الرجل الذي تكهن بأحداث 2020

 

كتبها: آريس روسينوس، مراسلُ حرب و طالب دكتوراة في العلاقات الدولية

ترجمها للعربية: أحمد سعدون
مراجعة: محمد المشاري

هل لاحظَ أحدُكم كتابَ غيوم فاي على رف مكتبة مايكل غوف؟

بماذا يتشارك كلٌ من مايكل غوف Michael Gove و حركة آزوف الأوكرانية Azov ؟ يتبادر إلى أذهاننا أنه القليل ليس إلّا . بالتأكيد هناك تشابه بسيط جداً بين الأعمال المنشورة لرجل الدولة المحافظ الليبرالي غوف و بين فِكر مجموعة مسلحة -أقرب ما تكون إلى اليمين من أيّ تيارٍ يميني شعبوي و التي تحاول إن تمد جذورها في مؤسسات الدولة الأوكرانية- من ضمن هذا التشابه ، إلمامُهم بأعمال المفكر اليميني المغمور غيوم فاي Guillaume Faye.

 

إن الهستيريا التي اندلعت مؤخراً على منصة تويتر و التي أثارتها سارة فاين Sarah Vine زوجة مايكل غوف بمشاركَتِها صوراً لمكتبة العائلة، ممكن أن تكون مجرد مناوشات عبثية في الحرب الثقافية، لكنها أظهرت بوضوحٍ شديد أن من نَصَّبوا أنفسهم رقيبين على شبكة الإنترنت لا يمتلكون أدنى إلمام بالفكر السياسي الذي يتوقون إلى محوِه من هذا العالم .

 

بِصَبِّ جامِّ غضبهم على غوف لإمتلاكه كتاباً لـ ديفيد إيرفنج David Irving، فإن أوين جونز Owen Jones و غيره من مفكري تقدميّة تويتر الالمعيين قد غَضّوا الطَرْفَ عن كتبٍ مثيرةٍ للإهتمام امتلكها غوف من بينها أعمال غيوم فاي و شريكه في تيار اليمين الفرنسي الجديد آلان دي بنوا Alain de Benoist. قد يعتقد المرء إن الإحتكاك مع الفكر السياسي لأقرب جيراننا الأوروبيين سيكون على الأقل مدعاة لإهتمامهم إن لم يكن قبولهم، لكن هناك القليل مِن الحركات السياسية مَن تُشابِهُ الليبرالية البريطانية المتأخرة في إنعزالها و جمودها الثقافي .

إن اليمين الفرنسي الجديد [بالفرنسية  Nouvelle Droite] بدأ في أواخر الستينات من القرن الماضي كحركة لصياغة مسار جديد للفكر الاوروبي المحافظ، رافضة الهيمنة الثقافية لكلّ من الماركسية حينها و الأطلنطية Atlanticism المتبعة من قبل التيّار اليميني السائِد.

 

كانت مجموعة GRECE [اختصار مجموعة البحث و الدراسة في الحضارة الأوروبية بالعربية] بوصفها مجمع التفكير لليمين الفرنسي الجديد قد وضعت لنفسها، و لو لفترة من الزمن، موطئ قدم مؤثر على المسرح السياسي الفرنسي متأثرةً بكل من الثورة المحافِظة في ألمانيا ما قبل الحرب، بالأخص فلسفة التشاؤمية الحضارية  لـ أوزوالد سبينجلر Oswald Spengler، أعمال كارل شميت

Carl Schmit المتضَمِنة نقداً بلا هوادة للديمقراطية الليبرالية و بكتابات إيرنست يونجر Ernst Junger المعقدة و صعبة الوضع في قالب معين.

 

لكن في سنة ١٩٧٩ تم إلغاء مجموعة GRECE بتأثير حملة شعواء من النقد اللاذع في صحيفة Le Monde الليبرالية الفرنسية التي إتهمت المجموعة بكونها مجموعة دخيلة تهدف إلى التغلغل في أوساط المؤسسات المحافِظة بالأخص صحيفة Le Figaro، بغية حرفها عن مسارها إلّا أنها بالرغم من هامشيتها في السياسات الانتخابية، فقد استحوذت مجموعة GRECE على نفوذ في وسط الميتا-سياسة Meta-Politics بما يسمى اليمين الغرامشي Gramscian Right [نسبةً الى الفيلسوف الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي Antonio Gramsci]، منطلِقةً من فِهمِها للسياسة بكونها تجري مَجرى الثقافة، فإن حركة اليمين الفرنسي الجديد سعت للتأثير على جيل جديد من مفكري اليمين لرفض الفكرة الشائعة عن الفكر المحافِظ و الفكر الليبرالي من وجهة نظر بعيدة تماماً عن تقسيمات اليمين-اليسار المعتادة .

