الرأي السياسي المعاصر هو قبل كل شيء سلعة، وأنت البائع والمشتري والسلعة في نفس الوقت

الرأي السياسي المعاصر [رأيك أيضًا] هو قبل كل شيء سلعة، وهذا ما تستهدفه الشركات العالمية والتطبيقات التقنية لحظة بلحظة.

الخوارزميات المحفّزة للسلوك الاستهلاكي والتواصل، سواء هنا أو في الإنترنت بشكل عام، تفهم غرائزنا وتنجح في مخاطبة دوافعنا أفضل حتى من أقرب الناس إلينا ولسبب بسيط: سلوكياتنا اللاعقلانية ليست عشوائية وإنما هي منهجية ويمكن التنبؤ بها (.Ariely et al)، فالتشابك العصبي المتشابه داخل أدمغتنا قديم وأنماطه ثابتة ومحكوم بغرائز ووظائف تبلورت عبر ملايين السنين. وما تبرع هذه التطبيقات والمواقع في تطبيقه هو تحفيز ودغدغة أحد أعمق الغرائز البشرية: التواصل الاجتماعي مع الآخرين. لكن مع الآلاف في غضون ثواني ودقائق؟


هذا ما لم تستعد له أدمغتنا من قبل ولم تتدرّب عليه. ببساطة، التقنية أسرع من التطوّر نفسه حتى تتأقلم أدمغتنا معه، وبالتالي نحن ضحية تُفتَرس، انتباهنا ووقتنا القصير والثمين يُستَنزفان باستمرار حتى ندمن. وقدرة الدماغ على الاسترخاء والقراءة الطويلة واستهلاك المعلومات بهدوء لم تعد خيارًا متاحًا، بل عليك أن تعالج نفسك من أجله!
قدرة السوشيال ميديا والـ smart phone وتطبيقاته على تكبيل انتباهنا وجرّنا نحو الإدمان بهذه المهارة جعلتني أعيد النظر بكل الوسائل القديمة في طرح وتبادل المعلومات. السؤال الأهم لم يعد كيف، بل كم من الوقت أملك قبل أن يفقد القارئ، بل وحتى المهتم، صبره ويحفّزه انخفاض دوبامينه على البحث عن استثارة جديدة؟

لو تابعت نمو وانتشار الآراء السياسية منذ بداية الألفية الثالثة وحتى اليوم، قد تصل بنفسك لاستنتاج تسطّحها الفكري وتقويض المنطق فيها من أجل عواطف الجموع وكسب أكبر توافق اجتماعي ممكن. أنه الصراع على العواطف قبل أن يكون على العرش، فالعرش نفسه ديمقراطي، كعكة كبيرة موزّعة بين الجميع.
دعك من الاستنتاج نفسه، استفسر بنفسك [في حالة امتلاكك لوقت كافي] عن المنظمات الحكومية والحزبية والانتخابية حول العالم وكيف تدرس السلوك الانتخابي، الترندات السياسية، الرأي العام: ما هي معاييرهم؟ كيف تتغيّر آراء الجموع من شهر إلى آخر؟ كيف يؤدي تصريح أو حادثة ما إلى انقلاب تام في الأرقام؟

لا أظن أنه سيصعب عليك استيعاب فكرة نجاح التزاوج بين الليبرالية الديمقراطية والرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية. لاحقًا، عندما سقط جدار برلين في نهاية القرن الماضي، لم يكن للحلفاء [الناتو] أي رغبة حقيقية باجتياح ألمانيا الشرقية أو التدخّل العسكري فيها، على عكس ما خشيه القادة البارزين داخل الـ HVA [جهاز الاستخبارات الأجنبية في ألمانيا الشرقية]. في هذه الفترة كانت الثقة في اجتياح الغرب للشرق اقتصاديًا أحد أكبر الكوابيس السياسية التي خشيتها موسكو وبرلين الشرقية، بل تجاوزت حتى مخاوفهم من اندلاع حرب نووية بين الجانبين. لا تستغرب، يمكنك تخيّل الشركات الغربية الرأسمالية وهي تتسابق بأيام قبل سقوط الدولة نهائيًا على الانقضاض على انتباه وغرائز المواطن الشرقي ”المحروم“. الحظي بحقوق الإعلانات كان ومازال الهدف السامي والإبن البار من هذا الزواج الأيديولوجي؛ طبعًا لا ننسى تحت مسميّات تقليدية ناجحة كالحرية والانتخابات الحرة والديمقراطية. أظنك استهلكت هذه السلعة من قبل وتعلم جيدًا مدى تأثيرها في إشباع رغبة المواطن ”الحر“ بالحرية. حرية الاستهلاك المادي والإفتاء الفكري دون ضوابط وبعيدًا عن أي هرميات تفلتر الغثّ من السمين وتحفّز على العناء والتسلّح بالمنطق، لا تقويضه.

