كيرتس يارڤن (Moldbug) / ترجمة Saif Al Basri
نحن نعلم أن المختبرات الصينية في ووهان كانت تجري تجارب على ڤيروسات خفافيش مؤنسنة جينيًا. كما نعلم أن ووهان ليست موطن الخفافيش، ولا حتى الشتاء موسمها. ونعلم أن غالبية الصينيين ليسوا بأكلة للخفافيش. بل أن خفافيش كورونا غير صالحة حتى للأكل.
أيضًا نعلم أن الحكومة الصينية ترفض نشر سجلات أبحاث ڤيروس الخفافيش. ونحن نعرف “مسؤولًا إداريًا كبيرًا” – من داخل إدارة بايدن، أي مباشرة من صلب الدولة الراسخة – يقول:
”لقد كانت هذه مجرد نظرة خاطفة خلف ستار مجرّة كاملة من النشاط المختبري، بما في ذلك المختبرات العسكرية في بجين ووهان وهي تتلاعب بڤيروسات كورونا وإنزيم ACE2 في الفئران وسط ظروف غير آمنة، وبشكل غير مفهوم في الغرب ودون سابقة تذكر.“
إحدى المهارات المعرفية المهمة في العالم الحديث هي معرفة متى تثق بالسلطة. وعندما تفعل ذلك، يمكنك أن تراهن بثقة. وفي حين أن هذا لا يعوّض عن الأخطاء المخرّبة التي قامت بها مجاميع ”الاستخبارات“، إلا أنه يظهر أنه لا تزال هناك قيمة تستحق وقفة.
فالدولة الراسخة لما أخبرتنا بهذا الأمر لو لم يكن صحيحًا. ببساطة لأنه لا يتناسب مع الأجندة البيروقراطية لأي شخص – وبصراحة أيضًا، لا أحد في واشنطن اليوم لديه الخصى اللازمة ليبتدع مثل هذه المعلومات.
فقط علينا أن نفترض أنها صحيحة وننسى نظرية برگر الكنغر المجمّد من أستراليا ونظرية الأمراض الحيوانية المنشأ المزدوجة (انتقال الڤيروس من الخفافيش إلى آكل النمل الحرشفي ثم إلى الإنسان)، ونمضي قدمًا من هنا. لكننا لن نفعل ذلك. ونحن لسنا بحاجة لمعرفة أي شيء آخر. وربما لن نعرف أي شيء على الإطلاق.
وحتى يظهر شخص ما مع حيوان آكل النمل الحرشفي وبدليل قاطع أو خفاش ملطّخ أو آيس كريم ملوّث، فإن الفرضية القائلة بأن SARS-CoV-2 كان حادث مختبر صيني هي الفرضية الصفرية. وهذه المعرفة المفترضة تخزنها في المكان الذي تحفظ فيه كل الأمور التي تفرضها صحيحة في داخل عقلك، على الرغم من أنك لا تزال مستعدًا للنظر في أي دليل ضدها.
لكن ما يهم هو ليس فرضية المختبر، بل التبعات والآثار المترتّبة عليها. ولا يكاد يفكر أحد في خطورة هذه التبعات. لكن قبل أن نتناولها هنا، دعونا نفهم أسباب هذا الانهيار المعرفي. […]
مشكلة العلم الحديث
مشكلة العلم الحديث هي أن عملته تكمن في ملاءمة الأهمية وصلتها بالواقع. في نفس الوقت، لا يمكن تقييم هذه ”الأهمية“ وفق ضوابط علمية صارمة. ونظرًا لأنه لا بدّ من تقييمها بكل الأحوال، فإن الحكم بشأن الأهمية العلمية هذه يخضع في العادة لموازين عقائدية وأيديولوجية.
أي أن القرارات العلمية تبقى ”علمية“، بينما تستحيل القرارات الميتا ـعلمية (meta-scientific)، أي تلك حول موضوع العلم الذي يراد البحث فيه، إلى قرارات عقائدية وبيروقراطية تمامًا.
