المناسبة لكسب الحرب قبل أن تبدأ؟
فكما تعلم، تحتاج الحروب اليوم لنيل رضا الإعلام العالمي وكسب استحسان الرأي العام قبل كل شيء؛ فسبب الحرب نفسه لم يعد مهمًا أو كافيًا. يكفي أن نفترض المجهول ونجيد تسويقه بالعواطف، كما قال وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفيلد، بضعة أشهر قبل حرب العراق ”There are known knowns … But there are also unknown unknowns“.

وكما تلاحظ، فإن تفاقم الوضع في الشرق الأوسط ـ يا لها من مفاجأة ـ جعلني أتتبعّ ردود الأفعال بدل الأفعال والأحداث نفسها، ولسبب بسيط: إنه الفضول!
الفضول بمراقبة حالة النشاز الإدراكي وردود الأفعال التي ستصدر من عقلية المتعولم وهو يحاول استيعاب الحرب وشرعيتها في ظل هذه الجائحة. ومن هنا تذكّرت أن لتعريف الحرب والأطراف المتنازعة دور مهم في صياغة الفكر في فترات السلام وقبل حدوث أي حرب بين طرفين. الحرب ما قبل الحرب.

كعودي [reactionary]، لا أستطيع المضي قدمًا دون الخروج بتشخيص تاريخي يشرّح تركيبة النظام الأوروبي القائم على حكم القانون الديمقراطي ( ius publicum europaeum democraticum) مبيّنًا آثار التشويه التي وصلت به إلى تركيبته المعاصرة. وتركيزي هنا على ”الأوربي“ نابع من كونه القانون المهيمن والروح العولمية المعاصرة والمؤثّرة على القوانين العالمية، تحت شعار الإنسانوية طبعًا. فحقوق الإنسان والديمقراطية هي قيم تصدّر وتناقش كحقوق مطلقة تنتظر التطبيق فقط وتحظى برعاية أوربية على المستويين، السياسي الدبلوماسي والمالي. وبما أن أوربا قد احتضنت الداء والدواء معًا، يصبح من المعقول والمنطقي أن نتتبّع أبرز الأحداث التاريخية في هذه القارة، صاحبة التأثير الأكبر على الشرق الأوسط.

لكن قبل أن أخوض في تفاصيل هذا التشريح السياسي. دعني أكرر بعض المفاهيم البديهية في اليمين كفلسفة سياسية. في ”الإعادة فائدة“، كما يقول صاحب شركة صناعة لقاحات طبية غير معروف..

قبل اصطياد الماموث

لو حاولنا البحث عن مشتركات في الطبائع والعادات مع أي مجموعة بشرية عاشت قبل 300.000 وحتى قبل 300 عام، سنجد الحرب على رأس القائمة. وربما أقدم بملايين السنين. وأنا أعلم أن مطّ الخط الزمني في رحلتنا هذه نحو ملايين السنين إلى الوراء هو أمر مرهق ومتعب. وإن كان كذلك فعلًا، فربما ستساعدك التحفة الموسيقية لشتراوس An der schönen blauen Donau, Walzer, Op. 314 في الخلفية على هضم بعض هذه السطور، خصوصًا وأننا سنمرّ لاحقًا بالعصور الوسطى.

لكن بما أننا في أجواء ديستوبية كهفية، دعنا نحاول فهم جذور الحرب اجتماعيًا/تطوّريا:
الطبيعة وميكانزم التطوّر يعملان وفق ديناميكية سببية؛ عوامل خلّاقة ومحفّزة مثل الجوع والخوف ستقود حتمًا إلى التغيير والتأقلم. فربما بدأ أسلافنا بالحفر بحثًا عن اليرقات والحشرات، ثم تقدّموا تدريجيًا إلى الاقتيات على الجيفة. ثم طوّروا لاحقًا مذاقًا للحوم وتعلّموا في مرحلة ما استخدام الأسلحة (أحجار، عظام، خشب). ولا أعتقد أنه من الصعب تخيّل أحد أسلافنا المشتركة وهو ينبش الأرض بعظمة ساعد أو ساق شجرة، ثم ينزل عليه الوحي ـ لا آسف، هذا حدث ملايين السنين لاحقًا. وربما قام هذا السلف بالدفاع عن جثث أسقطها مفترس أكبر؟ تدريجيًا، أدرك أن الأشياء التي كانت عديمة الفائدة سابقًا، كالعصي أو العظام، يمكن رميها أو استخدامها بتأثير مميت. ومنذ ذلك الحين ونحن ندافع بأفضل خطّة: الهجوم! ومن في اللحظة ولد الصيّاد في داخلنا..