ان حركة اليمين الفرنسي الجديد قد رفضت هيمنةَ بما وصفته بالإمبريالية الأمريكية على القارة الأوروبية؛ التي نشرت الرأسمالية و الليبرالية عبر أرجاء العالم من خلال الجمع المبتذل و البلطجي بين القوة الصلبة و القوة الناعمة، مدمِرةً المجتمعاتِ الفردانية و مُحوِّلةً العالمَ إلى مزيج هلامي/ غامض من الأفراد المستهلكين المنقطعين عن ثقافاتهم .

بتحمّسهم المبكِّر لأعمال كريستوفر لاش Christopher Lasch، و نقدهم لطبقةِ النُخب العولميّة الناشئة، فإن اليمين الفرنسي الجديد و بطريقة ما قد تنبأ بالنزعة الحالية نحو أفكار ما بعد ليبرالية في كلٍ من الولايات المتحدة و أوروبا، على الرغم من أنهم إتبعوا خطاً فكرياً في إتجاه آخر تماماً .

 بدعم فعّال لحركات التحرير الوطنية في دول العالم الثالث و استنكارٍ للعولمة لما فيها من تأثيرات التجانس الثقافي [التجانس الثقافي هو أحد جوانب العولمة و يعني إلغاء الحواجز الثقافية] و إطلاق التحذيرات العاجلة من الإنهيار البيئي الوشيك؛ تنبّأ دي بنوا و فاي بهذه الحركة المضادة للعولمة التي انتشرت في هذه الألفية، قبل أن تتحول لاحتجاج سلعي- مزيّف .

 

و بصورة مماثلة فقد تكهنوا أيضاً بقِسم كبير من خِطاب اليمين الشعبوي هذه الأيام، محذِّرين من أن الهجرة الكبيرة إلى أوروبا ستؤدي حتماً إلى صراع عرقي و هجماتٍ إرهابية مخلفة ضحايا كثر و كذلك من خلال شجبهم للأفلاس الأخلاقي و الروحاني للعولمة و الكونية cosmopolitanism، إلّا أنهم كانوا يدْعون بإتجاه توحيد أوروبا و روسيا في قوة حضارية عظمى واحدة رافضين علناً لما كانوا يرونه: فكراً قومياً ضيّق الأفق .

ولسوء حظ مراقبي الانترنت، هنالك القليل من الأدلة على تأثّر أفكار غوف السياسية الشخصية باليمين الفرنسي الجديد لكونه معادياً في العلن للأميركا، للرأسمالية و للعولمة، و مسانداً لتوحيد قارة أوروبا، في الحقيقة يمكن تتبع العديد من آثار الفكرية لليمين الفرنسي الجديد بصورة أكثر تجلياً في سياسيين أوروبيين مثل ماكرون و أوربان أكثرَ من أي شخصية بريطانية .

من الممكن تتبع مخاوف اليمين الفرنسي الجديد بخصوص الارهاب الاسلامي الناتج من الهجرة إلى اوروبا في كتاب غوف سيليسيوس ٧/٧ إلّا أن هنالك اختلافاً كبيراً بكون هذا الكتاب يقارِن بين الجهاديّة العالمية و التقاليد الليبرالية الغربية التي يحثنا غوڤ على الدفاع عنها، بينما يرى مفكروا اليمين الفرنسي الجديد أن الليبرالية هي أصل المشكلة، و الجهاديّة -كطبيعة- هي استجابة و رد فعل هؤلاء الدخلاء ثقافياً للقيم الليبرالية .

