
نظرا لتحول شبكات التواصل الاجتماعي إلى منابر ومنتديات للرأي لا يوجد ما يشبهها في الواقع (وخاصة الفيسبوك الذي يسمح بنشر نصوص طويلة وخوض نقاشات متداخلة حولها)، فقد بتنا في حاجة إلى استكشاف أخلاق الحوار الرقمي وكذلك خارطة الآراء والمواقف، سواء كانت دينية أو أخلاقية أو سياسية.
وهو أمر مرهق ومتطلب بلا شك، لأن جيلنا الآن يجابه فيضانا مذهلا من المعلومات وجيوشا مجندة من الخطابات والسرديات المتعارضة، بنحو لم يسبق لأي جيل مضى في مجتمعاتنا العربية.
لا عجب إذن أن يكون خيار أكثر المتعرضين لهذا الطوفان هو اللجوء لأقل الوجهات تكلفة من ناحية إدراكية: أي التشبع التام بالخطاب الذي يستميله أو يداعب مسلّماته الراسخة أصلا، دون أن يتعب قشرته الرمادية بالتمحيص أو التفلية.
لكن هناك خيارا آخر لا يقل راحة لكنه يتذرع ببعض السمو الأخلاقي، ألا وهو ادعاء أن كل الخيارات المتاحة معطوبة، ولهذا لا يمكن القبول بأي منها. وفي القاموس العصري المحدود لأذهان معظم الناس، يسمى هذا الادعاء خطأ بالحياد.
الحياد — يا رعاك الله — له مقامان لا ثالث لهما: فض المخاصمات، والبحث العلمي. فأنت حين تمر بنزاع مع شخص آخر (وليكن شريكا أو زوجة أو رب عمل) تحتاج إلى رأي شخص ثالث لا يمت لأي منكما بصلة، لكنه يعاملكما باحترام متكافئ وينظر في الحجج بمعزل عن قيمة أي منكما في نظره. وكلما كان عنكما أبعد، كانت ثقتكما في إنصافه أكثر. (وهي علاقة محيّرة لو قورنت بالصداقة أو الحب، لكن هذا حال البشر!)
كما أنك حين تبحث في أي باب من أبواب الطبيعة، فمقصدك النهائي يفترض أن يكون التوصل إلى الواقع بغض النظر عن كرامة أو تقدير من سبقك، التي يفترض البعض أنها ينبغي أن تنسحب على آرائهم أيضا.
يقول أبو بكر الرازي: “وأما من لامني وجهّلني في استخراج هذه الشكوك [= الاعتراضات على جالينوس] والكلام فيها، فإني لا أرتفع [= أعتزّ] به ولا أعده فيلسوفا، إذ كان قد نبذ سنّة الفلاسفة وراء ظهره، وتمسك بسنة الرعاع: من تقليد الرؤساء وترك الاعتراض عليهم. فإنه لم تزل سنة المتفلسفين جارية بإعلاء الرؤساء، والتشدد في شدّة المطالبة وترك المساهلة.”
ويقول كارل ساغان “كثيرا ما يحدث في العلم أن يقول العلماء ’أتعلم؟ هذه حجة جيدة حقا، وموقفي كان مخطئا‘ ثم يغيرون رأيهم بعدها حقا ولا تعود تسمع برأيهم السابق. قد لا يحدث ذلك بالكثرة المرجوّة، لأن العلماء بشر والتغيير مؤلم أحيانا. لكن ذلك يحدث كل يوم. لكني لا أذكر آخر مرة حدث فيها ذلك مع السياسة أو الدين.”
لكن هناك مجالات لا يجدر فيها ادعاء الحياد، لأسباب منطقية أولا واجتماعية ثانيا: وذلك كالاقتصاد والسياسة.
فالأشكال التنظيمية المتاحة في الواقع لتنسيق المجتمع البشري معدودة منحصرة، لا يمكن الفرار من أحدها إلا إلى آخر — على اختلاف الأسباب.
والتظاهر بأنك لا تميل إلى أي منها أمر يصعب تصديقه بالنظر إلى واقع الحال، حيث أنك لا تعدو أن تكون راضيا بالظروف التي تعيش فيها، أو ناقما عليها وراغبا عنها، أو ساعيا لتحسينها وإخراج الأفضل فيها. ولا بد لهذه النوازع في داخلك من صورة عقلية مثلى تصاحبها، هي ما يجعلك تحب أو تكره أوضاعك، وترغب في شيء وتنفر عما سواه.
هذه الصورة الشبحية لو سلطت عليها مصباح الذهن، وضوء القريحة، فلعلك تفاجأ بأنها لا تخلو من أحد الأشكال القائمة سلفا، سواء في كتب النظرية السياسية أو بنى الحكم السائدة في العالم.
لا ينتظر منك أحد أن تكون حكما على آراء مفكرين ومدارس كبرى، فأنت — على أغلب الظن — لست مستعدا لذلك من الأساس. وتظاهرك بالارتقاء عن ذلك ليس مما يزينك أو يشرفك. “كل من ادعى بما ليس فيه .. كذبته شواهد الامتحان!”
فأكثر الناس (وليس في ذلك استصغار) مؤهلون لإدارة أمورهم اليومية وشؤونهم الشخصية، ولا يملكون من خزين المعرفة أو بريق الذكاء ما يمكنهم من تصور نماذج لإدارة المدن أو تسيير الأمور.
ولعلك تستغرب من كلامي هذا، فأقول: هوّن عليك، أيستطيع صاحب سوق للخضار أن يدير محطة إسالة للماء؟ هل يتمكن الكهربائي من بناء المنازل؟ إن كانت هذه المهن الأساسية في حياتنا غير قابلة للتبادل لأن كلا منها يتطلب مهارات مختلفة وخبرات متباينة، أنى لنا إذن أن نظن بأنفسنا جميعا القدرة على هندسة الدنيا والفتيا في السياسة؟
لا شك في أن الثقافة طموح مشروع، وللكلام البليغ رنة أخاذة، ولإصغاء الناس إليك وتأمينهم على كلامك لذة خفية في النفوس. ولكن: ليكن لديك رصيد كاف يبرر لك كل ذلك!
اقرأ واسأل، وباحث وتعلم، فكل العلماء يقرأون ويستزيدون حتى آخر نفس. غرفة قراءة روجر سكروتون، الفيلسوف والأخلاقي البريطاني المرموق، كانت قبل وفاته زاخرة بأكداس الكتب القريبة من كرسيه وطاولته.
وقديما سئل ابن حنبل عن حمله المحبرة والقلم إلى مجاليس الحديث بعدما احتفى به الناس وأحاط به التلاميذ، فقال “المحبرة.. إلى المقبرة!”
آية العلم المخلص أن يزيدك تواضعا، وينمي بصيرتك، ويجعلك أصدق مع نفسك والغير. أما ما سوى ذلك فلا يخلو من شائبة في الضمير أو في المحتوى.