ترجمة : أحمد رضا
لطالما حيّرني السبب الذي يجعل العلماء، من بين كل الناس، الفئة الأشد تحمساً في تأييد المساواة وإنكار فروق الأعراق.
تنتشر هذه الظاهرة بين متخصصي العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل أكبر، رغم أن كثيراً منا قد يكون لديه رأي آخر في إدراج تلك التخصصات تحت مصطلح «علوم». إلا أن ذلك صحيح حتى في العلوم البحتة، حيث نجد الإنكار المذهل للأسس البيولوجية والوراثية للفروق العرقية والجنسية في الذكاء والسلوك. ورغم كل شيء، فإن المرء إذا تقبّل مبادئ البيولوجيا التطورية ووراثيات الشعوب، وإذا أخذ في اعتباره أن الدماغ مجرد عضو آخر يخضع لقوانين البيولوجيا، فلا يجب أن يكون صعباً أن يستنتج أن كون الشعوب المختلفة تقيم ببيئات مختلفة، وبالتالي تخضع لضغوط تطورية مختلفة لعشرات الآلاف من السنين، يستوجب أن تتطور أدمغتهم بشكلٍ مختلفٍ أيضاً، الأمر الذي يقود إلى اختلافات جينية محددة في الذكاء والسمات السلوكية بما يناسب التكيف الأمثل مع بيئات أسلافهم.
إن التخريب اليهودي للأكاديميا بكل تأكيد مشكلة بارزة لعبت دوراً حاسماً في إنكار فروق الأعراق، وحتى فروق الجنس مؤخراً. ورغم ذلك، فإن اليهود ليسوا منتشرين بكثرة في كليات العلوم البيولوجية كما هم في العلوم الإنسانية. ولو كانت هناك إرادة كافية لدى علماء البيولوجيا غير اليهود، لكان من السهل مجابهة وتحطيم السفسطة الواهية المناهضة لفروق الأعراق التي يتبناها أمثال ستيفين جاي غولد وريتشارد ليوونتن. وبالتالي فإن ذلك يدل على أن هنالك رغبة في القبول بالفلسفة المساواتية من قِبل أغلب علماء البيولوجيا والوراثة البيض، هذا على الرغم من كل ما بين أيديهم من بيانات مخالفة لذلك.
لكي يتسنى لنا أن نفهم ظاهرة إنكار فروق الأعراق والجنس المحيرة هذه، فإنه يتوجب علينا أن نبحث عن حلول في نطاق اللاوعي، أي أن نعرف السبب الذي يجعل أغلبهم يميلون غريزياً إلى إنكار هذه الحقائق الغير سارة.
رغم كل ما تدّعيه فلسفة التنوير، فإن اتخاذ القرارات والتمسك بنظرة كونية محددة يتضمن في المقام الأول دوافع لاواعية بدلاً من إجراء تقييم موضوعي للأدلة. ولذلك فإن البشر لا يختلفون في هذه النقطة الأساسية عن الحيوانات. ففي معظم الحالات، تخدم معرفتنا وجدالاتنا العقلانية بشكل أساسي معتقداتنا الموجودة مسبقاً، والتي بدورها تتشكل من خلال دوافعنا ونزعاتنا اللاواعية، بدلاً من تغييرها أو استبدالها بمعتقدات أخرى جديدة.
لذلك، فمن أجل أن نفهم طبيعة إنكار فروق الأعراق بين العلماء، ينبغي أن نفهم أي نوع من الدوافع اللاوعية تلك التي ترتبط بالرغبة في دراسة العلوم و/أو تولي مهنة أكاديمية ما.
بإمكان نيتشه أن يقدم لنا لمحة عن جذور هذه المشكلة، حيث يذكر أن أولئك الذين يميلون إلى تنظيم ومحاولة فهم ظاهرة طبيعية يجدون صعوبات في أن يكونوا جزءا منها، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالطبيعة البشرية. ويدّعي نيتشه أن اندفاع أولئك الذين يحاولون فهم الظواهر بشكل منهجي يعزى إلى افتقارهم لتلك الفحولة الطبيعية الغريزية في المقام الأول. ينتج عن ذلك إذاً، على الأقل في العصر الحديث، أن أولئك الذين يميلون إلى اختيار التخصصات العلمية يميلون بشكل غريزي أيضاً إلى رفض الهرمية الطبيعية واللامساواة، ورغم تواجد أدلة مهولة وأسباب عقلانية، من المفترض بهم أن يتمسكوا بها، فإنها لا تكون كافية للتأثير عليهم.