وهذا انتقال مذهل، برأيي. فعلى الرغم من أن السلاح قد لا يكون الأداة الأولى التي استخدمها أوائل البشر قبل مئات آلاف السنين، إلا أنه يمثل أول نجاح كبير باستخدام الأدوات. فمن هنا تحوّل هذا القرد الصغير إلى كائن  خطر جدًا. وبمجرّد أن بدأ بالصيد، انتقل بسرعة كبيرة إلى لعبة أكبر وأخطر، وبالتالي إلى صيد فرائس تفوقه حجمًا بأضعاف. ولا نستغرب عندما يخبرنا بعض علماء الأنثروبولوجيا أنهم قد لاحظوا آثارا لضربات بأدوات حادة على العديد من الجماجم المكسورة لبقايا أسترالوبيثكوس، مما يشير إلى أنهم قد استخدموا العنف وبحماسة ضد بعضهم البعض.


قد تحلل العقلية النمطية المسالمة هذا السلوك من باب الهمجية الحيوانية (وكأننا لم نعد كذلك)؛ وهو تفسير غريب لو تمعّنت فيه لوهلة: فالعنف هنا فضيلة خلّاقة، لولاه لما أشبعنا بطوننا، ولما حافظنا على بعض اللحوم لأطفالنا ليتجاوزوا جوع اليوم، ولما حافظنا على أرواحنا أصلًا، أو تمكّنا من التعاضد على بناء الأسوار والجدران والتعاون داخل المجموعة. بل أن وجودك اليوم نفسه هو ثمار هذه ”الفضيلة“.

ثم أسأل، أين هي الهمجية في فن البقاء بأي ثمن وتحت أشرس الظروف؟ أنا يمكن أن أصدم البعض وأقول أن العنف هذا هو النظام بحد ذاته. أي استعادة التوازن في السلسلة الغذائية وضمان استمرار الجينات بشكل متناسق وسط ظروف متقلّبة، طقس بارد قارص، حيوانات مفترسة شرهة ومجاميع أخرى تتربّص بك لتنقض عليك وعلى عائلتك في أول لحظات ضعف. والعنف هنا يعني القوة، لا الهمجية. والغاية من الحرب في نهاية المطاف هي تأمين المساواة والتوازن بين الدول، الدفاع عن النفس، الأرض والعائلة. في نفس الوقت كان استنتاج أبرز العلماء آنذاك مطابقًا إلى حد ما مع الموقف الفلسفي من الحرب.

ومع أني لم أتوقّع كتابة مثل هذه النصيحة يومًا ما، لكنك لو بحثت في آراء الكثير من العلماء القدماء حول مواضيع اجتماعية وسياسية مهمة إلى يومنا هذا ـ في عصر ساد فيه الفضول على عقليتهم بعيدًا عن أضواء الشهرة وفساد التمويل ـ فستجد فيها موضوعية ورصانة أكثر من أغلب تلك المعاصرة اليوم، خصوصًا عندما يمس الموضوع بديهيات عولمية بخصوص الحرب والسلام والتعريف السائد منذ معاهدة ڤرساي. ففي الماضي، كان العلماء لا يزالون يتخذون قرارات بصيرة جيدة، وذلك لأنهم ترعرعوا في ثقافة سبقت فساد العِلم من خلال السلطة.

في كتابه ”أصل الانواع“، حاول داروين إعادة قراءة الحرب من زاوية تطوّرية/اجتماعية. ولو طرحت استنتاجه على عدة مفكرين وأكاديميين معاصرين دون ذكر أسمه، لاتهموه بالتطرّف والهرطقة. الحرب كمحرّك رئيسي للتطور الثقافي؟ ماذا عن حرية الاقتراع والمساواة في كل fuckin’ شيء؟! أتكفر بآلهتنا يا داروين؟

من حسن حظه أنه لا يعيش بيننا اليوم، وإلا لكان قد عانى من ”الكاتدرائية“ مثلما عانى مع الكنيسة من قبل.

داروين لم يفهم الحرب كغريزة مغروسة في الفطرة وعلى وتيرة ثابتة، بل فهمها كسلاح طبيعي كان وسيبقى عرضة للتلاعب والتحسين. في رأيه، تساهم كل بدعة عسكرية إلى حد ما في تقوية العقل الجمعي. وإذا كان الاختراع مهمًا، فإن القبيلة ستزداد أعدادًا وتنتشر وتحل محل القبائل الأخرى وتهيمن على أهم المصادر.


وأنا لا أذكر هذه الأمثلة حتى أبدو وكأنني باحث يعمل في متحف للآثار. لكن مطّ الخط الزمني مع كل قراءة لفهم تطوّر التعقيد الاجتماعي، يجعلك قادرًا على استيعاب التالي، وهو أن العنف والصراع والحرب من أجل البقاء والثروات هي أصل كل شيء نسميه اليوم حضارة. وروح الفضيلة التي تتبلور عن هذا الفعل الجماعي هي ذلك الشعور بالمسؤولية على مستوى جمعي. الطريف بالنسبة لي، هو أن بعض العقول الأكاديمية تخرج باستنتاجات مشابهة، لكن ولسبب أجهله، تتوقّف عقولهم عند الإنسان المعاصر ويتعاملون معه وفق عقليته بمعزل عن تاريخه القديم وغرائزه وفطرة الطبيعة داخله.

