يوليوس: أسد واحد أم عصبة ضباع؟ حكاية عن السلطة والتفرد.


ربما لم يعرف التاريخ قائدًا عسكريًا وحاكمًا فذًا مثل يوليوس قيصر. إمبراطور روما الأول، فاتح بلاد الغال، والقائد العسكري والسياسي الذي لم يذكر التاريخ مثله ولم تحمل الأرحام سواه. يكفي يوليوس عظيم الشأن أن سُمي شهر “يوليو” باسمه وهو أيضًا الشهر الذي ولد فيه، ولاحقًا سوف يُسمى شهر “أغسطس” على اسم أغسطس الإمبراطور، ابنه بالتبني والذي كان ابنًا في الأصل لأحد أشقائه. فأي رفعة شأن وعظيم مجدٍ نالهم كل من يوليوس وعائلته!
أفترض أنك سمعت باسم يوليوس قيصر عديد المرات في حياتك، أو قد قرأت اسمه في منهاج دراسي أو كتاب كنت تطالعه أو رواية على غرار رواية شكسبير التي حملت اسم يوليوس قيصر. لكن ما لم يخبرك أحدٌ به [ودعني أخمن أنه لن يفعل أحدٌ ذلك]، هو أن يوليوس كان ديكتاتورًا. على الأرجح سوف يصدمك هذا الخبر لأنك لم تسمع به من قبل ولم تتخيله من الأساس. فأي ديكتاتور هذا الذي يُسمى شهرًا في التقويم العالمي على اسمه؟ وأي ديكتاتور هذا الذي يُعد مثالًا يُحتذى به في شتى المجالات التي منها ما ذكرناه وما لم نذكره أكثر؟ بل أن قيصر لم يجعل نفسه ديكتاتورًا من خلال أفعال أو سياسات معينة على غرار الأنماط الديكتاتورية المعاصرة والتي نعرفها، وذهب بدلًا من ذلك إلى إعلان نفسه ديكتاتور (حاكم مطلق) في بيان قرأه أمام أنظار مجلس الشيوخ الروماني. لكن قيصر اختار مدةً محدودة لديكتاتوريته وكان أمدها عشر سنوات، وعلى أي حال فلم يكمل قيصر تلك السنوات العشر لأنه أُغتيل في مجلس الشيوخ على يد مجموعة من السيناتورات الرومان الذين كانوا يرون فيه تهديدًا للديمقراطية وللجمهورية الرومانية التي سوف تتحول بعد فترة وجيزة من اغتيال قيصر إلى إمبراطورية تُسقى بدماء قيصر ومجده.

تمثال رخامي ليوليوس قيصر. إيطاليا.