يفترض ذلك أن نسبة التستوستيرون منخفضة بين العلماء، وبالأخذ في الاعتبار أن العقلية الليبرالية ترتبط مع دماغٍ أكثر أنوثة، فبإمكان ذلك أن يفسر السبب الذي يجعل معظم العلماء يتمسكون بالليبرالية رغم كل الأدلة المضادة لها، والتي ينبغي لها أن تكون كافية لفضح زيف رؤيتهم الكونية تلك. ومع ذلك، فمازلنا نحتاج المزيد لتفسير هذه الظاهرة. فرغم كل شيء، حتى وقت قريب وفي وقتنا الحالي أيضاً هنالك علماء يستكشفون ويؤيدون بشكل منهجي فروق الأعراق والجنس الفطرية من حيث الذكاء وسمات السلوك أيضاً. فحتى إذا افترضنا انخفاض مستويات التستوستيرون بين الأكاديميين، فإنها لاتزال كافية لكي تسمح بالإثبات الموضوعي للنظام الطبيعي والنظرة الكونية الوراثية.
حتى وقت قريب، كان من الصعب أن يصبح المرء عالماً، وتضمّن قرار مزاولة مهنة علمية ما الاستعداد للتخلي عن العديد من الرفاهيات الدنيوية من أجل التنقيب عن الحقيقة وتفسير أحاجي الكون، بما فيها ما يخص الدماغ البشري. ولذلك كان الأشخاص الذين يختارون مهنة أكاديمية أفراداً متفانين للغاية لا تثنيهم خشونة العيش والصعوبات، وكان محركهم الأساسي إيجاد الحقيقة المجردة. ومثل هذه السمات الشخصية تستلزم كمية لائقة من التستوستيرون في الجسد ودماغ ذكوري بما يكفي.
لقد تغيرت الأمور منذ أصبح التعليم متاحاً للجميع أكثر فأكثر، ومنذ بدأ اعتباره «حقاً» للجميع وعلامة على منزلة عالية. فأصبح المزيد والمزيد من الأشخاص يختارون التخصصات العلمية، ليس بشكل رئيسي لأنهم مهتمون حقاً بفهم الطبيعة البشرية، بل لأن ذلك يعطيهم حساً بالتفوق على أقرانهم الأقل تعليماً ولكي يتباهوا بدرجاتهم الأكاديمية. وسريعاً، في الأكاديميا، طغت أعداد الذين يرون الأمر فرصة للتأكيد على قيمتهم الذاتية على الذين يبحثون عن المعرفة بصدق. أصبح التعليم سهل التحصل، وبوجود كميات وفيرة من التمويل والمنح الدراسية المتاحة، لم يعد يتضمن أن يصبح المرء عالماً أي مشاق.
أدى ذلك، بما لا يمكن تجنبه، إلى تأنيث متوسط دماغ العلماء، وذلك بمصاحبة الغزو الليبرالي للبيئة الأكاديمية. وبتفاقم هذا الاتجاه، تزايدت مشاركة الإناث في كليات العلوم من خلال كوتا التمييز الإيجابي.
إن تفسير نيتشه لعقلية العالِم ملائم في يومنا هذا أكثر مما كان في عصره، رغم أن الاتجاه ذاته كان موجوداً وقتها. فالعالم العادي اليوم كائنٌ حقود، ممتلئ بالحقد تجاه عوام شعبه ، تجاه من يشعر أنه مخول لكي يشعر بالتفوق عليهم لأنه يملك شهادات معينة ولأنه «متعلم». يجلب ذلك معه الرغبة في إنكار المعتقدات والعادات طويلة الأمد لأنها غير عقلانية وغير مدعومة بالحقائق كما يزعمون.
إذاً فانخفاض مستوى التستوستيرون وعقدة النقص والحقد الناجم عنها يؤديان إلى نمو الرغبة في تفكيك المعتقدات، الرؤية الكونية، والعادات لدى عامة الشعب. وحتى وقت قريب، لم يكن هنالك ما يعارض تلك الرغبة، حيث لم تكن هنالك بيانات تؤيد صحة الاعتقادات المشتركة وأهميتها التطورية، والتي تنتقل من ذرية إلى ذرية بشكل غريزي، دون أن يتم التشكيك في صحتها.
في جوهرها، لم تكن محاولة حركة التنوير لرفض التقاليد طويلة الأمد مدفوعة بالوعي المجرد بأنها ليست متفقة مع التفكير العقلاني، بل كانت مدفوعة برغبة غريزية لاواعية لإنكار وتفكيك ما كان عزيزاً على عامة الشعب، وذلك لأن أولئك الذين يحاولون تفكيكها فشلوا هم أنفسهم في أن يشاركوا فيها. إن ادعاء العقلانية والتمسك بالحقائق المجرد هما في واقع الأمر عباءة تستر خلفها محاولة تبرير لاواعية، تنشأ بدورها من كراهية عميقة للتقاليد وللرجل العادي الذي يتمسك بها.