لكن من أنا لأحكم؟ فعلى ما يبدو لا تنطبق قوانين الطبيعة على الإنسان في بعض الحالات، كما هو الحال عند تصنيف البشر بين ذكر وأنثى؛ حيث يرى بعضهم الفروقات كبدعة اجتماعية.
أو، كما أتخيّل العالم من داخل عقل سارة سلڤرمان، أن السلف المشترك كان متحوّلًا ts جمع بين صفات الجنسين وبالتالي كان سبب استمرار الجنس البشري؟ And why the fuck not؟ Love always wins…

تعريف الحرب = أخلاق الحرب

لو عدنا لأبعد نقطة في التاريخ المدوّن، سنجد أن الحرب هي الروح الخلّاقة للأحداث في المدن على ضفاف الأنهار، بين أودية الجبال أو على سواحل البحار. الجميع حارب، فيما بينهم وضد الآخرين. لكن من أجل ماذا؟

هذا السؤال مهم لأن الإجابة النمطية والشائعة عليه غير كافية. ولكي نفهم طبيعة المؤسسات التي تبلورت عن هذا التكتل والاختلاط بين البشر، علينا أن نفهم تصوّراتهم البدائية عن الوجود، عن الدين وعن اللغز الأكبر والأشد وقعًا على وعيهم: الموت.
يقول المؤرّخ العودي نوما فوستيل دي كولاچ: ”لكي نفهم مؤسسات القدماء، على المرء أن يمعن النظر في معتقداتهم الأولى“.

المشكلة في مثل هذه الانطلاقات التاريخية، وهذا خطأ أحاول أن أتجاوزه قدر الإمكان، هو أن التاريخ طويل جدًا ولا يمكن لأدمغتنا استيعابه بشكل كامل. وعليه لا بد من الانطلاق من نقطة ما، مدركين في نفس الوقت نسبة اللادقة في هذا التعريف الزمني. الفكرة هنا ـ وهذه نصيحة أكررها على كل من يسألني عن المراحل التاريخية التي تستحق القراءة دون غيرها ـ هي أن تبدأ برسم لوحتك الخاصة عن الخط الزمني للتاريخ؛ فبدونها تضيع وسط شساعته وعمق/تباين تفاصيله! وهذا المثال التالي ـ مستوحى من كتاب الرائع فولر توري (سبق وأن ترجمت منه بعض المقاطع) ـ سيساعدك على تتبع التعقيد الاجتماعي والفكري للإنسان بشكل مقتضب:

لو استقرينا زمنيًا على الفترة قبل 150.000 – 100.000 عام، يمكننا أن نفترض وفق المستحاثات المكتشفة في الكهوف، أن الأصداف التي كانت تستخدم، على ما يبدو، لصنع قلادات زخرفية يلبسها أسلافنا حول رقبتهم، تشير إلى أنهم امتلكوا القدرة المعرفية على التفكير بما قد يفكّر به محيطهم حولهم. وهذه علامة للتطوّر المعرفي.
فاكتساب ذاكرة تستوعب السيرة الذاتية بجانب المهارات المعرفية الأخرى، قاد ربما إلى الثورة الزراعية قبل 11.000 عام. هذا التكتّل الاجتماعي في مكان واحد سمح بدفن الموتى بجانب الأحياء؛ وبالتالي، لن نستغرب من أن فكرة عبادة الأسلاف وتقديسهم قد بدأت بعد هذه المرحلة. فمع زيادة عدد السكان، ظهرت التسلسلات الهرمية للأسلاف بشكل لا لبس فيه. وفي مرحلة ما، ربما بين 10.000 و 7.000 سنة مضت، عبر عدد قليل من الأسلاف المهمين للغاية خطاً غير مرئي وارتقوا قصصيًا لمرحلة أشبه بالآلهة.
قبل 6.500 عام، أي مع بداية التدوين وعندما أصبحت السجلات المكتوبة الأولى متاحة، ازداد عدد الآلهة عبر المجتمعات.

في البداية، تركّزت مسؤولياتهم على القضايا المقدّسة والمحورية في حياة الإنسان القديم: الحياة والموت، وبرأيي الأمر لم يتغيّر كثيرًا.
بطبيعة الحال وفي وقت لم تكن هنالك عائلة بقوة توازي مكانة عائلة تارگاريان (GoT)، أدرك القادة السياسيون فائدة الآلهة وزادوا من تكليفهم بواجبات علمانية أيضًا، مثل إقامة العدل وشن الحرب، وحماية المستضعفين (أو التضحية بهم، كل إله ومزاجه طبعًا)، وطرد الأعداء وحماية الحصيل الزراعي أو الدفاع عنه. ويبدو لي أن مزاج الآلهة في الشرق الأوسط قد تأثّر بدرجات الحرارة العالية في المنطقة. وإلا كيف نبرر غضب كبير الآلهة ورب السماوات والأرض عند السومريين ـ إنليل ـ من البشر ومعاقبتهم بالطوفان، لأن ضجيجهم أزعجه في نومه؟ مع أنني أجد الغرق أكثر رحمة من الغليان في جوهنّم إلى الأبد؛ لو خيّرت طبعًا..

