مراجعة تاريخ قصير للبشر الجزء الثاني

‘المأزق المالتوسي’

قبل أن نفهم ما هو [ المأزق المالتوسي ] يجب معرفة  [ التفضيل الزمني ] .

يُعرف هوپه التفضيل الزمني كالآتي : “تكون السلع الحاضرة أعلى قيمة دون شك من الآجلة، ونحن لا نقايض الحاضرة بالآجلة إلا لسعرٍ أعلى . و لكن الدرجة التي تفضّل بها السلع الحاضرة على الآجلة، أي الاستعداد للإدخار، يختلف من شخص لآخر و من نقطة زمنية لأخرى . واعتماداً على مدى تفضيلاته الزمنية ” ¹ 

و يعني ذلك، أن الصيّاد عندما أراد أن يصيد أكبر كمية من السمك؛ صنع شبكةً  . و عندما أراد بناء مأوى ؛ صنع فأساً . 

 و بالتالي لا يستطيع صنع ( فأس أو شبكة ) إلّا عن طريق  الإدخار .  فالأمر يتطلب وقتاً كي يبني سلعة منتجة و هنا فضّل الصياد التضحية بالوقت من أجل صُنع ( شبكة ) لأنّه علمَ أنّ قيمة الاستهلاك أكبر في المستقبل . بدلاً من أن يصيد سمكة واحدة كل يوم، استطاع أن يصيد عشرات الاسماك عندما قضى وقتاً طويلاً في بناء شبكة . 

الآن نفترض أن ذلك الصيّاد يرافقه شخص آخر يتفوق عليه بمميزات معينة سيكون الناتج الإجمالي للسلع أعظم ممَّا لو بقي كل منهما منعزل عن الآخر . و هذا المبدأ يعبر عنه هوپه [ المشاركة في توزيع العمل ] .

لكن المشكلة التي تواجههم هي زيادة حجم السكان التي تؤدي إلى انخفاض الدخل الفردي، و إذا انخفض عدد السكان سيقل الدخل أيضاً لأنّ توزيع المهام سيقل . 

الحل يكمن في أن يبقى عدد السكان ثابتاً .

كيف يبقى عدد السكان ثابتاً ؟ 

يقول هوپه ” فالسبيل الوحيد النمو السكان دون تناقص يصاحبه في الدخل الفردي هو استغلال مزید من الأرض ( وربما أرض أفضل ) . ” ²

و هذا هو [ المأزق المالتوسي ]  الذي يصفه لودفيغ ڤون ميزِس ..

 ” إن الضبط الهادف لمعدل الولادات مع موارد الإمكانات المادية للرفاه، يمثل شرطاً ضرورياً للحياة و الفعل البشري، للحضارة ، و لكل تحسّن في الثروة والرفاه … و حين تعيق مستوى المعيشة المتوسط زيادة مفرطة في تعداد السكان، تظهر صراعات مصالح لا حل لها . فيعود كل فرد عدواً لكل الأفراد الآخرين في صراع لأجل البقاء، و تصبح ابادة الأعداء الوسيلة الوحيدة لزيادة الرفاه الشخصي … و في ظلّ الظروف الطبيعية، لا يملك الإنسان غير حرب الكل ضد الكل بلا هوادة، أو التعاون الاجتماعي . و لكن التعاون يصبح محالاً لو أطلق الناس العنان للدوافع الطبيعية للتكاثر . ” ³

إنّ العلاقة طردية بين زيادة حجم السكان و بين الاستحواذ على المزيد من الأرض الزراعية . 

يشرح هوبة هذه العلاقة :

 ” تلك المكاسب  الاقتصادية كانت تستهلك بسرعة بفضل تعداد متنامٍ يكتسح موارد القوت المتوفرة، ويقود للاكتظاظ و ظهور ( عينات زائدة العدد ) لا مكان لها في توزيع العمل، و بالتالي وجب عليها إمّا أن تموت في صمت أو تصبح تهديداً أو  «شراً» اقتصادياً على هيئة متسولين، مشرّدين، نهّابين، قطّاع طرق أو محاربين . 

و لـهذا، و خلال معظم التاريخ البشري، فقد سيطر القانون الحديدي للأجور . حيث ظلت الدخول و الأجور لصيقة بحد الكفاف، بفضل وجود طبقة معتبرة من العينات زائدة العدد ” ⁴

كيف الخروج من [ المأزق المالتوسي ] ؟ 

يقول الليبرتاريون و على رأسهم ميزِس و روثبارد :

 “لابدّ من وجود بعض العوائق المؤسسية، و بالأخص حماية غير كافية لحقوق الملكية الخاصة، هي ما منع من التطور الأسرع” .

يبدو أنّ هذا التفسير كان خاطئاً بالنسبة لهوپه، فقد قدّم تفسيراً بديلاً :

 “لم يخرج البشر من المأزق المالتوسي لأنّ الرجال، كما أشرنا من قبل، لم يستطيعوا ضبط أنفسهم عن الجنس . و لو فعلوا لما وُجد أيّ فائض سكاني . لكن ذلك سيظل جزءاً من الإجابة فقط . ذلك أنّ ضبط السكان يمكن أن يمنع الدخول الواقعية من الهبوط، لكنه لا يستطيع دفعها للصعود ” ⁵ 

بالإضافة إلى ذلك يقول : “فقد كان مهماً للنجاح في الزراعة أن يمتلك المرء درجة ما من الوعي العددي کي يحسب، يقيس، و يقارن . و قد تطلب الأمر ذكاءً للتعرف على ميزات توزيع العمل داخل الأسرة و التخلي عن الاكتفاء الذاتي و قد تطلب قدراً من إجادة الكتابة كي تصمم العقود و تؤسس العلاقة التعاقدية . كما تطلب الأمر بعض المهارة في التدقيق المالي و المحاسبة بهدف النجاح الاقتصادي” ⁶

لم يعد هناك أيّ تطفل كما كان الحال في ظروف الصيد و الجمع  و بسب التفاوت الاجتماعي، أي إختلاف المهارات بين مزارع و آخر و نتيجة الظروف البيئة بين كل منطقة .