وكل مجال لديه قائمة بالمشاريع ذات الأولوية على صعيد البحث العلمي. وهذه القائمة تتضمن كل معضلة في الواقع وكل حيّز لمشكلة يمكن أن تمتّ بصلة للبحث في هذا المجال.
بطبيعة الحال، من المثالي أن تكون هذه القائمة، بالنسبة لكل باحث في مجاله، طويلة والمعضلات التي يراد معالجتها متنوّعة قدر الإمكان.
كما ومن الصعب توسيع هذه القائمة ـ لأنه ببساطة يعني التقليل من ميزانية شخص آخر؛ وتقليص القائمة يكاد يكون مستحيلاً. علاوة على ذلك، حتى لو تم تعقّلها بحكمة، فإن هذه القرارات الميتا ـعلمية نادرًا ما يمكن اختزالها لأي منطق آلي أو علمي؛ بل تميل إلى أن تكون بصيرة، معتمدة على ”حكمة واقعية“.
وهذا بدوره يشير إلى أن قوى حكيمة وغير علمية يجب أن تكون مسؤولة عن العلم – وهو استنتاج سيقاومه أو يرفضه جميع العلماء تقريبًا وبشدّة. […]
وعندما تحذف مشروعًا من هذه القائمة ”المهمة“، فإنك تمحي وظائف مجموعة كاملة من العلماء في لحظة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: من لديه السلطة لفعل ذلك؟
ج: على الأغلب، لا أحد.
الأهم من صعوبة تغيير هذه القائمة (ذات الطابع غير الرسمي دائمًا – في حال كان لديك أي نشاط تجاري وتعرف ما هي المشاكل المهمة) هي أصالة الكيفية البصيرة في تدبّرها وتنسيقها.
والعلم هو أسلوب للتفكير؛ والقرار البصير هو قرار لا توجد له معادلة مفيدة – فقط الذكاء والمعرفة والحكمة. ومعظم القرارات العملية هي قرارات بصيرة حكيمة وليست علمية. علم الميتا (Meta-science) – أي القرار بشأن العِلم الذي يراد البحث فيه – هو حريف للمعرفة العلمية، لكن قراراته بصيرة ولا تختزل في منطق علمي.
أحد المبادئ الأساسية لعلم القرن العشرين هو ما يسمّيه البريطانيون مبدأ هالدين (Haldane principle) – وهو أن التمويل العلمي يجب أن يوجهه العلماء أنفسهم. وبدت هذه فكرة جيدة في ذلك الوقت. ففي النهاية، كان القرن العشرين هو العصر الذهبي للحارس الذي يراقب نفسه. كما وأن أسوأ شيء يمكن أن يفعله العِلم هو إهدار المال – أليس كذلك؟
اتضح لاحقًا أن مبدأ هالدين كان يعتمد على ذكاء ومعرفة وحكمة العلماء أنفسهم. عندما كان على العلماء أن يكونوا مسؤولين أمام غير العلماء عن هذه القرارات التي يتخذوها، في وقت لم يكن لدى العِلم أي وسيلة لإفساد العامة.
ولكن عندما طُلِب من العلماء اتخاذ القرارات الميتا ـعلمية أيضًا، تبيّن أنه لا توجد علاقة مباشرة بين الحكمة وبين العِلم. بل الأسوأ من ذلك: على عكس العلماء، لم يكن لدى غير العلماء والعامة تضارب في المصالح ضمن القرارات الميتا ـعلمية. وعليه، عندما تبلورت أي حكمة في إطار غير علمي أو ضمن قادة المجتمع، كان على تلك الحكمة أن تقاوم هذا التحيّز الداخلي عند العلماء.
في الماضي، كان العلماء لا يزالون يتخذون قرارات بصيرة جيدة، وذلك لأنهم ترعرعوا في ثقافة سبقت فساد العِلم من خلال السلطة.
لكن في النهاية وبعد فساد العِلم، أصبحت الحجج الخاصة بكل مشروع علمي عقيمة ومجرّدة – ولا يوجد مثال أفضل من الأبحاث التي أجريت حول اكتساب وظائف ڤايروس كورونا (قبل 2019) في الصين والمجتمع العلمي الغربي بشكل عام، والتي أخطأ البعض بتقييم أنها قد تكون مفيدة.