الرأي السياسي المعاصر هو قبل كل شيء سلعة: ولأنه لا يحتكم لأصول المنطق، يصبح رهينة للترند والماينستريم والـ Zeitgeist بشكل عام. وعندما تكون لطفلة بـعمر الـ ١٦ سنة تفتقر للتجارب في الحياة والاستيعاب اللازم لمشاكلها القدرة على عرض سلعتها السياسية كما يعرضها المليارات غيرها أونلاين ودون رقابة، وتلاقي هذا التفاعل الكبير [أرقام وklicks]، فهذا يجعلها سلعة برأسمال كبير، سلعة تستقطب المصادر، الانتباه وتحفّز الاستهلاك. ومن هنا نقوّض التجربة والحكمة والكفاءة من أجل إتاحة فرصة الاستهلاك للجميع [قوة شرائية]. الآن أضف إلى الوصفة بعض العواطف الجيّاشة والمغامرات الفنطازية بإنقاذ الكوكب: كل ما تحتاجه هو هاشتاگ، حساب على تويتر أو أي موقع آخر وصحفي يغطّي الخبر حتى يحتفظ بموقعه أو ”يطش، كما يقول العراقيون؛ go viral“.

من بين الكثير من اللغط الذي تركه أدورنو خلفه، إلا أنه أدرك مخاطر هذا الزواج وإن عجز عن أن تشخيص العلاج الصحيح وحاول إعادة اكتشاف العجلة بالعودة إلى هيگل، ماركس وفرويد. سأعود بدوري إلى استنتاجه واربطه بالتشخيص الواقعي.

كما نفهم من أدورنو ومن بعض رواد مدرسة فرانكفورت [مدرسة فلسفية مزجت بين الفرويدية والماركسية والهيگلية في بداية القرن الماضي، ولك أن تتخيل شكل الهجين]، في مجتمع تحكمه الثقافة الشعبية [اليوم: + الترندات] تصبح كل ثقافة سلعة؛ ويُعرَّف الفن بقيمته الاقتصادية، لا بالمعايير الجمالية التي تلعب دورًا في تحليل العمل الفني ودوافعه وأوجهه التعبيرية. وبهذه الطريقة تصبح القيمة الاقتصادية دالة الجمالية نفسها: السلعة.

حيث تظهر الصناعة الثقافية على أنها ضلال يضفي طابعًا طبيعيًا على العلاقات الاجتماعية للسيطرة عليها. التحليل هنا مفهوم ولوحظ في بادئ الامر في الولايات المتحدة وإنگلترا وبقية الدول التي انضمت إلى القطار الصناعي، أبرزها تلك التلي تخلّت عن أنظمتها الهرمية وانصاعت لموجة الدمقرطة.
هذا ”الاسمنت الاجتماعي“ يعمل كوسيلة للهيمنة والتكامل. التكامل فيه يأتي من ملاحظة أن الإنتاج دائمًا ما ينظّم الاستهلاك أيضًا. وهذا ما يجبر ”المثقفين“ أيضًا على إنتاج المعرفة التي تخضع لنسبة فائدة أو تنتج واحدة.
اليوم، وبواسطة تطبيقات كـ تيك توك وإنستگرام وغيرها، صار استهلاك المتع الزائفة والقصيرة ممكنًا بواسطة وسائط الإعلام والتواصل، بل وبالعشرات من المحفّزات في اليوم الواحد، ما يجعل الناس وخصوصًا الصغار في حالة من الانقياد لها بغض النظر عن ظروفهم المادية وقدرتهم الشرائية: وهل هنالك متعة أكبر من تبذير أموال ليست بحوزتنا بعد؟

الخطورة تكمن في أن هذه المحفّزات تستهلك انتباهنا بشراهة وتستنزف وقتنا بشكل محبط وتافه، بل أنها تخلق حاجات نفسية نعجز عن إشباعها إلا من خلال الاستهلاك مجددًا. والأسوا أنها تعطّل القدرة على التأمّل في الأمور والأحداث واتخاذ القرار الصائب وسط الفوضى والضجيج والتسارع التقني. بل تقف كعائق بيني وبينك، فوقتك وانتباهك تدرّبا على الفيديوهات والمقاطع القصيرة، واستهلاك المعلومات الطويلة والأخبار السريعة، ولا يمكن لي أن أنافس أي محفّز دوباميني آخر سيحظى بانتباهك بعد قليل. لا تعلم، ربما تقرأ عنوانًا دون الحاجة لقراءة المقال نفسه ومصدره، وبالتالي تضيف لخزينك السياسي ”معرفة“ جديدة خلال ثواني فقط. صدّق بهذه السرعة وبهذه ”الكفاءة“ يحصد مثقفي اليوم والـ SJW والـ Influencers إرثهم الفكري والمعرفي. لكن على ما يبدو، هذا ما يتطلّبه عصرنا لكي تتثقّف.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s