وكما تلاحظ، فإن أخلاق القوم تنعكس على صورة أجدادهم أو آلهتهم؟ لكن ماذا عن أخلاق الحرب؟ أي عادات و سلوك الجماعات والأفراد أثناء الحرب.

أغلب الألواح والمصادر التاريخية في وادي الرافدين، النيل، النهر الأصفر أو نهر السند، تنقل لنا تفاصيلًا عن معارك حدثت عادة من أجل الدفاع عن أو توسيع مصادر الثروة الإنتاجية: المياه والأرض والحيوانات، خصوصًا وأن هذه المجتمعات كانت قائمة على الزراعة بالدرجة الأولى، وهذا ما يجعل الأرض وإمدادات المياه الكافية أمرًا حيويًا لرفاهية مدنهم. حيث قاتل أجدادنا القدماء ـ قبل الأديان التوحيدية ـ من أجل ما هو حيوي وضروري لهم قبل أي دوافع أخرى أقل أهمية مثل التفوّق العرقي أو الحصول على المزيد من الأرض فقط أو الدفاع عن الآلهة نفسها. وعلى ما يبدو ان آلهتهم القديمة كانت غير مهتمة بحرب الفتوحات، حتى جاءت أديان السلام والمحبة وقوس قزح.

ولا تنخدع بالخرائط التاريخية لمساحات الإمبراطوريات وحدودها الطويلة. فالغاية الرئيسية منها هي لتوضيح النفوذ فقط؛ كما ولا يمكن مقارنة الأخير بنفوذ الدولة المعاصرة. في مصر القديمة مثلًا، حكم منتوحوتب الثاني وخلفائه من مدينة طيبة كعاصمة للبلاد ـ أي 800 كم جنوب البحر الأبيض، حيث أقتصر نفوذه على بعض الكيلومترات على ضفاف النيل وبعض الواحات المحيطة.

وحتى عندما وسّع تحتمس الثالث (منتصف الألفية الثانية ق.م.)، أحد أعظم وأشهر فراعنة مصر القديمة، نفوذ الفراعنة نحو الشام وقرب الساحل، فهو كان يقتصر في تأمينه العسكري على طرق التجارة وتأمين وصول الخشب والحجر والبرونز من هناك. انتصاراته العسكرية ومكاسب من لحقه كانت تنتهي عادة ببناء صروح ومعابد تمجّد آمون، لكن في مدنهم، لا في مدن المستعمرات أو المناطق الجديدة. حتى الجدران والخنادق التي كانت تبنى للحماية من الهجمات من الشرق، كانت تبنى على أطراف الدلتا، لا في في صحراء سيناء.

في سومر، لم يكن هناك جيش دائم، رغم أنه ربما كان هناك بعض الجنود المحترفين. وعندما أعلن الملك والكاهن الأكبر ومجلس المدينة الحاجة إلى الحرب، فهم كانوا يدعون جميع المواطنين الذكور والأحرار إلى حمل السلاح.

ليس هذا فحسب، بل كان على كل مواطن إحضار أسلحته الخاصة معه. الأسلحة الشائعة تضمّنت الأقواس والرماح والفؤوس والصولجان والسكاكين وبعض أدوات الزراعة، بينما كانت الدروع الواقية نادرة. فقط الجنود المحترفين يرتدون خوذات من النحاس أو الحديد. ومع أن هذا لا يطابق ما تنقله الصور المنقوشة على الحجر أو المرسومة على الجدران.

تقريبًا لا توجد حرب مذكورة تفاصيلها ومدوّنة تاريخيًا خاضها بشر على سطح هذا الكوكب، بدون تعديلات ومبالغات وفق تصوّرات المنتصر. ومع أن هذا قد يبدو بديهيًا عند البعض، لكن العولمي المعاصر لا يجدها تنطبق على السرد القصصي لما بعد الحرب العالمية الثانية. فنحن نعيش قصة المنتصر ومازلنا داخلها، الكثير منا ينسى ذلك!