بمجرد ظهور SARS-1، والذي كان من الواضح أنه حادث طبيعي، أصبحت الأمراض حيوانية المصدر لڤيروس كورونا الخفافيش ”مهمة“ وبدأت بكسب الانتباه. خصوصًا وأن هذا الڤيروس قد تسبب بوفاة الكثير من الناس، بل كاد أن يتسبب في جائحة. ومن هنا جاء الفضول والخطر في نفس الوقت: لما لا نعرف المزيد عن هذه الظاهرة الخطيرة؟!
وعليه، هل هنالك طريقة للبحث في مشكلة تكيّف ڤيروسات الخفافيش مع البشر أفضل من ”محاكاة“ المشكلة وخلقها داخل المختبر؟
كما ويمكننا أن نفعل ذلك بأفضل شكل مختبري من خلال ………………. بالضبط، تكييف وتعديل ڤيروسات الخفافيش لتلائم جسم الإنسان. تادااا
فمن الصعب للغاية أن يقفز الڤيروس من الخفاش إلى الإنسان. أولاً، لأن الأنسان لا يختلط مع الخفافيش بشكل مباشر؛ ثانيًا، ارتباط الخفافيش بالبشر على مستوى الشجرة التطوّرية بعيد جدًا.
وكما أظهرSARS-1 يمكن للطبيعة عبور هذا الجسر رغم طوله. وإن حدث، فنادرًا وليس بسهولة! وكما تبين لاحقًا، فإن تبعاته مضرّة وكارثية.
SARS-1 هو مرض حيواني المنشأ (ولم ينشأ داخل مختبر)، وكان في طور التكيّف مع البشر، ولكن تم إيقافه والسيطرة عليه قبل أن يتفشى. نما الڤيروس ببطء شديد في خلايانا – ولذلك لم يكن معديًا حتى ظهرت أعراضه. بكلمات أخرى، لم يعبر كل الجسر بعد.
بينما في داخل المختبر، يصبح عبور الجسر سهلًا. وبالتالي يهيمن الفضول: ”لما لا؟“ حيث يمكننا أن نتعلم شيئًا عن الجسر أو الجسور أو شيء من هذا القبيل؛ كما فعلنا في الماضي!
تعريض البشر لڤيروسات الخفافيش هو فعل شنيع يذكّر بالوحدة 731 (وحدة أبحاث وتطوير حرب كيميائية وحرب بيولوجية سرية في جيش اليابان الإمبراطوري)، لكنها على ما يبدو ليست جريمة حرب إذ حقنّا فئرانًا مختبرية بإنزيم ACE2 البشري. (كما أن تمرير الڤيروسات من خلال القوارض هو أمر شائع أيضًا ـ والـ SARS-CoV-2 يحب القوارض وغيرها من فصيلة العرسيات، وقد قضى على مزارع حيوان المنك بأكملها.)
في النهاية، لا يوجد صانع قرار حكيم، سواء كان يعرف ما نعرفه الآن أو ما عرفناه قبل عشر سنوات، سيختار تمويل هذا البحث أو غيره من الأبحاث المشابهة. لكن لسوء الحظ، فإن ”الحكمة“ لا تلعب دورًا في عملية تمويل الأبحاث والعلوم بشكل عام؛ وهذا ما يجعل العلِم ضعيفًا في مقاومة أي تفاهة أو مشروع لا يمت للواقع بصلة هامة.
Covid-19 هو حادث بشري مثل كارثة تشيرنوبيل. لقد حدث لأن الـ SARS-1 (حادث طبيعي)، جعل من الممكن تمويل علومًا وأبحاثًا خطيرة وبعيدة عن الواقع في أهميتها.
وكما هو الحال في العديد من الحوادث الهندسية الكبرى في التاريخ، فإن السؤال لم يعد يدور حول السبب، ولكن لماذا لم يحدث ذلك عاجلًا؟
يتبع..