تحذير للغرب – كيف أطالت الديمقراطيات عمر الشيوعية؟ ج1

قبل مدة طويلة، كنت قد قرأت كتاب (أرخبيل غولاغ) للكاتب الروسي ألكسندر سولجينيتسين، إذ ينقل لنا سولجينيتسين في هذا الكتاب بشاعة الشيوعية التي تجلت في أكمل صورة لها في مخيمات الاعتقال التي أُعتقل سولجينيتسين في أحدها. وقبل أيام قليلة، قرأت اقتباسًا للكاتب جعلني أبحث أكثر في مؤلفاته التي وجدت أنها لم يُترجم منها سوى (أرخبيل غولاغ) وروايتين أخريين. ومن بين أبرز مؤلفات سولجينيستين التي لم تُترجم، وجدت كتابًا بعنوان (warning to the west – تحذير للغرب) الذي يسلط فيه الضوء على صيانة الديمقراطيات الغربية للشيوعية في أعنف حقباتها – الاتحاد السوفيتي – ومساعدتها على البقاء والتمدد. وتكمن أهمية هذا الكتاب في كونه عبارة عن خطابات أرسلها سولجينيستسن وألقاها أمام كل من البرلمان الأمريكي والبريطاني بين عامي 76-1975 بإسلوب واضح ومباشر وصريح، حتى أنه ألقى حججًا وذكر أرقامًا وتواريخ لا يمكن لأحد أن ينكرها. وقد اخترت أن أترجم فصولًا من الكتاب لقصره وسلاسته، وسوف أنشرها تباعًا في سلسلة واحدة.