يقول : ” فكلما كانت البيئة أشد تحدياً، تزايد الثمن الذي يفرض للذكاء كشرط للنجاح الاقتصادي، و من ثم التكاثري . و لهذا فإن نمو الذكاء البشري يكون أبرز في أقسى المناطق الشمالية إجمالاً، وفقاً للتاريخ التي استوطنها البشر” ⁷

و “بإزاء هذا المخطط العام للبيئة و الجغرافيا البشرية، التي يعدل عليها و يزيدهاً تعقيداً وجود سلاسل الجبال، الأنهار، و المسطحات المائية، يتضح لنا السبب في أن الانتقاء الطبيعي لذكاء أعلى بين الصيادين الجامعين سيكون أبرز كلما اتجه المرء شمالاً ( أو جنوباً ) نحو أبرد مناطق الاستيطان البشري . لا شك في أن قدراً معتبراً من الذكاء كان مطلوباً من البشر كي يعيشوا بنجاح في المنطقة المدارية . ولكن الثبات شبه المتزن للمنطقة المدارية مثل قیدة طبيعية على المزيد من التقدم الذكاء البشري . فلأن كل الأيام كانت تشبه بعضها في المنطقة المدارية، لم تكن هناك حاجة كبيرة لدى أي شخص لأخذ أيّ شيءٍ بالاعتبار في أفعاله عدا محيطه المباشر، أو التخطيط لأيّ شيء أبعد من مستقبله القريب العاجل . و في تضاد واضح، فإن تفاوت الفصول المتزايد في المناطق غير المدارية أنتج بيئةً أشد تحديا للعقل” ⁸

في قرابة 11 الف سنة كان كل تقدم تقني مهم قد ظهر قد ظهر في المناطق الشمالية أي أوربا في المعظم و في حالة الخزف في  اليابان  أمّا الأدوات في المنطقة المدارية ظلت دون تغيير . 

و بتعبير هوپه أنّ التأخير للخروج من المأزق المالتوسي الذي  حدث كل هذا الوقت

  هو : ” أن البشر ببساطة لم يكونوا أذكياء بما يكفي لتحقيق زيادات في الإنتاج تستطيع دوماً أن تتجاوز نمو السكان . فلابدّ من الوصول أولاً لمستوى الذكاء المتوسط و الاستثنائي کي يصبح ذلك ممكناً، فقد استغرق ذلك وقتاً ( حتى قرابة عام 1800 ) حتى «يتولّد» هذا المستوى من الذكاء . و يمكن لهذه النظرية أن تفسر حقيقة مدعمة و معززة جيداً في أبحاث الذكاء، و لو أنّها تظل متجاهلة بإصرار -بسبب الصواب السياسي- أنّ معدل ذكاء الشعوب ينخفض تدريجياً كلما اتجه المرء من الشمال إلى الجنوب (من حوالي 100 نقطة أو أكثر إلى حوالي 70 في أفريقيا جنوبالصحراء ) . وبنحو أخص ، يمكن لهذه النظرية بهذا النحو أن تفسر لماذا ظهرت الثورة الصناعية ثم هيمنت فوراً على بعض المناطق -الشمالية عموماً- لا على غيرها، ولماذا كان هناك دوماً فروق مناطقية ثابتة في الدخل، و لماذا أمكن لهذه الفروق أن تزداد ( و لا تقل ) منذ عصر الثورة الصناعية ” ⁹

ما هي التداعيات التي يواجهها هذا المخطط ؟ 

1- أن نظرية التطور الإجتماعي تنطوي على انتقاد المساواتية و تثبت أن للفروق البشرية مصادر بيولوجية و فطرية على عكس ما يظن باقي الاقتصاديين أنّ هذه الفروق نتيجة الظروف الخارجية المختلفة .

2 -في ظلّ الظروف المالتوسية لا تكون الدولة مهمة جداً . فالدولة الأكثر استغلالية تؤدّي إلى عدد سكان أقل و بالتالي دخل فردي أقل . 

فإن مؤسسة استغلالية كالدولة يمكن أن تنمو باستمرار دون أن تخفض الدخول الفردية و تقلص عدد السكان . و من ثَمَّ ستصبح الدولة عائقاً دائماً للاقتصاد و الدخول الفردية . 

 3- في الظروف المالتوسية ينتج الأنجح اقتصادياً مزيداً من الذرية .

أمّا في الظروف ما بعد مالتوسية، فالمعاقون اقتصادياً ينتجون ذرية أكبر بوصفهم الزبائن الأهم للدولة الديمقراطية و على العكس فالناجح اقتصادياً ينتج ذرية أقل . 

_______________

1/  ص 81

 2/ ص 83 

3/  ص 83 

4/  ص 90 

5/  ص 92 

6/  ص 97

7/  ص 98 

8/ ص 103

9 / ص 105- 106

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s