وكما ذكرنا، فحتى وقت قريب، لم تكن هذه الرغبة تؤدي إلى أي تنافر أو نفاق، نظراً للافتقار إلى البيانات التي تؤكد فائدة التمسك بالعادات والانحيازات طويلة الأمد. ورغم ذلك، فخلال العقود الأخيرة، بدأت البيولوجيا في التفسير، وبشكل مرعب للأكاديميات اليسارية، أكدت بشكل عقلاني ما تم اعتباره غير عقلاني من قبل. فعلى سبيل المثال، في يومنا هذا، نعلم أن التقاليد لها فائدة تطورية كبيرة تحمي الفرد والجماعة من اتخاذ قرارات طائشة قد تضر باستمراريتهم. نعلم أن الزواج، العائلة، وتقسيم الأدوار التقليدي ليست أنظمة اعتباطية يتم فرضها على المجتمع لكي تقمع الضعفاء، بل لأن لها فائدة عظيمة مبررة بيولوجياً، وهي أيضاً مناسبة بشكل مثالي لكي تضمن الاستقرار المجتمعي وتضمن أيضاً استمرار المجتمع. نعلم أيضاً أن الأسباب التي تؤدي إلى تباين النجاح بين مختلف الأعراق والإثنيات ليس لأن بعضاً منها يتعرض للقمع التعسفي من قبل الآخرين، بل بسبب التباين في متوسطات مستويات الصفات المعرفية والسلوكية من مجموعة لأخرى، والتي يمكن قياسها بصرامة.
وبطبيعة الحال، لم يظن من شنوا الهجوم على عامة الشعب وحاولوا تفكيك طرق معيشتهم أن مثلهم العليا المعلنة، بعبارة أخرى «العقلانية والدلائل المجردة»، قد ينتهي بها الحال مؤيدة لانحيازات وتقاليد «البؤساء». وهنا تكمن جذور نفاق العالم الليبرالي. فمن يعلنون أن العقلانية هي المثل الأعلى، من يطلقون «مسيرات من أجل العلم» ومن «يحبون العلوم بقوة»، ليسوا في الواقع يبحثون عن الحقيقة، بل يستخدمون العلم من أجل التأنق الأخلاقي، تلك الحاجة النابعة من عقدة النقص لديهم. وهم أكثر من مستعدين للتخلي عن الحقائق المجردة بمجرد أن يُصادف أنها تؤيد التقاليد والانحيازات طويلة الأمد لدى المجتمع.
رغم كل ذلك، ليس العالِم الحقيقي من يحتقر جذوره وعامة شعبه، بل هو من يرعاهم ويؤيدهم بفهمه العميق للطبيعة البشرية. وكل التطورات الأخيرة في العلوم البيولوجية تنذر بالفعل بظهور هذا النوع من العلماء في المستقبل.
لقد اقتربنا من حالة التشبع، حيث لم يعد بالإمكان أن يتواجد التظاهر بالعقلانية والتمسك بالأدلة جنباً إلى جنب مع الرؤية الليبرالية المساواتية. وخلال هذه العملية، سنشهد بالتدريج رحيل هذه الأنواع الحقودة، قليلة التستوستيرون تلك من حقول العلوم، حيث لن تستمر العلوم في عناق غرورهم وأمانيهم في الشعور بالتفوق بعد الآن.
وسيقف اليمين البديل عند تقاطع هذا التحول، ومع بزوغ فجره وانتصاره الأخير في الغرب يبزغ فجر فهمٍ جديدٍ للطبيعة البشرية لم يشبهه مثيل في التاريخ.
في البداية، كانت العادات تُتبع غريزياً دون استجواب. وبظهور التنوير، ظهر التحليل العقلاني، وبما أن البيانات لم تكن كافية في ذلك الوقت لكي تؤكد صحة التمسك بتلك العادات، تم رفضها. والآن وقد وصلنا إلى مستوى جديد تماماً من الوجود، حيث عدنا إلى الاعتزاز بتلك العادات والانحيازات، لكن هذه المرة عدنا بالمعرفة والفهم العقلاني لفائدتها. وخلال هذه العملية، فإن كل الأكاديميات الليبرالية المذكورة أعلاه، والذين يرفضون الاعتراف بهذه الحقائق وتغيير رؤيتهم وفقاً لها، سينتهي بهم المطاف إلى مزبلة التاريخ.