 

و على العكس من غوف و كتابه القائم على بشكل راسخ على التقاليد الليبرالية الغربية، فإن غيوم فاي يحاكي الايدلوجيّات الإسلامية  في إعتقادها المؤكِّد على أن صعودَ تيارِ الاسلام المتطرِّف هو رد فعلٍ عنيف لما يُراد فرضُه من كونية حداثيّة على بقية بقاع العالم من قَبِيل: الفردانية الإلحادية و ثقافة الماديّة و ضياع القيم الروحانية و طغيان العروض و المناظر .

 

من بين كتابي غيوم فاي المتواجدان على مكتبة غوف و كلاهما تم نشره من قبل دار اركتوسArktos للنشر في لندن و التي تعد من أهم ناشري الفكر اليميني المتطرف في اوروبا، يبرُزُ جلياً كتاب المستقبَليّة-العتيقة Archaeofuturism و هي مجموعة مقالات نشرت في أواخر التسعينات من القرن الماضي وتم إعادة نشرها ككتاب، حيث تَبنَّى فاي نظرةً متشائمةً عن عصرنا الحالي [و هو ما تحقق الآن] في حين كانت الايدلوجيا الليبرالية تعلنُ خاتمة التأريخ و يُطمئِن السياسيون ناخبِيهم بأن العولمة ستؤدي إلى فترة لامتناهية من الوئام و الإزدهار العالمي .

 

فاي توقع أنه بحلول عام ٢٠٢٠ و نتيجةً للهشاشة المتأصلة في النظام السياسي و المالي العولمي، ستصاب الحضارة بمجموعة متسلسِلة من الأزمات المترابطة  فيما بينها على شكل موجات من الجوائح المَرَضية و الاضطرابات السياسية و سقوط الدول في الشرق الأوسط و أفريقيا و انهيارات اقتصادية و بيئية، مؤديةً بمجموعها إلى زيادة الضغوط على النظام العالمي المُشَكَّل في أواخر القرن العشرين إلى الحد الذي تستحيل إدامته.

 

و يقول فاي في كتابه : “سلاسل من الأحداث الدرامية تجري الآن بإتجاهٍ متقارب كالروافِد التي تصبُّ في نهر واحد و ستجتمع بإنتظام تام نهاية المطاف في نقطة الانهيار بين عامي ٢٠١٠ و ٢٠٢٠ حيث ينغمس العالم في فوضىً ذاتِ تأثير مريعٍ على العالَمِ بأجمعه و منها سينبثقُ نظامٌ جديد ( المستقبلية-القدمية Achaeofuturism) كفكرةٍ عن العالم في عصر ما بعد الكارثة.”

 

إن مخاوفَ فاي هذه بخصوص “تجمع الكوارث” كما سمّاها، تبدو في وقت كتابتها غريبة و بعيدة عن الشائع -مقارنةً بوضعنا الحالي حيث اثبتت صحتها- لأن كتابه هذا صَدرَ قبل أحداث ١١ من أيلول و قبل الضائقة المالية العالمية الأخيرة و الحروب الدموية التي رافقت الربيع العربي و جائحة كوفيد-١٩ لكن الوعي باحتمالية الكوارث العالمية قد ازداد منذ مطلع القرن الحالي و بدأ يتسلل إلى الفكر الاستراتيجي المنتشر، غالِباً بوجود التغيُّر المناخي في الواجهة بينما مخاوف فاي الأخرى رُكِنت خلفها كعواقب ثانوية.

وفي ورقة بحثية بعنوان عصر العواقب Age of Consequenses  نُشِرت في عام ٢٠٠٧ بجهود مشتركة بين مركز الدراسات الاستراتيجية و الدولية و المركز الأمريكي لمجمع التفكير في الامن الأمريكي الجديد، أُعيد ذكرُ تحذيرات فاي- بحذافيرها- والتي تَحمِل طابعَ نهاية العالم محذرين من ان التغير المناخي الشديد سيقود قسرياً مئات الملايين إن لم يكن المليارات من البشر للانتقال من المناطق الأكثر تضرراً و بالتالي انهيار الديمقراطية الليبرالية في بقيةِ أرجاء العالم، كذلك الانتشارُ الجامِح للجوائح و الإرهاب الجهاديّ و اندلاع الحروبِ داخل الدول و ما بينها في وقت إنهيار النظام العالمي .

