أنا أرفض اعتبار الذكورية [أيديولوچية] بالمعنى الأكاديمي للكلمة، أو التنظير لها إنطلاقاً من اعتبارات مشابهة وقريبة.
بدايةً، الأيديولوچية/الأدلوچة أو كما يشطح بعض الناطقين بالعربية في تَّعْريبها بـ”الفكرانية/الفكروية”. يتفق في تعرفيها زُمرة من أكاديميّ اللغة بأنها: “النسق الكُليّ للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة”.
فلِمَ التوجس والرفض التام لاعتبار الذكورية -بوصفها سلوك اجتماعي- أيديولوچية؟
- ببساطة شديدة، هناك منظومة قيم ومفاهيم وسلوكيات “طبيعانية” في العالم لا يجب وأن تخضع لمعيارية الـ”أيدولوچية” كالذكورية مثلاً.
حيثُ السبب في ذلك يمكن خلف القياس المعياري من خلال: التصويب والتخطيء والمعالجة. كعمليات تتصف شرطاً على كل نسق سلوكي/فكروي/اعتقادي ينطلق من إطار الإيديولوچية.
من هذا الأساس العادي ظاهرياً “شرير النوايا”، تم التحضير لأهم وأشرس وأخبث هجمة تاريخية تلقتها “الأبوية البطريرگية” من قِبل فلاسفة عصر التنوير، وأعني شلة العواطلية اليسارية الفرنسية.
حيثُ كل التفرعات النقدية الناقمة على الذكورية ما هي إلا تفاصيل نتجت عن هذه الهجمة.
حريٌّ بالذكر أن اليسار حينها كان ذكياً، وعدوٌ يَعرف من أين تؤكل الكتف مقارنة بقطعان الغباء والكُتل الدهنية التي تتصدر المشهد اليوم.
يبدأ الأمر بتوضيع منظومة قيميّة سامية نشأت طبيعانياً عند شروع تفتّق وعي الرجال الأوائل لأدوارهم التطورية، فضلاً عن تنصيب الهرمية بين الأفراد على أتم وجه، خلّصَ بدوره إلى تفجر حضاري مذهل بشتى بقاع العالم والعصور.
الذكورية كما لخصها المُنظر والسياسي الإنگليزي السير؛ Robert Filmer في كتابه پاتريارتشا [Papatriarcha] أو “البطريرگية” هي الحضارة بأمِ عينيها. إذ كل إتّقاد حضاري وارتقاء تاريخي لجملة جماعة عرقية أو إثنية سمعنا به وحضر في تراثنا السردي لا يتم استحضاره بمعزل عن الذكورية. وفي ذلك الشأن سيال من المراجع والمؤلفات لا يعيها إلا أولي الألباب..
عودةً لِما قُلنا، يبدأ الأمر بموضعة منظومة سامية من القيم/السلوكيات من المطلقات الاجتماعية تحت منظار الاختبار والتنظير الأكاديمي، أي جعلهُ متاحاً للخوض فيه حسب الأهواء بواسطة من هبَّ ودبَّ، بعدما كان عصيٌّ على العوام بوصفه حَرَم/عمادُ الدولة.
فلا عجب أن كل الأحداث التي رافقت ما يجب التعبير عنهُ بـ “دس السم بالعسل” تجاه الذكورية هو ما دفع إلى سقوط مفاهيم مؤسساتية عتيقة عتق التاريخ كالملكية الخاصة والهرمية الاجتماعية.. إلخ، بالتّقَادُم!
مُجتمع النُقاد واللُغويين سيفهمون ما أعمدُ إلى قوله. فاليسار التنويري قبل حوالي خمسة إلى أربعة قرون تقريباً عندما اعتبروا “المساواة” هي البديل الأمثل والأرقى للهرمية لم يبادروا بتسرع وصبيانية صوب صدام التأسيس الاجتماعي آنذاك، بل تناولوها بشكلٍ ينزع الهالة القداسية عنها بتأني، مُدركينَ إلى ما سيؤول عليه الحال بعد قصهم الشريط.
كل ذلك يتخفى خلف لفظ “أيديولوچية”، والتي وإن أعدنا صياغتها بواقعية أكثر فستكون: هي القدرة على تحويل القيم والمفاهيم المطلقة إلى نسبوية، والطبيعيات إلى وضعيات”.
في النهاية، وعبرَ ملاحظات بسيطة وقراءات سريعة هُنا وهناك إزاء الخطاب المسيطر حالياً في الأكاديمية الغربية يتّضح لنا أن ورثة المساواتية يسلكون مسلك المراقبة والعقاب في ترهيب وتجريم كل من يفكر بتناول منتجات الحداثة من وجهة نظر مُعادية من باب تجنب السياب الذي وقع فيه خصومهم فيما مضى.
إذ يدفعون بكل ما يملكون من خلال وسائل قمعية وإقصائية: كالصوابية السياسية، والعنصرية، ومعاداة السامية.. إلخ. التي طالت عُلماء وكُتّاب بأسرهم؛ لسد الطريق أمام أيّة عملية تصحيح جادة مُمنهجة.
وها هم اليوم يمضون قدُماً لتكريس مبادئ العلموية عابرة الحدود وما بعد الحداثوية، كمُسلمات مُقدسة لا مساس فيها.
هذه الرغبة الشمولية الجامحة بتأطير مجموعة من المطلقات الجمعية، أشبه بإعادة تدوير التاريخ القيمي الإنساني، ولكن بنسخة تُعد الأكثر تشوهاً وإنحداراً وتخلُفاً منذُ اختراع العجلة.