ربما الآن سوف تقول أن المصير الذي لاقاه قيصر لم يصدمك، فهو إمبراطور أو حاكم ديكتاتوري تم اغتياله حاله حال أقرانه من الديكتاتورات الذين سمعنا عنهم أو شاهدناهم يُقتلون أو يلقون حتفهم بطرق بشعة جزاء لما ارتكبوه من فظائع. لكن الأمر ليس كذلك، فقيصر ليس أي ديكتاتور، وهذا هو بالتحديد سبب عدم علمك بأنه كذلك. لأنك لو علمت بأن قيصر كذلك، من خلال المناهج الدراسية مثلًا، أو من خلال الكتب المطبوعة تحت رقابة الحكومات الحديثة، فسوف تتلاشى الفكرة النمطية المعاصرة عن “الديكتاتور”، وسوف تهبط أسهم الديمقراطية بالنتيجة وربما تعلن إفلاسها. الديمقراطية نفسها التي اغتالت قيصر! نعم، ودعني أكررها.. الديمقراطية هي التي اغتالت قيصر رغم صلاحه واستقامته كحاكم لجمهورية روما.
بعد المعارك العسكرية التي وقعت بين قيصر وجيشه من جهة، وبين “بومبي” وجيوشه متحالفًا مع مجلس الشيوخ والنبلاء من جهة أخرى (حيث أن بومبي كان قنصل روما الرسمي)، خرج قيصر منتصرًا على بومبي الذي كان جيشه يفوق جيش قيصر بثلاثة أضعاف، وذلك في معركة شهيرة وقعت بينهم في اليونان تُعرف باسم (معركة فرسالوس). عندما عاد قيصر إلى روما وشرع بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية وتشييد الصروح والبنى التحتية، عاد معه السيناتورات أيضًا ليمارسوا أعمالهم وواجباتهم في مجلس الشيوخ، كان قيصر قد عفى عنهم لوقوفهم مع بومبي ضده في الحرب، لكن ذلك لم يكن بالمجان. بإزاء ذلك، سوف يوافق مجلس الشيوخ على إعلان قيصر نفسه (حاكمًا مطلقًا) لروما لمدة عشر سنوات، ذلك ليتمكن من القيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية وتشريع القوانين خلال تلك المدة. فالمدة التي كانت متاحة للقنصل (أعلى منصب في الجمهورية الرومانية) هي سنة واحدة، يتم انتخاب قنصل، يصادق عليه مجلس الشيوخ، ويُستبدل بعد سنة واحدة، وهكذا..
لكن هذا لم يكن يكفي قيصر للقيام بإصلاحاته وخططه لتطوير الجمهورية. وبلغة معاصرة، فقد طلب قيصر أن يتم تمديد فترة حكمه لعشر دورات انتخابية بحسب النظام الروماني آنذاك. وافق المجلس على طلب قيصر [لينقذوا رقابهم بلا شك]، لكن السؤال هنا: أما كان يمكن لقيصر أن يقتلع رؤوسهم أو ينفيهم ويفعل ما يحلو له؟ بالطبع يمكنه ذلك. لكنه لم يكن ديكتاتورًا عبثيًا، ولم يكن طاغية مثل نيرون أو كاليغولا. كل ما في الأمر أنه طلب حكمًا مطلقًا لمدة عشر سنوات وبخلاف النظام السائد ذي السنة الواحدة آنذاك، ليتسنى له القيام بما كان يراه مناسبًا لتقوية نفوذ الجمهورية وتطويرها داخليًا. لم يُنقل عن قيصر إنه كان سفاحًا أو طاغية، وذلك ما يعزز نبالة مقصده في طلب الحكم المطلق. لكن خيوط المؤامرة بدأت تُحاك على قيصر منذ إعلانه حكمه المطلق، ومن داخل مجلس الشيوخ تم إعداد الطبخة، وتم اغتيال قيصر في قاعة المجلس نفسه. فهل كان أعضاء المجلس الذين تكالبوا على قيصر يحملون هم الجمهورية ويقصدون إصلاحها؟ أم أن مصالحهم كانت على المحك؟ الجواب هو الأخير بالطبع، فبعد أن كان أعضاء المجلس يعينون من يريدون قنصلا، ويتحكمون به وبالإعانات العسكرية، ويصادقون على شراء شحنات الحبوب وما إلى ذلك من الشؤون الإدارية، فقد رفع قيصر أيديهم عن كل ذلك. فلا غنائم حرب يحصلون عليها ولا نصيب من الصفقات ولا نفوذ يفوق القنصل. وهكذا فليس من المدهش أن يستشري الفساد اليوم في الديمقراطيات التي تحكم شتى بلدان العالم، طالما أن النفوذ بيد مجموعة نخبوية تراعي مصالحها ولا تأبه بالبلد.