 

هذا التقرير يحذر “ان في خِضَم هذا السيناريو سيجتاح الأممَ قدرٌ هائل من التغييرات و التحدّيات المضرة مثل جوائح الأمراض بينما التماسك المجتمعي الداخلي للأمم -من ضمنها الولايات المتحدة- سيكون تحت وطأة ضغط شديد نتيجة الزيادة المضطردة للهجرة و التغيُّرات في أنماط الزراعة ووفرة المياه إضافةً إلى غمر المجتمعات الساحلية بالتحديد في هولندا ، الولايات المتحدة، جنوب آسيا و الصين سيكون من شأنه ضعضعة الهويات المناطقية و الوطنية.و الصراع الأمَمي المسلح على الموارد مثل نهر النيل و روافده محتملٌ و الحروب النووية أيضًا واردة الحدوث ، أضف إلى ذلك التبعات الاجتماعية التي تتراوح ما بين الإحتِدام الديني و الفوضى العارمة. في ظل هذا السيناريو فإن التغيُّر المناخي سيُنتج تغيُّراً مستديمًا في علاقة الجنس البشري بالطبيعة.”

 

يكرر التقرير تحذيرات فاي “إن في هيكل النظام العالمي المُستَجِدّ، سيكون التنبوء و التفكير مستحيلاً بكل جوانب الحياة الوطنية و العالمية التي ستتأثر به لا محالة، كما أشار أحد المشاركين بقوله “ان التغيُّر المناخي الجامِح سيجعل من العالم مشابهاً لما صَوَّرَه ماكس المجنون Mad Max : أشدَّ حرارةً و من دون شواطئ بل حتى أكثرُ اضطراباً” .

 

قد يبدو هذا الوصف متطرِّفاً لكن التمحيص المتأني و الدقيق في كل العواقب المحتملة المرافقة لتغير المناخ العالمي سيكون مثيراً للهلع بشكل كبير . هذا الانهيار و الفوضى المصاحبة لتغيُّر مناخي شديد سيضعضع كلَ جانبٍ من جوانب الحياة المعاصرة من الناحية النظرية و التجربة الوحيدة التي يُمكِن المقارنةُ بها للعديد من أعضاء هذه المجموعة هي ما تمَّ التفكير به كأعقابٍ للحرب النووية بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي فيما لو حدثت إبانَ توتُّراتِ الحرب الباردة” .

 

و في السنة الماضية ليس إلّا، حيث حذر متنبِّئ استرالي معروف من انه إلى حد هذه اللحظة، فإن نهاية العالم في المستقبل القريب شبه حتمية، واصفاً بَحثَه بكونه “لمحة عن عالم الفوضى العارمة على طريقٍ ينتهي بهَلاك الحضارة البشرية و المجتمع الحديث كما عهدناه، حيث ستكون التحديات من أجل أمنٍ عالمي -ببساطة- ساحقةً و يصبح الإضطرابُ و الذعر السياسي هو السائد” .

 

هذا و قد كُتِبت تكهناتٌ من قبل متنبئي الاستراتيجيات التابعين لوزارة الدفاع و البنتاغون، تشترك مع تكهنات فاي بكونها فظيعةً متشائمة مكتوبَةً بلغةِ قاتمة بلا رتوش و باستنتاجات تحذيرية ستُفْضي بقارئها إلى القلق .

 

وعلى صَعيد متصِل فإن الاتحاد الاوروبي قد رَبَط أيضاً بين التغيُّر المناخي و مجموعة متسلسلة من التحديات بخصوص الأمن العالمي التي ستهدِد بشِدّة كُلاً من النظامين العالمي و الاوروبي. ففي ورقة “الاستراتيجية العالمية لسياسة الأمن و السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي” لعام ٢٠١٦ و هي ورقة شاملة تتضمن مقارَبَة الإتحادِ القارّي للمستقبل القريب، حيث يؤكِّد استراتيجيو الاتحاد الاوروبي : ” نحن نعيش في وقت الأزمات الوجودية داخل الاتحاد و خارجه. إتحادُنا أصبَحَ تحتَ وطأة التهديد و مشروعنا الاوروبي ،الذي أفضى إلى سلام و ازدهار و ديمقراطية غير مسبوقين ، تتم مساءلته و التشكيك به. ففي الشرق ، انتُهِك نظام الأمن الاوروبي بينما ينتشر الارهاب و العنف في أرجاءَ شمال افريقيا و الشرق الأوسط و حتى في أوروبا نفسِها. النمو الاقتصادي لم يجاري تِعداد السكان في إفريقيا الى حد الآن و تتصاعد التوتراتُ الأمنية في آسيا بينما يسبب التغيُّر المناخي إضطراباً متزايداً” .