حتى أول إمبراطور في العالم، سرجون الأكدي، لم يكن بهذه السذاجة ليوسّع إمبراطوريته دون التفكير بثمن الحفاظ على استقرار مدنه. حيث اقتصر نفوذه على المدن ومحيطها، لا أكثر. ومدة حكمه وحكم حفيده لم تخلو من الانتفاضات والشغب والخيانة داخليًا ـ في النهاية نحن بشر، وهل هنالك لعبة أكثر إثارة من لعبة العرش؟

هنالك ترجمات لقصائد تاريخية عن سرجون ونرام سين، تنقل لنا صورة تؤكّد الغرض الحقيقي من التوسّع الإقليمي. يقال عن هذه السنوات من حكم سرجون على أنها كانت وقت وفرة الطعام والشراب والسلع الخارجية التي جاءت ألى مدينة أكد، ومن بينها “الأفيال الضخمة والقرود وحيوانات من بلاد بعيدة والخيول الكلاب”، وكلهم جابوا، بحسب القصيدة، على طول شوارع أكد. ومع أنه وصف نفسه بفاتح أرض عيلام ومارحاشي، إلا أن جيشه المنظّم بقوام 5.400 محارب لم يكن قادرًا على استيعاب إدارة كل المدن التي انتصر عليها وضمها لإمبراطوريته من أرض عيلام إلى أقصى غرب الفرات. هو عرف كيف يسيطر على المراكز التجارية المهمة؛ وعندما نصّب حاكمًا على مدينة ما لإدارة شؤونها، كان يعيّن شخصًا أكديًا فقط. نفوذه السياسي امتد عبر ثقافات وأديان متعددة، وعندما مجّد نفسه، أقرّ في نفس الوقت بقوة عدوه وبأسه.

حيث خاض ملوك الماضي الحروب وكأنهم يقابلون نظرائهم. حتى نهاية حقبة الساموراي بقيت بعض القيم والأخلاقيات الحربية تمنعهم من غدر العدو وطعنه من الخلف، وإلى فترة ليست بالبعيدة، كانت المواجهة وجهًا لوجه عند أغلب الجيوش هي نوع من استعراض للكرامة والبسالة، رغم قلة العدد أو تضائل فرص الفوز. ومع أن الحروب كانت وحشية وبعنف مباشر لا يقارن بطلقة جندي عن بعد كيلومترات، إلا أنها عرفت النزال الشريف في أشد لحظات الحماس والحقد.

يقول نيتشه: ”إن المساواة مع العدو هي الشرط الأول لنزال شريف، وحيثما يوجد مجال للاحتقار لا يمكن للمرء أن يخوض حربا.“.

كما تلاحظ، فإن التعالي الأخلاقي وفق هذا المفهوم الكلاسيكي يشترط أن ينصف كل طرف الآخر. وإن كان جيش ما يعتبر الحرب من أجل إلهه الأعظم والأكبر مشروعة وواجبة، فهو على الأقل يفاضل بين آلهة وأديان؛ بينما أجد أحقر أنواع المفاضلة هي عند من يحاول احتكار الإنسانية والتظاهر بالعدالة والتفوّق الأخلاقي.

يكتب الجنرال الصيني والفيلسوف صن تسو في ”فن الحرب“:

”إن فن الحرب محكوم بخمسة عوامل ثابتة، يجب أن يتم أخذها بالحسبان عند السعي لمعرفة حالات الفوز بالمعركة. هذه الشروط هي: (1) القانون الأخلاقي (المعنوي)؛ (2) السماء؛ (3) الأرض؛ (4) القائد؛ (5) الطريقة والانضباط. القانون الأخلاقي يجعل الناس في اتفاق كامل مع حاكمهم. لذا سيتبعونه بغض النظر عن أرواحهم، وبدون أية مهابة لأي خطر كان. […] هذه الرؤوس الخمسة يجب أن تكون مألوفة لأي قائد؛ فمن يعرفها سيكون المنتصر، ومن يعرفها لن تطاله الخسارة.“
وهنا تلاحظ أن المنتصر هو من يتقن اللعبة في نزاع عادل، وليس من يكسب الرأي العام أو يهيمن على سلطة تعريف العدو والطعن بهويته. بكلمات أخرى، لا حاجة لسلطة رابعة عندما ينتصر القوي باستحقاق ويحدث التنافس وفق إطار عادل. ويكمل صن تسو:

”من بين الملكين مشبع بالقانون الأخلاقي المعنوي؟ من من بين القائدين يتمتع بالأهلية والقابلية؟ مع من تكمن أفضلية وفوائد السماء والأرض؟ أي جانب لديه الانضباط مفروض بصرامة وقوة؟ أي جيش أقوى؟ أي جانب لديه رجال وضباط مدربون بشكل أكبر؟ أي جيش فيه ثبات أكبر من ناحية المكافئات والعقاب؟ بواسطة هذه الاعتبارات السبعة، يمكنني أن أتنبأ بالربح أو بالخسارة.“

جرّد مفاهيم الحرب من المثاليات، وستخلق حيّزًا يشغله تجّار المعلومات ودعاة المثالية الأخلاقية والإنسانية. فكل تحالف وكل قرار سياسي سيطاوع الرأي العالمي والإقليمي ويحاول كسب عواطف الجموع قبل أن يكسب أي شيء آخر.