في نهاية المطاف، تم اغتيال يوليوس قيصر في قاعة مجلس الشيوخ، نفسهم الشيوخ الذين عفى عنهم قيصر، تآمروا عليه واغتالوه بدافع نصرة الديمقراطية وإسقاط الديكتاتور. فها هو بروتوس (أحد أعضاء المجلس المتآمرين وأقربهم إلى قيصر)، يقول: “لقد قتلت قيصر ليس لقلَة حبي له، بل لأني أحب روما أكثر”. (روما) كانت تعني لبروتوس المصالح، النفوذ، الأموال، الجاه والترف والبذخ. وقيصر كان نقيض كل ذلك وسبب تضائله، فلا عجب إذن أن يقول بروتوس ذلك، لكن السر يكمن في معرفة مرجعية بروتوس التي ينطلق منها لحب روما الذي يجعله يقتل قيصر الذي يحبه أيضًا. وهكذا فعل المجلس فعلته، وأعقب ذلك أعمال شغب واستياء شعبي غضبًا من اغتيال قيصر، ثم تفاقمت الفوضى ليتمخض عنها حربًا أهلية دارت رحاها لما يقرب من عامين. إذن فقد كان بروتوس محقًا في مقولته، لكن من وجهة نظره هو ومن معه بالتأكيد، فالنظام الديمقراطي الذي كان قائمًا قبل قيصر كان يمدهم بالثروة والنفوذ غير المنقطعين، وبمجيئ قيصر انقطع عنهم ذلك وتم تقويض سلطاتهم.
يقول نيكولاس غوميز دافيلا: “كلما ازدادت جدية مشاكلها، ازداد عدد الرجال غير الأكفاء الذين تناديهم الديمقراطية لإصلاحها”. وهذه الشذرة هي تجسيد صارخ لما ارتكبه أعضاء مجلس الشيوخ الروماني. فبدل أن يفسحوا المجال ليوليوس قيصر ويتركوه ليهتم بشؤون الجمهورية، فقد ارتكبت أيديهم جريمة سوف تحول الجمهورية الرومانية إلى إمبراطورية سبقتها حربًا أهلية طاحنة بسبب اغتيال قيصر. كان الإمبراطور الأول بعد قيصر هو أغسطس، وهو أبن شقيق قيصر وابنه بالتبني، وقد استتب له الحكم بعد أن اقتص ممن اغتالوا قيصر. والعبرة من هذه القصة هي أنه إذا كان هناك ديكتاتور واحد، فيوجد في المقابل شياطين ديمقراطيين. وليس بالضرورة أن يكون الديكتاتور طاغية، فهذه الصورة النمطية العصرية التي تصور كل ديكتاتور بأنه فاحش وسفاح وطاغية هي من تصوير الديمقراطية والمستفيدين من قيامها. ينبغي التذكير بأنني لا أقول أن كل ديكتاتور هو قيصر، ولا العكس أيضًا، ولكن ألا تلاحظ بأن الديكتاتور يصبح شريرًا فقط حين تتضارب مصالحه مع مصالح الديمقراطيين؟ ألم تلاحظ مثلًا أن كيم جونغ إيل، رئيس كوريا الشمالية، كان يشكل تهديدًا على الأمن القومي للولايات المتحدة أكثر من صدام حسين في عام 2003؟ ألم تقارن يومًا بين عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وحسني مبارك لتعرف أيهما كان طاغية وسفاحا؟
في عهد يوليوس، كان النظام السائد هو أن يحكم القنصل لمدة عام واحد، أما الآن فالنظام السائد هو أن يحكم الرئيس أربعة أعوام. في عهد يوليوس، كانت مطالبته بالاستمرار لعشر أعوام في الحكم تضعه في خانة الديكتاتورية، أما اليوم فيحق لأي رئيس أن يتم العشرة أعوام بقضائه دورتين انتخابيتين على سدة الحكم. وهكذا نعرف أن المعايير التي تصنف الديكتاتور مختلفة باختلاف الدهور، وأن الطاغية شيء والديكتاتور شيء آخر. ولكن كما قلنا فإن هذا لم ولن يمر عليك لأنه يتعارض مع المصالح الديمقراطية. ألا تلاحظ تكرار وصف “الطاغية”؟ أعتقد بأن المفاهيم وضحت لديك الآن، وأنك بتَّ تعلم بأن الطاغية هو نقيض الديمقراطية الأكبر، وليس الديكتاتور، وأن الديكتاتور هو مجرد حاكم لن يقوم بتسليم السلطة إلى حين وفاته، ولكن ما الضير أن يبقى الديكتاتور حاكما إذا كان صالحًا ببساطة؟ ديكتاتورًا صالحًا؟ ما هذا الهراء؟ [ربما يمكنني تخيل سماعك وأن تقولها]. لكن سواء أعجبك هذا أم لم يعجبك، فهناك ديكتاتورات صالحين. تبحث عن أمثلة؟ يبدو أنك نسيت يوليوس قيصر! يارجل.. دعنا نتكلم في الحاضر، حكام الخليج أمامك كلهم يعدون ديكتاتورات حسب المفاهيم المعاصرة، هل ثارت عليهم شعوبهم؟ أم هل سمعت أحدًا ينادي بإسقاطهم، أو هل لا تتمنى أنت بأن تصبح أو لو كنت ولدت خليجيًا لتنعم تحت حكمهم؟

في النهاية أود أن أنصح بقراءة كتاب “الديمقراطية، الإله الذي فشل” للمؤلف هانز هيرمان هوبه. والكتاب مترجم ومتوفر بصيغتيه الورقية والإلكترونية، وقد بذل المؤلف جهدًا حثيثًا عليه ليثبت أن الديمقراطية هي أسوأ نظام يمكن أن يحكمك، لأن شياطينها كثيرين، وطواغيتها الذين يختبئون خلف الستائر هم أخطر أنواع الطواغيت. وإذا كان الديكتاتور أو السفاح الفاسد يمكن استبداله بقطرة سم أو طعنة خنجر أو رصاصة صغيرة، فإن في الديمقراطية حلقات من هؤلاء لا يمكن إسقاطها ولا الإحاطة بها لتقويضها أو القضاء عليها.\

لا تنسَ: الدكتاتور واحد، وفي الديمقراطية شياطين.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s