وفي الأسبوع المنصرم كتب رئيس وزراء بولندا و بروفيسور علم الإجتماع بيوتر غلينسكيPiotr Glinski في صحيفة وول ستريت جورنال مقالا من صفحتين حذَّرَ فيه من أن أزمة جائحة كوفيد هي لمحة عن مستقبلِ الانهيار الحضاري، مُشَبِّهاً بصراحةٍ عالمَ الغَربِ الحديث بالامبراطورية الرومانية في أواخر عصورها .

 

بينما كان التاريخ الذي حدده فاي بخصوص نهاية العالم هو بعقدٍ او عقدين من الزمن أبْكَرَ من التحذيرات العقلانية هذه إلا انه -ولسوء حظنا- يَتم التفكير برؤيته المتشائمة للمستقبل من قبل أعلى إستراتيجيي اميركا و اوروبا مرتبة .

 

ولعل الأكثر إثارةً للاهتمام هو حل فاي المقترح [المستقبلية- القِدَميّة] في كتابه الذي يحمل ذات العنوان ، و ليس تواجد الكتاب في مكتبة وزيرٍ محنكٍ في الحكومة البريطانية،حيث يقترح فاي بشكلٍ غير مُقنِعٍ -متأثرًا بالمُنَظِّر السياسي الأمريكي صامويل ب. هنتغتونSamuel P. Huntington – أن نظام العالم الحالي سيندمج في عدة تكتلات حضارية واضحة المعالِم: تكتل تسيطر عليه الصين، تكتل أمريكا الشمالية، تكتل أفريقيا جنوب الصحراء، وحدةاورو-سيبيرية، عالَم إسلامي كبير، أما بقية العالم فستتجمع في تكتل للمحيط الهادئ غير معلومة حدوده .

 

و ما إن يتحقق ذلك، سيكون العالم مهيأً لإعادة تنظيم شاملة للحضارات وفقاً  لـ “نموذج ثوري مبنيٍّ على اقتصادي اناني غير مساواتي Inegalitarian، سيُفرَض علينا بناءً على أسس تاريخية، لكن يمكن التنبؤ به و التخطيط له سَلَفاً .

 

يبدي فاي رأيه الذي يشاركه فيه الآن عددٌ كبير من الناس :” ان يوتوبيا التنمية و التطور بوجود عشرة مليارات من البشر هي غير مستدامة بيئيًا ” مقترِحاً نظامًا رهيباً لإعادة ترتيب العالم من الجدير ذكره هنا رغم طوله: “في البداية ستعود معظم البشرية الى إقتصاد العيش ما قبل التقنية معتمدين على الزراعة و الحِرَف و بتصميم

ديموغرافي يعود لنا من العصور الوسطى حيث ستسيطر حياة القَبَليّة و الجماعاتية Communitarian حتى في البلدان الصناعية مثل الهند و روسيا و البرازيل و اندونيسيا و الأرجنتين … الخ بالتالي عودة جزء كبير من السكان الى العيش في ظل هذا النظام الاقتصادي و الاجتماعي العتيق.”

و يؤكد فاي: ” هناك أقليةٌ من البشرية ستستمر بالعيش طِبقاً لنظامٍ اقتصادي علمي متطور مدعوم بالابتكار و مبنيٍّ على اساس ‘شبكة تبادل عالمية’ متكونةً من مليار نسمةٍ تقريبا.”