ما بعد الحرب العالمية الثانية وإحياء حرب الجهاد الإلهي (الإنساني؟)

كيف أفسدت الحداثة أخلاق الحرب؟
لتشريح المرض وتحديد الفترة الزمنية، لا بد لنا من تحليل تبعات حرب الثلاثين عامًا في أوربا، نهايتها بصلح ڤستفاليا، ثم الحرب العالمية الأولى والثانية وانتصار الحلفاء.

لكن قبل كل شيء: عندما أستخدم فعل ”أفسدت“، فأنا أفضّل بطبيعة الحال جانبًا على آخر ـ أي أخلاق حرب على أخرى، فلسفة قوم على أخرى. ومن هنا أبتعد عن أي موضوعية في الطرح؛ وأنا لست ملزمًا بذلك. ببساطة لأنني لا أسرد التفاصيل، بل أناقش أبعادها الفلسفية السياسية. ولك الحرية بالبحث بنفسك وبناء تصوّرات جديدة.

يرتبط مفهوم العدو في الجيوسياسة إلى حد كبير بأخلاق المجتمع الحربية؛ ولكي يصبح السلام بين الأطراف خيارًا بديلًا عن الحرب، يجب أن يحمل العدو تعريفًا سياسيًا يسمح له بأن يجلس كخصم ونظير على الطاولة؛ حيث لا يمكن صنع السلام إلا مع العدو. وهذا الاعتراف الضمني بالآخر هو شرط مهم لإمكانية تحقيق السلام كمرحلة تلحق الحرب. ولك أن تتخيّل بقعة ملعونة على سطح هذا الكوكب حيث تعيق مشكلة انعدام الاعتراف بالآخر، ولادة أي فرصة للسلام.
المشكلة هنا ليست بالأطراف المتنازعة فقط، بل بانعدام البيئة، أو درجة حراراة العنف اللازمة للخروج بمعدن علماني مسالم؛ لا إنساني ـ لا إبراهيمي.

وقد يستغرب البعض من تصنيفي هذا، وهذا جيّد، لأنك بالتالي تعيد امتحان استنتاجاتك، ولا خسارة في ذلك، أليس كذلك؟
بانعدام البيئة اللازمة أقصد انحسار هذه البقعة زمنيًا وفكريًا بين أخلاق الحرب الجهادية المقدّسة على نهج الإبراهيميات وبين أخلاق الحرب الإنسانوية والدمقرطة؛ أي أننا نجحنا بالخروج بفكر رصين، لكننا أضعناه بسهولة وبسرعة نسبة إلى تاريخ البشر المدوّن. السؤال التالي هو: هل تحتاج المدن لتطهير على طراز نهب ماغديبورغ ولدماء 25 ألف روح قبل أن ترضخ آلهة الحروب لقربان السلام؟ 

أسهم لهيب الموت (أرض ـ أرض) غطّت سماء المدينة وأرضها قبل أن يدخلها جيش الكاثوليك من القرى و المدن المجاورة. ومع أن هذه الدماء لم تكفي رب الكنيستين، إلا أنها كانت كافية لإقناع ساكسونيا وبراندنبورگ بالتحالف مع مملكة السويد لغزو المانيا نفسها. وحيثما وجد مجاهد ما، وجدنا مصطلح الغنائم. فأبشع الأحداث، من نهب واغتصاب وقتل وسرقة، في تاريخ حرب الثلاثين عامًا لم تحدث على ساحة المعارك، بل على أيدي الجنود المنقذين، مجاهدي البروتستانت في قرى لوثرية، ومجاهدي فيرديناند الكاثوليك في مدنهم وعلى أرض الـ Imperium Romanum Sacrum.

فعلى نهج الحرب المقدّسة، يصبح خيار السلام زندقة. وإن رضي البشر، هل سيرضى الإله هو أيضًا؟

حتى 1648، طغت فلسفة الحرب المقدّسة على الحروب التي رسمت قوانين الجيوسياسة الأوربية (res publica christiana). فبعد زوال الحضارة الرومانية، هيمنة الكنيسة بطرفيها البيزنطي والكاثوليكي، ولمئات السنين، على صياغة قوانين الحرب وتعريفاتها. فأعداء الله ملعونين للأبد، في زمن لم يكن فيه السلام بين طرفين سوى استثناء للحرب أو لشراء بعض الوقت.
ومصطلح ”حكم الريبوبليكا كريستيانا“ كان مهمًا في سياق الحملات الصليبية، واستخدم في الوثائق البابوية في القرن الخامس عشر من قبل البابا پيوس الثاني وغيره، والذي تبنّى موقفًا ”إنسانيًا“، واستند إليه في الدعوة إلى حملة صليبية بعد سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح؛ محقق نبوءة محمّد بفتح القسطنطينية (لحظة يتبلل فيها لباس الأخ المسلم من الفرح). لكن هذه الفرحة لن تدوم عندما يقرأ عن خوزقة دراكولا ـ آه نعم، ڤلاد الثالث المخوزق ـ الذي خوزق جنود محمد الفاتح قرب نهر الدانوب. (يصلح كقصة فلم رعب إسلامي ـ مسيحي).