الخطاب الأول إلى الأمريكان – يونيو 1975

السيدات والسادة، من منا لم يسمع بشعار “يا عمال العالم اتحدوا!” الذي بقي يصدح في أرجاء العالم طوال 125 عام؟ والذي بإمكانكم قراءته اليوم في أي كراس سوفيتي، أو في أي عدد من صحيفة (البرافدا). إلا أن قادة الاتحاد السوفيتي لم يستخدموا هذه الكلمات أبدًا بمعناها الحقيقي أو بإخلاص نقي. إلا أن تراكم الكثير من الأكاذيب على مدى عقود من الزمن يجعلنا ننسى الكذبة الأساسية والجذرية، تلك الكذبة التي تمتد إلى أعماق جذور الشجرة ولا تظهر على أوراقها.
على سبيل المثال، لا يمكن لأحد أن يتذكر أو حتى يصدق التالي: لقد قمت مؤخرًا بإعادة طبع كتيب من عام 1918 يُعد بمثابة إحاطة مفصلة لاجتماع جميع ممثلي المصانع في “بتروغراد” – وهي المدينة المعروفة في بلدنا باسم “مهد الثورة”. ودعوني أكرر: لقد كان ذلك في شهر مارس من عام 1918 – أي بعد أربعة أشهر فقط من اندلاع ثورة أكتوبر، وقد كان جميع ممثلي مصانع بتروغراد ينكرون على الشيوعيين مخالفة جميع وعودهم التي قطعوها لهم. علاوة على ذلك، لم يكتف الشيوعيون بترك بتروغراد تعاني من البرد والجوع، بل فروا بأنفسهم من بتروغراد إلى موسكو، سوى إنهم أصدروا الأوامر بفتح نيران الرشاشات على حشود العمال الذين تجمهروا في ساحات المصانع مطالبين بانتخابات لتشكيل لجان مصانع مستقلة.
اسمحوا لي بتذكيركم مرة أخرى: كان ذلك في شهر مارس من عام 1918. وبالكاد أن يتذكر أي أحد الآن أفعال أخرى مشابهة: سحق إضرابات بتروغراد في عام 1921، وإطلاق النار على العمال في كولبينو في نفس العام…
في بداية الثورة، كان كل من هم في قيادة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي هم من المثقفين المهاجرين، والذين عادوا بعد الاضطرابات التي اندلعت بالفعل في روسيا للقيام بالثورة الشيوعية. لكن أحدهم كان عاملًا حقيقيًا، وهو مشغل مخرطة ماهر للغاية حتى آخر يوم في حياته، إنه “ألكسندر شليبنكوف” – من يعرف هذا الاسم اليوم؟ إلا أنه هو الذي كان يعبر عن المصالح الحقيقية للعمال داخل القيادة الشيوعية. وفي السنوات التي سبقت الثورة، كان شليبنكوف هو الذي يدير الحزب الشيوعي بأكمله في روسيا وليس لينين الذي كان مهاجرا. وفي عام 1921، ترأس المعارضة العمالية التي اتهمت القيادة الشيوعية بخيانة مصالح العمال وسحق واضطهاد البروليتاريا وتحولها إلى بيروقراطية. لقد اختفى شليبنكوف عن الأنظار، حيث تم القبض عليه فيما بعد، ولأنه كان صامدًا ومؤثرًا على الأرض فقد تم إطلاق النار عليه في السجن؛ ربما لا يعرف معظم الناس هنا اسمه اليوم. لكنني أذكركم: قبل الثورة، شليبنكوف هو من كان رئيسًا للحزب الشيوعي الروسي، وليس لينين.
ومنذ ذلك الوقت، لم تتمكن الطبقة العاملة مطلقًا من المطالبة بحقوقها، وعلى العكس من جميع الدول الغربية، فإن طبقتنا العاملة لا تتلقى سوى الصدقات، ولا يمكنها الدفاع عن أبسط مصالحها اليومية، ويُنظر لدينا إلى أبسط إضراب بشأن الأجور أو تحسين الظروف المعيشية على أنه ثورة معادية. وبفضل طبيعة النظام السوفيتي المغلقة، ربما لم تسمعوا أبدًا عن إضرابات عمال النسيج في عام 1930 في إيفانوفو، أو عن الإضطرابات العمالية في عام 1961 في موروم وألكسندروفو، أو عن انتفاضة العمال الكبرى في نوفوتشركاسك عام 1961 – في زمن خروتشوف، بعد فترة الذوبان المزعوم. وسوف أسرد قصة هذه الانتفاضة بالتفصيل في كتابي “أرخبيل غولاغ” – إنها قصة تتحدث عن ذهاب العمال في مظاهرة سلمية إلى مقر الحزب في نوفوتشركاسك، حاملين صور لينين، للمطالبة بتغيير الأوضاع الاقتصادية. حيث تم إطلاق النار عليهم بالرشاشات وتفريقهم بالدبابات، ولم تتمكن أي عائلة حتى من انتشال جرحاها أو موتاها: إذ تم أخذهم جميعًا سرًا من قبل السلطات.
ولست بحاجة لأن أشرح للحاضرين هنا اليوم كيف أن بلدنا لم تحظى بنقابة عمالية حرة مطلقًا منذ أن اندلعت الثورة.
إن قادة النقابات العمالية البريطانية غير مقيدين في ممارسة اللعبة التافهة المتمثلة في القيام بزيارات لنقابات عمالية سوفيتية وهمية، وتلقي زيارات بغيضة في المقابل. بينما لم يستسلم اتحاد العمل الأمريكي أبدًا لمثل هذه الأوهام. كما لم تسمح الحركة العمالية الأمريكية لنفسها أبدًا بأن تكون عمياء وأن تخلط بين الحرية والعبودية. واليوم، نيابة عن جميع أبناء شعبنا المضطهد، أشكركم على هذا!