“وفي النهاية فأن هذه التكتلات الاقتصادية العتيقة-المجددة الهائلة ستكون ممتدةً على مستوى قارة واحدة او عدة قارات و من دون تبادل مشترك بينما سيكون القسم العلمي المتطور من البشرية هو الوحيد الذي لديه إمكانية الوصول للتبادل العالمي ، مُنتِجاً لنا عالماً ذا مُستوَين إثنين يجمع بين القِدَميّةArchaism و المستقبليّةFuturism . هذا القسم العلمي المتطور من البشرية لن يكون له الحق في التدخل بشؤون المجتمعات العتيقة-المُجَدّدَة التي ستشكِّل غالبية البشرية و الأهم من ذلك أنه لن يكون مُلزَماً بمساعَدَتِهم بأي شكل من الأشكال.”

يرسم فاي، في قصة قصيرة يذكرها في نهاية كتابه، صورةً حيةً -ان لم تكن غريبة- عن هذا المستقبل المقترَح حيث مجموعة صغيرة من نخبة العالَم التكنوقراطية تسعى جاهدةً وراء اكتشافات تكنلوجيّة و علمية بينما بقية سكان العالم تعيش في مجتمعات زراعية بمستوى تقنيات يمكن القول أنها مساوية لتقنيات العصور المظلمة .

 

و في سلسلة من قصص الخيال العلمي القصيرة واسعة الخيال التي يمكن عدّها جزءاً ثانياً لكتابه بعنوان المستقبليّة-القدمية ٢  Archaeofuturism 2.0 ، يُوسِّع فاي أفكاره بما يُضْفي إسوِداداً اكثر  على رؤيته للمستقبل حيث ستنجو بعض المجتمعات لمدة معينة من خلال التصدي للفوضى المنتشرة، محافظةً على التكنلوجيا البدائية من مطلع القرن العشرين لكن الظلام سينتشر بمرور الزمن و يُقضى على البشرية بأجمعها .

 

تكتبُ ستيفاني فرنسوا Stephane Francois مقدمةً أكاديمية رائعة عن حياة فاي و كتاباته في كتابها الصادر مؤخراً بعنوان أهمُّ مُفكِّري اليمين الراديكالي Key Thinkers of the Radical Right ، حيث تَذْكُر بأن كتاب المستقبليّة-القدمية يتضمن : “نبذ الحداثة الناشئة من التنوير و نبذ الفكر المحافظ، لأن الحداثة تنطوي على علامات واضحة من الانكسار بينما لا يؤدي الفكر المحافظ إلى شيء يذكر” . وتلخص فرنسوا فكرة فاي بقولها: “لتَجنُّب الانهيار الحضاري و البيئي فإنه -أي فاي-يقترِح نظاماً مستبداً يرعاه “قائد فِطري” ، دكتاتور صالِح يعرِف كيف يوجِّه شعبَه و يحمي هويتهم و جذور أسلافهم ” .

 

ربما يكون هذا هو سبباً من أسباب شعبيّة أعمال فاي بين صفوف حركة آزوف اليمينية المتطرفة في أوكرانيا بوصفها لواءً مسلحاً مناهضاً لروسيا في المناطق المتنازع عليها من شرق أوكرانيا و منضويةً تحت مظلة وزارة الداخلية الاوكرانية، كذلك توفر حفظ الأمن رسمياً بمباركة الحكومة و بصورة غير رسمية كمنافِسةٍ للدولة في مدن غرب البلاد .

 

في العام الماضي، بعد بفترة وجيزة من وفاة فاي، قمتُ بمقابلةٍ مع السكرتيرة الدولية لحركة آزوف أولينا سومينياكاOlenya Somenyaka في مقر قيادة الحركة القريب من الساحة الشهيرة في كييف ساحة الميدان الرئيسي. حيث أكَّدت سومينياكا على الدور الرئيسي لأعمال فاي في تطوير رؤيتها للعالم و هي محاطة برفوفٍ مملوءة بأعمال كُتّابٍ يمينيّين متطرفين من Ultra-Right لاقت رواجاً جديداً بين صفوف المحافِظين الاوروبييين المستائين . وفقاً للعالم الذي تراه سومينياكا و حركة آزوف، فإن أوكرانيا ستلعب دوراً مهماً كمنصة إنطلاق لإستعادة أوروبا مما تراه هي نظاماً تحررياً متهالكاً حيث ستقود أوكرانيا القارةَ نحو فجر وثني مستقبليّ-قدمي جديد Neo-pagan Archaeofuturist .