المهم، أن تحاول فهم عقلية الحرب عند الأطراف المتنازعة آنذاك: السلام هنا هدنة مؤقتة حتى يحين موعد القضاء على أعداء الله أو اللورد يسوع. وهذا بدوره يقتل أي بادرة وأي فرصة لسلام طويل الأمد.
لكن ما ميّز صلح ڤيستفالن (من الصدف المميزة في حياتي أنني قد ترعرعت في مدينة الصلح هذه Münster بعد أن ولدت في بغداد) هو أن الأطراف المتنازعة ـ فرنسا، السويد، بوهيميا، إسبانيا، هولندا والإمبراطورية الرومانية المقدّسة ـ كانت تبحث، رغم تباين القوى والمصالح، عن السلام بأي ثمن. إضافة إلى ذلك، تعامل كل طرف مع الآخر على كونه عدوًّا من باب ونظيرًا يجب احترامه من باب آخر. بحكم الظروف البشعة طبعًا؛ فالحرب الطويلة استنزفت كل فنون البشاعة عند الجنود والمدنيين واستهلكت كل موارد القرى والمدن، حتى لم يعد هنالك جنود برواتب ولا فلاحين بحصيل زراعي أو دجاجة تبيض. وكأن الجثث المعلّقة في أشجار كل قرية لم تكن كافية، أكمل الطاعون والجوع على بقية من هرب من الحبال.

هذا التعامل مع العدو كخصم، لا كمجرم أو إرهابي، سمح بولادة العلمانية في قلب الاحتقان الطائفي بين البروتستانت والكاثوليك. والجدير بالذكر أن حرب الثلاثين عامًا لم تكن دينية الدوافع فقط، وهذا ما يؤكّده تحالف الفرنسيين الكاثوليك مع مملكة السويد البروتستانتية. لكن هذا بحث آخر.
التعامل مع الآخر حصل وفق التوافق الدبلوماسي والتعامل باحترام شديد رغم ظروف الحرب. ولم يحاول أي طرف من زج مصطلحات رنّانة كـ”الإنسانية” أو التظاهر بالتعالي الأخلاقي أمام الآخر. ومن هنا كانت النقلة من مرحلة حكم اللاهوت المسيحي إلى مرحلة الدبلوماسية السياسية والحرب المشروعة، لا الشرعية. إنها اللحظة التي تم فيها عزل الإله عن مهمة تحديد ثقافة الحرب وترك المهمة هذه لأبرز العقول العسكرية والمفكّرة في ذلك الوقت.

قانون الشعوب هذا أعاد تهذيب بعض القوانين الحربية فيما يخصّ سلوك الجنود وعنفهم تجاه المدنيين والأسرى، احترام مفهوم الحياد السياسي، تأمين أرواح السفراء والرسل، تنظيم خطوات الاستسلام أو فك الحصار وأخيرًا الجلوس على طاولة الحوار ومناقشة معاهدات السلام. في نفس الوقت، لم يتدخّل إله طرف ما أو أي قوانين دولية أخلاقية بشكل مباشر. فهدف الحرب هذه لم يكن تغيير نظام دولة جارة أو دمقرطتها بأي ثمن، بل التنازع حول الأحقية بموارد أو أراض ما. ولكي تكون حربًا عادلة، لا يجب إعلان الحرب رسميًا فحسب، بل يجب أيضًا إعلانها من قبل السلطة صاحبة السيادة. فالسلطة هي ما يميز الحرب عن القتل: وقواعد الحرب هي التي تميّز الجندي من المجرم. حيث يعامل الجندي على أنه أسير حرب وليس مجرماً. والأخير يمارس واجبه تحت سلطة دولة ذات سيادة، وعليه ولا يمكن تحميلهم المسؤولية الفردية عن الأفعال المرتكبة بأوامر من قيادتهم العسكرية. ومن هنا بدأ مفهوم الدولة وسيادتها يزداد أهمية وتأثيرًا في التاريخ.
بينما تجد مفهوم ”شرطي العالم“، كما هو الحال في عصرنا، لم يكن مرغوبًا ولم يملك مبررات فلسفية/دينية. وهذا ما سمح بترسيخ مفهوم سيادة الدولة أمام الطرف الآخر وأمام الكنيسة نفسها! حيث لم تعد الكنيسة قادرة على تبرير الحرب شرعيًا أو الاكتفاء بحجّة الجهاد الديني. وهذا لوحده طفرة سياسية عظيمة.

وبذلك حرر مفهوم شرعية الحرب ومبرّراتها (jus ad bellum) الذي تبلور عن أحداث حرب الثلاثين عامًا وصلح ڤيستفالن، أخلاق الحرب من هيمنة إله التوحيد. في أوربا على الأقل..