في عام 1947، عندما كان المفكرون الليبراليون والحكماء في الغرب من الذين نسوا معنى كلمة “حرية”، يقسمون أنه لا توجد معسكرات اعتقال في الاتحاد السوفيتي على الإطلاق، نشر اتحاد العمال الأمريكي خريطة معسكرات الاعتقال لدينا، وبالنيابة عن جميع سجناء تلك الفترات، أود أن أشكر الحركة العمالية الأمريكية على ذلك.
ولكن كما نعد أنفسنا بأننا حلفائكم هنا، يوجد أيضًا تحالف آخر سوف يبدو للوهلة الأولى بأنه تحالف غريب ومدهش، ولكن إذا فكرتم في الأمر، ستجدون أنه تحالف وثيق ويسهل فهمه: إنه التحالف القائم بين قادتنا الشيوعيون وقادتكم الرأسماليون.
إن هذا التحالف ليس بجديد، حيث أن “أرماند هامر” الشهير للغاية، والذي يحتفى به هنا اليوم، هو من وضع الأساس لهذا التحالف عندما قام بأول رحلة استكشافية إلى روسيا السوفيتية في عهد لينين في فترة السنوات الأولى من الثورة. وقد كان ناجحًا للغاية في مهمة الاستطلاع هذه، ومنذ ذلك الحين، ونحن نرى دعمًا مستمرًا وثابتًا يقدمه رجال الأعمال في الغرب للقادة الشيوعيين السوفيت طوال هذه الخمسيت عامًا. إن الاقتصاد السوفيتي الممزق والمتعثر، والذي لم يستطع استدراك صعوباته بمفرده، يتلقى باستمرار المساعدة المادية والتكنولوجية. حيث تم تشييد مشاريع البناء الكبرى في الخطة الخمسية الأولية حصريًا باستخدام المواد والتكنولوجيا الأمريكية. حتى أن ستالين اعترف بأن ثلثي ما كان مطلوبًا تم الحصول عليه من الغرب. وإذا كان الاتحاد السوفيتي اليوم يحظى بقوات عسكرية وبوليسية قوية – في بلد يتضور جوعًا بالمعايير المعاصرة – قوات تُستخدم لسحق حركتنا من أجل الحرية في الاتحاد السوفيتي – فليس أمامنا سوى الرأسمالية الغربية لنشكرها على ذلك أيضًا!
دعوني أذكركم بحادثة وقعت مؤخرًا ربما يكون بعضكم قد قرأ عنها في الصحف، وقد يكون البعض الآخر لم يسمع بها: إن بعضًا من رجال أعمالكم أقاموا بمبادرة منهم معرضًا لتكنولوجيا علم الجريمة في موسكو. وقد عُرضت فيه أحدث التقنيات وأكثرها تفصيلًا، تلك التقنيات التي تُستخدم هنا في بلدكم للإيقاع بالمجرمين، وملاحقتهم، والتجسس عليهم، وتصويرهم، وتتبعهم وتحديد هويتهم. تم عرض كل ذلك في موسكو ليتمكن عملاء المخابرات السوفيتية من دراسته، كما لو أن رجال الأعمال لم يفهموا أي نوع من المجرمين ستطاردهم المخابرات السوفيتية.
لقد سال لعاب الحكومة السوفيتية على هذه التكنولوجيا وقررت شراءها، وقد رغب رجال أعمالكم ببيعها أشد الرغبة. ولولا أن بعض الأصوات الرصينة القليلة هنا تثير بعض الضجة حول تلك الصفقة ويتم الغاؤها، لكانت مرت مرور الكرام. لكنكم يجب أن تدركون مدى ذكاء المخابرات السوفيتية، إذ إن هذه التكنولوجيا لم تكن مضطرة للبقاء أسبوعين أو ثلاثة أسابيع في مبنى سوفيتي تحت الحراسة المشددة، كانت ليلتان أو ثلاث ليال كافية للمخابرات لتقوم باستكشافها ونسخها. وإذ يتم اليوم اصطياد الأشخاص بأفضل وأكثر أنواع التكنولوجيا تقدمًا، فإنني أشكر الرأسماليين الغربيين على ذلك أيضًا!
إن هذا شيء يكاد لا يعقله العقل البشري: إنه جشع شديد للربح يتجاوز كافة الأسباب، وكل ضبط للنفس، وكل ضمير، فقط لجني الأموال!
يجدر بي القول أن لينين كان قد تنبأ بهذه العملية برمتها. لينين، الذي قضى معظم حياته في الغرب وليس في روسيا، والذي كان يعرف الغرب أفضل بكثير من معرفته بروسيا، كتب دائمًا وقال إن الرأسماليين الغربيين سيفعلون أي شيء لتقوية اقتصاد الاتحاد السوفيتي، وسوف يتنافسون مع بعضهم البعض لبيعنا سلعًا أرخص أسرع من بعضهم البعض جتى يشتري السوفيت من بعضهم بدلًا من الآخر. وقد قال: سوف يأتون إلينا بكل شيء دون أن يفكروا في مستقبلهم. وفي لحظة حرجة خلال اجتماع حزبي في موسكو، قال: “أيها الرفاق، لا داعي للذعر، عندما تشتد علينا الأمور للغاية، سوف نمنح البرجوازية حبلًا، وستشنق البرجوازية نفسها”.

ترجمة: غسان مازن

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s