 

ربما يكون سببُ وجودِ كُتُبِ فاي على رف كتب مايكل غوف هو إكتسابها شهرةً غير مسبوقة بين صفوف مجموعة مسلحة قوية تتحدى الديمقراطية الليبرالية في أوكرانيا و وجود هذه الكتب جنباً إلى جنب مع الكتب الاكاديمية عن أوكرانيا المعاصرة .. يبدو أنّه يشير إلى إهتمام هذا السياسيّ بالتطورات الاجتماعية و السياسية في أوكرانيا، نظراً لنشر قواتٍ بريطانيةٍ هناك .

 

إن أكثر تحذيرات فاي سوداويةً لاقت بالفعل صدىً في السياسات البرلمانية البريطانية و لكن فقط من قبل حزب الخُضْر و بالتحديد من أكثر أعضاءه حنكةً، بروفيسور الفلسفة في جامعة إنجليا الشرقية و المتحدث بإسم حركة تمرد ضد الانقراض Extinction Rebellion  روبرت ريد Rupert Read الذي حذرَ بقوله: “نحتاج إلى التفكير بما سيحدث بعد الانهيار المتوقَع لهذه الحضارة و التخطيط تبعاً لذلك . بالتأكيد هناك احتمالات متفرعة في خضم هذا المستقبل الوارد حدوثه ، بعضها مروعٌ للغاية. فمن الممكن على سبيل المثال أن تكون الحضارة اللاحقة محكومةً إلى حد كبير من قبل أمراء حربٍ شديديّ العنف . يجب علينا ان نحاول قدر ما نستطيع تحضير أحفادنا للنجاة و ترجيح كفةِ أحدِ الإحتمالات الأفضل لهم” .

لكن من غير الواضح سبب وجود أعمال فاي على فهرس المعرفة المحظورة لكُتّاب أعمدة صحيفة الغارديان The Guardian حتى لو تقبلنا ان لهم حَقاً في تحديد ما يمكن و ما لا يمكن قراءتُه من الكتب، فعلى النقيض من ذلك، نَجِدُ أن قراءة سياسيينا المحنكين كتبًا سياسية مغمورة غير مألوفة أمراً مشجعاً بالنظر للزمن الذي نعيش فيه.

 

سواءً للأفضل أم للأسوأ، فإننا نعيش في عصر ربيع الأيديولوجيات (عصر المسوخ كما يصفه الفيلسوف الايطالي غرامشي) حيث تتكاثر المعتقدات السياسية الغريبة المفاجِئة على منصة تويتر كتكاثر الهويات الجنسية على منصة تمبلر . ومهما كانت إحتمالية سَير مجتمعاتنا على خطى رؤية فاي المستقبليّة-القدمية ( يُفترَضُ أنها بعيدة الاحتمال) ففي الحالتين، من المستبعَد أن نعود الى عالَم الماضي القريب .

 

نظام العالم الذي أنشأته السيطرة الأمريكية ما بعد الحرب قد ولّى إلى غير رجعة و كُتُب السيرة الذاتية للسياسيين الوسطيين الأمريكيين التي تهيمن على رفوف مكتبة غوف، تُمثِّل عالَمًا بنفس درجة الضياع و عدم القابلية للإسترجاع الموجودة في سِيَر سُلالات المَلَكيّة المطلقة لأوروبا كما يمكن ان تبدو قبل قرن من الزمن .

 

إذا قَبِلْنا أن ايديولوجيا الليبرالية قد استنفذت قواها، مُهَشَّمَةً بإستجابتها الضعيفة لأحداث الواقع -كما قبل بذلك مفكروا ما بعد-الليبرالية و مفكرون من أقصى اليسار و أقصى اليمين أيضاً- إذن يجب علينا القبول بظهور أيديولوجية لاحِقَة معيَّنة ستحِلُّ محل الليبرالية في آخر الأمر . أياً كانت هذه الأيديولوجية -من المرجح أنها موجودة بالفعل- ستكون مشابِهَةً للشيوعية قبل قرن من الزمن بكونها فكرةً مغمورةً هامِشيّة تنتظر حلول الأزمة حتى تُرسي قواعد وجودها فيها.