ولأننا كبشر بارعون في تهديم وتضييع الإنجازات الحضارية أكثر من المحافظة عليها، شاءت الظروف أن تخلق هجينًا يهوديــبروتستانيًا بقالب اشتراكي وبقناع إنسانوي جديد. تحديدًا المادة 231 من معاهدة ڤرساي المشؤومة ـ أحدِ أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية. إنها اللحظة التي انتهك فيها مفهوم الـ jus ad bellum ، حيث أرغمت ألمانيا وحلفائها على تحمّل مسؤولية الحرب الكاملة تحت عنوان “انتهاك الأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات”. وليس من الغريب أن يتمخّض عن هذه الأحداث تأسيس عصبة الأمم وولادة الشرطي العالمي الذي لا يعامل الدول كأطراف تتحارب وتدخل معاهدات سلام فيما بينها، بل يعامل من يبادر بالحرب، لأي سبب وبغضّ النظر عن شرعيته، كمجرم بحق السلام والإنسانية. ولن نبالغ لو سمّينا عصبة ”الأمم“ هذه بتحالف بريطانيا وفرنسا لجمع الأتاوى؛ بل لو تتبعت أسباب تجاهل معاهدة ڤرساي للشرق الأوسط ورغبة الدولتين بتقسيم غنائم الدولة العثمانية بينهما، ستفهم قصدي جيدًا. مع أن الولايات المتحدة كانت متربّصة للأحداث رغم البعد الجغرافي، آملة بفتح أسواق جديدة لبضائع السوق الأمريكي.

قد يكون من وراء استثناء مستعمرات الشرق الأوسط من التوزيع ضمن إطار معاهدة ڤرساي غاية ”إنسانية“ و”أخلاقية“ فعلًا، لكن الفرضية المعاكسة تبدو لي أكثر واقعية:
فانتقال حيازة مستعمرة من دولة إلى أخرى كانت ستعتبر كتعويضات مادية من قبل ألمانيا والدولة العثمانية، وعليه لن يتوجّب عليهما دفع مبالغ cash كبيرة ومكاسب مادية مهمة، خصوصًا وأنت خارج من حرب عالمية واقتصادك مفلس. الحل لهذه المعضلة بسيط وعبقري: كل ما تحتاجه هو مصطلح “سلام” و”مدينة” يتم فيها اللقاء لاحتضان ”معاهدة”. ومن هنا خرجوا بمعاهدة باريس للسلام ـ تاداااا.

لكن الأبرز من بين كل ذلك هو فكرة الانتداب والتي احتاجت لبعض البهارات السياسية: أبراكادابرا: وها قد ولد ”حق“ تقرير المصير. تحت الانتداب طبعًا.
ولكي يكون الأمر مشروعًا من ناحية القانون الدولي، شكّلت عصبة الأمم لجنة للإشراف على حسن إدارة الدولة المنتدبة. وعليه لم تعد هذه المناطق (بما في ذلك فلسطين وإسرائيل) قابلة للتبادل كتعويض، بل وصارت رهينة لقانون جديد يحكم مصير هذه المناطق ويحدد ”حريّتها في تقرير المصير“ وفق مزاج الانتداب والقانون العالمي.

انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لاحقًا، قضى على أي فرصة لاستعادة التوازن السياسي والحربي وسمح لشرطي العالم الإنسانوي بإحكام قبضته على كل تعريفات الحرب وأخلاقها. واحتكار المنتصر للسلطة تحت قناع الإنسانية تجلّى وبسريالية تاريخية في محاكمات نورمبرغ اللاحقة، متناسين أرواح الملايين من المدنيين الذين ماتوا بنيران وقنابل قوات التحالف.

لكن على ما يبدو، فإن منطق orange man is bad (أو braun/brown man is bad؟) أسهل في التسويق وأشهر بدون منازع..

وبعيدًا عن حروب القرن الماضي: فإن أبشع حروب القرن الحادي والعشرين قد حصلت برعاية الشرطي الكبير وساهمت في إحياء أخلاق الحرب الجهادية مجددًا، حتى صارت واقعًا مخيفًا عشناه بظهور الخرافة الإسلامية في العراق والشام في 2014. من دون ذكر موجات الهجرة وأعداد النازحين والقتلى في الفوضى التي تركتها دمقرطة الدول من قوى السلام والإنسانية.
عارض الرأي العولمي أو اخرج عن إطار نافذة أوڤرتون الدبلوماسية وستتحوّل من دولة ذات سيادة إلى دولة إرهابية/عدوانية. وهذا يجرّدها من السيادة وحق خوض الحرب أو حق الدفاع عن نفسها.

في النهاية، هذه هي لعبة السياسية المعاصرة: and It is a fuckin’ show. لكن أجدادنا وفي فترة ليست بالبعيدة، أجادوا لعبها بشرف وباحترام متبادل..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s