 

في الولايات المتحدة، حيث تنتشر النقاشات بخصوص محاسن فكر التكاملية الكاثوليكية Catholic Integralism إذ تحتدم بين التيار المحافظ، رغمَ الامكانية الضئيلة لإعادة ترتيب الدولة الأمريكية على هذا النحو . كذلك في بريطانيا و القارة الأوروبية أيضا حيث الناس يُذبَحون من قبل معتنقي السلفية الجهادية و هذا تحدٍ راديكالي آخر للأيدلوجيا الليبرالية التي تطرح نفسها كأيديولوجيا ناجحة .

 

إن عِماد الفكر السياسي هي المحاسِن و التحديات التي تطرحها أيديولوجيات هامشية كالمذكورة سلفاً، و ليست المخاوف البائسة الناتجة من المنافسة الحزبية، بل إنها مؤشرٌ يدعو للإطمئنان و ليس مثاراً للقلق كما يلاحظها نوابنا المنتخَبون .

 

الذين حلّلوا بصوتهم العالي صورةَ رفوف مكتبة غوف على تويتر، بعضهم قد أفنى سنوات من حياته يُطَبِّلُ للنجاح السياسي الذي حققه أتباعُ أيديولوجية دموية هامشية في القرن العشرين، نفس الأيديولوجية التي تم نبذها إلى حطام التأريخ . دار نشر فيرسو Verso ذات التوجه اليساري المتطرف -أقرب ما تكون لليسار منه الى الفكر الوَسَطي كقُرْب فاي لليمين، لكن أكثر قبولاً إجتماعياً- قامت في السنوات الأخيرة بنشر كل أنواع المنشورات و البيانات الغريبة و غير المحببة في السنوات السابقة، من مطالبتهم بهدم مؤسسة الأسرة إلى كتابٍ يؤكدون فيه إمكانية العيش في عالم لانهائيِّ النموِ و الاستهلاك من خلال التنقيب في الكويكبات .

 

إن كِلا الفكرتين عبثية لكن بينما نحن ممتنون للإنتخابات الأخيرة التي شهدت إقصاء دعاتها بشكل تام عن السلطة السياسية، بيد أن الكتابين ينبغي ألّا يُمنَعَا من النشر و إنما التمحيص في جودةِ كلٍ منهما و من ثم السخرية منه. مع ذلك، فإن وجود أعمال غريبة الأطوار كهذه ، يُعدُّ بشكلٍ عام أمرًا إيجابي لكونه يُظهِر الناس يعطون اعتباراً جدياً فيما يمكن أن يحلَّ محل الإطار الفكري و السياسي المتهالك حولنا .

ينبغي لنا أن نكون راضين عن إطلاع ممثلينا السياسيين على أفكارٍ غير عادية، ليس بالضرورة لأنهم يُصَدِّقون بها و إنما لأنها تمثل الإهتياجَ الثقافي و السياسي في مطلع القرن الواحد و العشرين حيث أن الفكرة القائلة بعدم وجود بديل للإجماع النيوليبرالي Neoliberal قد إندثرت منذ وقت بعيد، بينما العديد من البدائل ( إن وُجِدَت) تُمثِّل مستقبَلاً على نفس الدرجة من الخطورة و الإثارة .

 

فبالإضافة للإطلاع على كتابات فاي، ينبغي ل غوف و بقية السياسيين البريطانيين ان يتَحَرَّوا عن طيف واسع من المفكرين الراديكاليين من اليسار و اليمين، من الكتب ما بعد الفوضوية لموراي بوكتشين Murray Bookchin إلى النقد الثقافي الماركسي المتفرد لمارك فيشر Mark Fisher، النقد الكاثوليكي للديمقراطية الليبرالية للكاتبين باتريك دينيين و ريشارد ليغوتكو Patrick Deneen and Ryszard Legutko، رفض الحداثة المكتوب كخيال من قبل مايكل هوليبيك وباول كينغسوورثMichel Houellebecq and Paul Kingsnorth و غيرها من أيّ إستجابةٍ منتشرةٍ حالياً -لما نسميه أزمة القرن الواحد و العشرين- في السوق الحر للأفكار .

ففي النهاية وكما دَوَّن فاي بكياسَةٍ في كتابه المستقبليّة-القدمية Archaeofuturism: ” إن الحداثة تنتمي إلى ماضٍ قد إنتهى بالفعل” .

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s